أوهام المرايا

حجم الخط
9

تبدو سوريا استثناء في خريطة الربيع العربي بعد أفوله. فالنظام السوري نجح في الانتقام لمعمر القذافي والسخرية من سلمية الثورة التونسية والوصول إلى التوريث الذي فشل المستبد المصري في الوصول اليه. فسورية في خرابها هي تلخيص للخراب العربي العام. رئيسها ملك مستبد كملوك النفظ ولكن من دون ثروة نفطية، أرضها سائبة كالأرض العربية التي تحتلها القواعد العسكرية، دمارها يشبه الدمار الليبي ولكن في إطار مؤدلج صنعته لغة الممانعة وتباع أجزاء من أرضها مثلما بيعت تيران وصنافير والى آخره…
كل هذا يجري والسيد الرئيس في موقعه ومكانه. هناك الكثير من الكلام عن مواقف روسية غير راضية عن أدائه أو بقائه، لكن لا شيء ملموسا. الأسد يحلم بالبقاء في السلطة من أجل توريثها إلى ابنه. فالرجل نجح في امتحان الجريمة، فهو لم يتفوق على والده فقط، بل تفوق على جميع أقرانه من المستبدين العرب والأعاجم. فلقد قتل عدداً يتجاوز بمئات المرات العدد الذي قتله والده في حماه عام 1982. وإذا كان مؤسس السلالة الأسدية قد دمّر مدينة سورية واحدة، فالابن دمر كل المدن تقريباً، ولا يزال يتحفز لتدمير دمشق إذا ما شعر بضرورة ذلك.
بالمقاييس التي أرساها حكم الحركة التصحيحية، وضمن تقاليد البعثين العراقي والسوري، فإن طبيب العيون يستحق اليوم لا أن يرث فقط بل أن يورث أيضاً. فتعريف السلطة في علم السياسة البعثي هو التسلط، والقدرة الكلية على تحويل الناس إلى قطيع من الماشية يقاد إلى المسلخ. الدولة، في هذا التراث، هي غنيمة، ويحق للغانم أن يتصرف بالمغنوم كما يشاء، ووفقاً لأهوائه ورغباته.
لا يلام الأسد الصغير إذا تبنى هذه المفاهيم، فالطبيب الذي كان يتابع تخصصه في بريطانيا، نشأ في دولة المرايا، كل شيء كان مرآة للسيد الرئيس الذي ملأت صوره وتماثيله الأمكنة كلها. وحين وصلت إليه السلطة بعد وفاة شقيقه الكبير، لم يجد أمامه سوى صوره وقد التصقت بصور والده وشقيقه. رأى نفسه فجأة كما لم يرها من قبل، ولم يعد قادراً على التمييز بينه وبين صورته، فتماهى بالصورة. بدل أن تكون الصورة انعكاسه، صار هو انعاكسها، ولم يعد أمامه من خيار سوى تقليد الصورة والتحول إلى مرآتها.
عالم المرايا الاستبدادي هو لعبة تحويل الفرد إلى مرآة لصورته، فالسيد الرئيس ابن السيد الرئيس، لم يقم سوى بالعمل الذي فرضه تناسخ صورته أمامه. رأى نفسه رئيساً يفترض به أن يبطش بخصومه، هذا ما توقعه الجميع منه، فذهب إلى الجريمة مبتسماً، ومع تناسل جرائمه، صار مبهوراً بقدراته الهائلة. يقتل من يشاء، ويدوس على الناس كما يشاء، حتى المقربين منه، قتل بعضهم ومثّل ببعضهم الآخر، بحيث صار التخويف هو لغته التي تختبىء خلف لغته. وحين بدأ الوهن يضرب آلته السلطوية أمام ثورة شعبية عارمة، لجأ إلى كل الألاعيب التي تعلمها من والده. استعان بأعدائه الأصوليين الذين أطلقهم من السجون، ثم حين أعيته الحيلة لم يتوقف أمام اعتبارات السيادة الوطنية ولو للحظة، فاستنجد بالميليشيات الايرانية وبالحرس الثوري وحزب الله، وحين شعر أنه لا بد مما ليس منه بد، سلّم البلاد إلى الوصاية العسكرية الروسية، وجلس على شرفة قصره يتفرج على الخراب.
