يبدو أن العرب قد قطعوا صلتهم بالعصر، بما له وما عليه، واكتفى أصحاب القرار منهم بالتقليد والمحاكاة والتبعية، وصار حالهم بشكل عام لا يسر أحدا، ولو أخذنا مصر كحالة فسوف نجد أن مسؤوليها هم من وصفوها بـ «شبه دولة»، وبعضهم الآخر دائم التحدث عن «الدولة العميقة».
ككيان مواز يعمل بمعزل عن الدولة الرسمية، ودون التزام بالدستور والقانون أو الأخلاق، وآخرون يسمونها «اللهو الخفي»، وهي تسمية تحمل معنى «مافيويا» مغلقا بعيدا عن الأعين، وكان المصريون حتى وقت قريب نسبيا يعملون على تثبيت قواعد دولة حديثة كنقلة تاريخية فارقة في مسيرة العمران السياسي والإنساني، وضرورية، لتجاوز التخلف والانتقال من طور البداوة إلى طور أكثر حضرية، يأخذ بأسباب التقدم في مجالات الحياة كافة.
وفي العقود الأربعة الأخيرة تعرضت تلك الجهود لانتكاسة، وكأن الهدف من الدولة الحديثة قد تحقق، واستنفد أغراضه، ولا يبدو أن هناك من يستطيع التنبؤ بإمكانية عودة تلك الجهود في المستقبل المنظور، فيعود للدولة تماسكها من جديد، وتتوحد وتقوى مرة أخرى، لكن يبدو أن الدولة تواجه مأزقا حل بمصر كما حل بغيرها بعد انتهاء عصر الثنائية القطبية، وتفكك الاتحاد السوفييتي السابق واختفاء كتلة شرق أوروبا، ونجم ذلك المأزق عن تصاعد تنازع سلطات الدولة وتصارعها وتناقضها، وغياب التكامل والتعاون، وذلك نقيض الأساس الذي قام عليه الفكر السياسي المعاصر، وأصبح من الواضح أنه يدمر نفسه بنفسه.
ومن المعروف أن بنيان الدولة الحديثة اعتمد في وجوده وشرعيته على سلطات ثلاث، تنفيذية، تشريعية، قضائية، وكان للسلطة الأولى حق وضع الخطط والإشراف على البرامج وتحديد مجالاتها وتطبيقاتها ومتابعاتها، وتُسند سلطة الرقابة والمحاسبة إلى السلطتين الأخريين، التشريعية والقضائية، فالأولى لسن القوانين وإصدار التشريعات ومراقبة تنفيذها، والثانية تحاسب وتطبق الدستور والقانون على المؤسسات والمواطنين سواء بسواء.
ولكن التغيرات التي فرضتها «العولمة كأعلى مراحل الإمبريالية» أحدثت خلخلة كاملة في بنيان الدولة وشخصيتها، واستحدثت نظم ضبط ورقابة من خارجها، ولم تقنع العولمة برقابة السلطتين المختصتين، وأضافت رقابة ومحاسبة من نوع خاص، بعيدة عن ضوابط الدستور والقانون، ولا تحسب عليه، وأوكلت هذه المهام الحيوية إلى منظمات مدنية، غير حكومية، وجمعيات أهلية، تراقب وتحاسب وهي في حاجة إلى من يراقبها ويحاسبها. وهذا بجانب سلطات استثنائية ممنوحة لرجال الشرطة والأمن، ومعنى ذلك هو استبدال الرقابة النظامية بأخرى لا نظامية، والرقابة الأسلم هي الرقابة والمحاسبة النظامية والقانونية والدستورية، التي تطبق على الجميع، ويتولاها مهنيون وخبراء ومحترفون، أما غير ذلك فيتولاه غير المهنيين وغير المؤهلين، ومن غير ذوي الاختصاص.
والخطورة تكمن في ترك مثل هذه المسؤوليات الخطيرة لهوى جمعيات ومصالح وجماعات أهلية تطوعية وهي في حقيقتها جماعات من الهواة تُمَول من أجهزة وجهات لها طابع أيديولوجي ومصالح مالية واقتصادية وعسكرية وأمنية غالبة، وترى مصلحتها في نشر تنازع السلطات وتصارعها، وقد أصبح ذلك مبررا للتدخل، وخلق الفوضى التي انتشرت في أغلب بلدان الوطن العربي والعالم الإسلامي، أيا كان اسمها، خلاّقة أو هدَّامة أو بين بين، وهذه سمة «الأمركة»، ومن لوازم تتويج القرن الواحد والعشرين كي يبقى قرنا أمريكيا خالصا، متحررا من كل قيد إلا قيد السياسة الأمريكية وضوابط القانون الأمريكي، وكلاهما محرك وحام للمصالح الصهيو غربية، وبدا «قانون الغاب» الأمريكي أساسا للتشريع على المستوى الدولي، ومنه حملت الشرعية الدولية خواصها ومواصفاتها العدوانية المعولمة.