لم يكن الرجل معنياً بدخول التاريخ بصفته أكبر سفاح في تاريخ المنطقة، همه الوحيد كان البقاء في السلطة. ومن أجل هذا الهدف لم يمانع في دخول التاريخ كسفّاح، وعندما دخل إلى هذه المنطقة التاريخية شعر بمتعة شديدة. سوف يروي، إذا روى، أو إذا استوحى كاتب من سيرته حكاية تُروى، أن المتعة الكبرى هي القتل والتدمير. وأن صحبته لهتلر وشارون وتشاوشيسكو وكيم ايل سونغ وهولاكو وتيمورلنك، متعة لا يساويها سوى متعة وجوده رئيساً بصحبة بوتين وترامب وأضرابهما. سوف يتباهى على أقرانه الموتى والأحياء بأنه، ومن دون أن يخطط لذلك، صار علامة بداية الألفية الثالثة. نعم أنا العلامة سوف يقول، لأنه جعل الناس ينسون البلقنة والقبرصة واللبننة، ويتحدثون فقط عن السورنة. سوف يقول للسوريات والسوريين الذين شردهم، أنه جعل الاسم السوري على كل لسان في العالم، وانه أسس لزمن جديد من الهجرات الجماعية سوف يرتبط باسمه إلى الأبد، وانه باق في منصبه حتى لو لم يبق في سوريا أحد.
عندما روت مسرحية الرحابنة «هالة والملك»، ان اللاشيء أكبر من الملك، لم تكن تدري أنها تلامس جوهر العقل الاستبدادي، الذي يسعى إلى فرض الخراب وحكم اللاشيء، اذا كان لا بد من ذلك.
يستطيع الأسد الصغير أن يحلم بالبقاء في السلطة، انه على استعداد أن يطيع أوامر القيصر الروسي أو الولي الايراني، لكنه لم ولن يبدي استعداداً للتنازل أمام الشعب السوري.
الشعب السوري يستحق العقاب، لأنه حين قام بتدمير تماثيل الأب وتمزيق صور الابن، كان يدمر مرايا الرئيس. والرئيس الذي صار مرآة لمرآته شعر بالألم وهو يرى مراياه تتحطم.
لا تستطيع المرآة أن تغفر لمن قام بتكسيرها، فحين يسقط الخوف من صورة السلطة تسقط السلطة أيضاً.
الرئيس الذي شعر بالضياع حين بدأت مراياه تتكسر قرر وبشكل تلقائي نصب مرايا جديدة لذاته. ولم يكن أمامه سوى سفك الدماء. الدماء تصير مرايا السلطة المهددة بالتداعي، هكذا قرر الرئيس وحاشيته، وعندما أعياه سفك الدماء استعان بالآخرين، فجاءت الميليشيات والطائرات وغطت البلاد دماء الضحايا. وعندما صارت سوريا بركاً من الدم ورأى الرئيس صورته منعكسة على المرايا الجديدة الحمراء وجد نفسه من جديد.
عندما انهارت المرايا شعر الرئيس بالضياع، وأحس ان وجوده مهدد بالغياب، ولم يستعد رشده إلا حين ملأ بلاده بمرايا الدم، رأى وجهه الجديد فشعر أنه عاد رئيساً، وبدأ يحلم من جديد بحكم البلاد إلى الأبد.
لكن الرئيــــس المشغــــــوف باستعادة صورته لم ينتـــــبه إلى أن الدم يخبئ أنين أرواح الموتى، وأن العـــــودة إلى ما كــــان مستحيلة، وأن ما يعتقد أنه صورته هو صورة ضحاياه.

أوهام المرايا

الياس خوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    ” الرئيس الذي شعر بالضياع حين بدأت مراياه تتكسر قرر وبشكل تلقائي نصب مرايا جديدة لذاته.” إهـ
    لم ينصب مرايا جديدة يا أستاذ إلياس بل أعاد المرايا لمكانها السابق ! فلقد أعاد تمثال أبوه حافظ إلى دوار النسر بمدخل مدينة حماة في ذكرى المذابح التي قام بها حافظ بسكانها سنة 1982
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول حاتم المصمودي:

    لقد مات نفار شديد في قلوب ابناء الشعب السوري.

  3. يقول Ossama Kulliah أسامة كليَّة سوريا/المانيا:

    توصيف صحيح ومناسب تماما يا أخي الياس، لهذه الشخصية التي دمرت سوريا دون أن يكون لها القدرة على فعل شيء إلا البقاء في السلطة لتسمح بكل هذه الفظائع فهل نصدق ما يحصل! إنها حقبة تاريخية فريدة اجتمع فيها التوحش مع فاشية الأنظمة العربية وداعش وأخواتها والفاشية العالمية بكل أشكالها من شارون إلى بشارون ومن بوتين إلى ترامب! تصور أن لوبين هذه المرأة الفرنسية جاءت إلى لبنان لتعلن دعمها لبشار الاسد السفاح ونظامه الفاشي وكأنما هتلر لم يقتل ما استطاع من الفرنسيين بإجرامه ولم يدمر في باريس ما استطاع من شموخها الحضاري. لا شك أنة برأيي امتحان حضاري كبير لنا قل مثيله في التاريخ. امتحان أقل ما يمكن أن نأمل فيه أن لا نسقط ولن نسقط إن شاء الله طالما أننا بقينا على مدى السنوات الماضية صامدين لوم ولن نتنازل عن حريتنا وكرامتنا وحياتنا الحرة الكريمة رغم شدة وبشاعة المأساة.

  4. يقول د/ طارق الخطيب ـالقوميون العرب:

    عزيزي الياس.. كعادتي وكما تعرفني …..التقي معك حول الكثير الكثير بما يخص قضايا الوطن العربي الكبير ..؛ وأسعد ( غالبا ) بما أقرأه لك معبرا عن مشاعر أبناء أمتنا المغلوبة على امرها …وهنا وفي مقالك أعلاه ( أعود ..؛ ) لأعترض كالعادة على رأي ..لــــن …نتفق حوله ، قناعة بمنطق لا مجال للحوار حوله هنا والآن .؟؟ لقد تطرقت يا عزيزي ( للبعث ..؛ ) والبعثين ، السوري والعراقي .؟؟ ولم أجد من بد هنا الا وأن ( أكرر قناعتي الراسخة حول مفهوم اختلفنا وسنبقى نختلف عليه ..ما لم تقتنع أنت متمعننا بصواب الحقيقة ..؛ أو …أرحل أنا عن الدنيـا وهذا تحسم أمره الأقدار اللآلهية.. صاحبة كل أمر .؟ فأولا يا عزيزي …البعث الذي تتطرق اليه أنت ….لم يعد له من وجود ..؛ وقد انتحـر وانتهى في ايلول 1961 ؛؛؛عندما وقع زبانيته وثيقة العار الأولى ..وثيقة الانفصال .؛؛؛ ثم ولمزيد من الايضاح فان العناصر ( الطائفية ) والتي كانت قد انتسبت للبعث ( طبقا للمشروع الصهيورجعي ) .؛؛ بقيت …نائمـــة …كطبيعة كل مجرم ( معبـــأ ) . استيقظت تلك الآفات النائمة ..وحشرت نفسها تحت عباءة التضليل المحترف كثورية عروبية….وخدعت أحرار الاقليم العربي السوري في ثورتهم لاستعادة شرعية وحدة القطرين العربيين السوري والمصري …و …لغسل عار الانفصال .؛؟؟؟ وأترك لك مراجعة التاريخ لتتذكر ..غدر الأوغاد بتاريخ الأجداد والرفاق ( الأولاد ) .؟؟ وكيف توصلوا ، واوصلوا الوطن والأمة لما يراه العالم معنا اليوم ..وقد أفضت أنت بروعة الكلمة أعلاه واصفا حقيقة يلمسها كل ذو ضمير ؛؛ ثم ياعزيزي ..آتي للبّ الموضوع ؛ وأكرر واشدد على موقفي الراسخ رسوخ ( صنيّن ) في لأعالي ..بأن ما بين ما كان من بعث احتضن الطائفية النصيرية والبعث العراقي …وادي عميق وشاسع لا يحق لمنصف تجاهله ؟ …مخلفات البعث الطافي في دمشق ( دمرت وأنهت وجود وطن عربي كان القلب النابض لأمتنا ألا وهو سورية الذبيحة .؛؛ أما بعث العراق فلا أعتقد أن بامكانك أنت أو أي كان ..من أن يتهمه بالعنصرية او الطائفية والشواهد لديك ولدى العالم ؛؛ وقد ( بنى ) بعث العراق أقوى وأهم صرح علمي حضاري أوشك على قلب موازين القوى في المنطقة. مدركا بأن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة ؛؛ وينهي عارا ننوء تحت شناره لسبعين عاما ؛؛ فهـل علي نشر وثائق أضحت ممهورة بأقلام كل مؤرخ مهما عتى عن الحقد المالوف .؟

    1. يقول Ossama Kulliah أسامة كليَّة سوريا/المانيا:

      لست من الحقبة التي تتحدث عنها يا أخي طارق الخطيب لكنني لم أو لا أستطيع أن أرى فرقا بين إجرام البعث العراقي والسوري!