انفلت العيار واستدار الوطن العربي والعالم الإسلامي إلى نفسه يُقاتل بعضه بعضا. وفَهْم هذا الوضع قد يفك شفرة الثورة العالمية المضادة، وكراهيتها وعدائها اللامحدود للتغيير، وإن كان التغيير في حقيقته ابن ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية مُلغَّزة تعم العالم، وهي في الوقت نفسه لم تكن وليدة اللحظة، وما زالت طلاسمها مطمورة ولم تكتشف بعد، وإن بدت شديدة السلاسة والكثافة في تونس ومصر رغم عمرها القصير، الذي لم يزد عن ثمانية عشر يوما في «ميدان التحرير» وميادين الثورة المصرية، ومرت ذكرى انفضاضها السادسة الأسبوع الماضي (11 فبراير/شباط 2011).
والدول لو تركت على هوى جماعات المصالح واتباع المذاهب والطوائف وانطلقوا «على حل شعرهم» كما نقول في مصر، فإنها تفقد مبرر وجودها، وتقوي من شوكة من يعمل على إضعافها وهدمها، ويتجاوز سلطاتها النظامية المتعارف عليها، فتتقلص وتُختزل إلى ما يعرف في الأدبيات السياسية بـ«الحكم الشخصي»، وهو انتكاسة حقيقية تُجهض أي جهد لاستعادة الدولة الحديثة والانطلاق بها نحو الديمقراطية والمساواة والعدالة.
والدولة بذلك المعنى تدار بالمؤسسات، ولا تصادر على حق المواطن في المشاركة وإبداء الرأي والاعتراض ما دام ملتزما بالسلوك السلمي والأساليب الديمقراطية، وبهما تتحدد العلاقة بين الأفراد والجماعات والمؤسسات وسلطات الدولة، ومن المطلوب أن تبقى الدولة محكومة برؤية شاملة، للتوفيق بين المصالح، والتخفيف من حدة التناقضات، ووضع القواعد الملائمة، التي تعلي من المصلحة الوطنية وتُعَظم الحريات دون تعصب أو أنانيات.
وبهذه المناسبة لنعرج على ثورة يناير/كانون الثاني «المشيطنة»، فهناك طمس وتشويه لما حققت، وقد حققت الكثير، ففضلا عن إزاحتها لحكم عائلة مبارك وملحقاتها عن الحكم فقد حررت المواطن من الخوف، وهو موقف ما زال يجد من يراهن على إحيائه، ويرد الاعتبار للفاسدين، والانتقام من أصحاب الرأي، والمطالبين بحق التظاهر السلمي، وكلها معوقات عطلت تحقيق أهداف الثورة في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.
وحققت ثورة يناير/كانون الثاني تحولا كبيرا على صعيد الرأي العام وكشفت مفاسد ولاحقت مفسدين، وعودت الناس على المطالبة المستمرة بالحقوق والاستعداد الدائم للتضحية، ومعنى هذا أن التغيير النفسي الذي لا تشعر به مؤسسات الحكم يتجاوز قدرتها على الاستيعاب والفهم، فأصبحت في واد والشعب في واد آخر، وما زالت على نهجها بأن «الطبلة» تُجَمِّع والعصا تُفَرق، وإذا كان هذا النهج فاعلا، فما هو تفسير ازدحام المحابس والسجون بتلك الأعداد التي شملت كل الفئات والطوائف العُمرية والمهنية؟!
ما زال القلق على مستقبل الدولة قائما، وهناك حرص من المواطن العادي على سلامتها رغم معاول الهدم التي تحملها الثورة المضادة ومعها الطابور الخامس وأباطرة الدولة البوليسية، ومعها خبراؤها الاستراتيجيون، وهذا سر التحمل البطولي في مواجهة مصاعب الحياة، وهو ما قد يخدع حملة معاول الهدم، فيتمادون في التنكيل والتأديب، فتتفجر الأوضاع، بحكم طبيعتهم وعدائهم لأنفسهم قبل أن يكونوا أعداءً لغيرهم، ولم يتعلموا من دروس التاريخ شيئا وسعادتهم البالغة بجهلهم!
وكل ما تعانيه مصر حاليا هو من ذلك الحلف المضاد الذي يحكم مصر وتوحش، أكثر مما كان قبل يناير/كانون الثاني 2011، وأضحى مستفزا مع استفحال غنى وثراء ما يمكن أن نطلق عليهم «أثرياء الثورة» على طريقة أغنياء الحرب، وهم من كانوا يظهرون مع كل حرب، وأساليبهم واحدة لا تتغير، خلق الأزمات المعيشية والتموينية، ورفع الأسعار وإخفاء السلع، ومن بين أهم أثرياء الثورة نجد أغنياء الإعلام والدعاية والتسريبات ومثيري حملات التحريض الرخيصة، وهم أصحاب يد عليا في أجهزة الصحافة والإعلام، مع من يمشون في ركابهم من «مفكرين وخبراء استراتيجيين» تحت الطلب.
٭ كاتب من مصر
محمد عبد الحكم دياب