  5. يقول غادة الشاويش -المنفى:

    استاذي الياس مساء النور لعينيك الصغيرتين اللتين تستطيعان وصف الاشياء التي تقهرنا كبشر مظلومين افضل منا جميعا مساء النور لصورتك الواثقة وقبعتك المتواضعة التي يطل من تحتها وجهك على راس مقال ابحث عنه بكل لهفتي لاني اعلم كم هو منحاز للمظلومين اعلم كم هو لا يحابي احدا اعلم كم انه دقيق لكانه يكتب الحقيقة ابمتناهية في الدقة بتقنية النانو
    *يا ربي ماذا اقول اسمعني يا الياس في جوفي قنابل صامتة لو انفجرت لما استطاعت شظايا قلبي ان تسطر احرفا بهذه البراعة الياس الكتابة صلاة والقدس محراب ونحن خلفك مصلين
    لم ار اروع من وصف قبح نيرون سوريا وكاليغولا القرن الواحد وعشرين اروع من قلمك شكرا لانك صوتنا المقهور شكرا لانك احرف من رصاص مكبوت في مخازن قلوبنا المظلومة تطرز كامهر الرماة صفحة القدس ..سيفنى الطغاة في مزابل التاريخ وستمتليء زقاقه برواءح جثثهم العفنة وحول هذه المزابل الخراب الكبير لكن ثمة من يحملون المعول والمنجل والرايات وعطر الانتصار وينشرونه بعبير اقلامهم ليمحو زنخة دمهم الثقيل كل التحية والحب كل المودة يا معلمي العظيم الياس اياك ان تظن ان قلمك يمل وانه بصيص من نور ضعيف الشمس تملا الدنيا باشعتها القوية يا الياس عندما تشرق من قلب صادق محترق وقلم لا يزيغ عن الصراط المستقيم يا صوتنا وصرختنا ضد الدكتاتوريات التقط الانفاس واتم عليهم غارات القلم وانا سانضم الى هذا القصف الانساني المحق
    قارءتك التي تحبك وتتاثر بك من كل قلبها غادة

  6. يقول علو مصطفى النادي - المغرب:

    لكن ماذا إذا تقابلت مرايا أفراد الشعب مع مرايا أمثال هؤلاء الحكام ؟؟؟؟

  7. يقول سيف كرار ،السودان:

    الاستاذة غادة الشاويش انت ذكرت ان في جوفك قنابل صامتة …هذة الجملة معبرة جداً عن كم انت مشحونة بوحدات مدمرة …اني وي ، ذكرتني جملتك هذة بكلام الرئيس ياسر عرفات حين قال ..اي فلسطينية تحمل قنبلة في بطنها ، اللهم احفظ المراياء،لاحولة ولاقوة الا باللة…

  8. يقول غادة الشاويش -المنفى:

    نعم انا حااااااقدة على كل الذين يقتلون الابرياء في كرتنا الارضية حاااقدة على كل الذين يصادرون كرامة الناس يدوسون على امالهم يعتبرون الاطفال دمى سيليكون لا يهمهم شيء الا انفسهم وطواءفهم وسلامتهم الذاتية ورواتبهم ينامون شبعين ممتلءين وحولهم جيش جياع ينظفون الاجرام ويبتلعون اوساخه ويتقيؤونها كلاما اعلاميا يمجد الدكتاتوريات ..في جوفي ليس قنبلة بل مفاعل نووي لو قلته لك لما دمر مرءاة بل لكان كتشيرنوبل الذي اتمنى ان تبعثه السماء على كل ظالم ومتوحش اريد فقط ان ارى ابتسامة الاطفال وهم يلعبون اريد ان ارى عروسين لم يفترقا بموت او حرب او نزوح اريد ان ارى امهات الشهداء يرقصن في عرس ابناءهن اريد ان ارى حصاد ابتسامات المؤمنين بالانسان في وجه الردى وارواحهم تحلق في السماء وتزدحم وجوههم ان حياتهم وشبابهم لم يذهبا هدرا ليبقى صنم قذر كدكتاتور سوريا وكل الدكتاتوريا ت

إشترك في قائمتنا البريدية