داليدا تستعيد جمهورها القديم

حجم الخط
0

ليزا أزويلس مخرجة الفيلم* وكاتبة نصّه ومنتجته أيضا، كانت لا بد قد توقّعت نوع جمهورها. في الصالة هنا في بيروت كانوا في معظمهم قد تعدّوا الخمسين، بل الستين، وهم بدوا، فيما هم يخرجون من بوابتها، كأنهم أعضاء نادٍ خاص قاموا بعد أن انفضّ اجتماعهم. جمهور السينما الآخر، الشباب، توزعوا على الصالات الأخرى ليشاهدوا الأفلام اللبنانية المتكاثرة هذه الأيام، التي يحاكي أكثرُها أعمارَهم. أفلام الأنيميشن أيضا باتت كثيرة حتى ليمكن اعتبارها، الآن، موضة السينما. داليدا لم تجتذبهم إليها. لا يعرفونها. لم يكونوا قد ولدوا بعد في سنة 1987 حين وضعت بنفسها حدّا لحياتها، ناهيك طبعا عن مراحل مجدها الفني الذي بدأت التهيئة له عام 1955 حين قامت بأول أدوارها السينمائية.
كان ذلك في مصر، حيث أعطيت دورا ثانيا، لكن ليس ثانويا، إلى جانب سامية جمال في فيلم «سيجارة وكاس». رواد الصالة البيروتية هؤلاء الذين حتى هم لم يشاهدوا ذلك الفيلم على الأغلب، أوّل ما كانوا سيتخيّلونه هو لهجتها المصرية في الفيلم المبكّر ذاك، أي حين كانت ما تزال مقيمة في مصر. ربما تساعد في ذلك أغنيتاها اللتان ظهرتا لها في 1987 (سلمى يا سلامة، وبحبك يا بلدي) أيام دعوة يوسف شاهين لها لأداء دور البطولة في فيلمه «اليوم السادس». لكن، في أيّ حال، وهذا ما يجعل المهمة أصعب، هناك لهجات ولغات كثيرة ينبغي تخيّلها جارية على لسان داليدا، فهي غنّت، بحسب غوغل، بعشر لغات بينها، إلى جانب الفرنسية، الإيطالية طبعا، والإنكليزية والألمانية واليابانية والعربية والعبرية… إلخ.
فقط جمهورها ذاك، القديم، كان هنا في الصالة. مرّة أخرى تفاجئ الحواجز بين الأجيال كم هي مرتفعة. لقد بقيت الذائقة هناك حيث شاعت، بين الخمسينيات والثمانينيات. سعي داليدا المحموم إلى مجاراة ما كان يستجدّ، أو يتجدّد في زمنها الفني الطويل، دليل على ذلك. كانت تعرف أن عليها ألا تبقى حيث هي طالما أن جيلا جديدا سيأتي، وها هو أتى، بل إنه ما فتئ يأتي، وأن بلدانا أخرى ستغلب في حرب الذائقات. لهذا كانت رحلتها إلى لاس فيغاس قد تطلّبت الكثير من التحضير والعمل، والتجدّد أيضا. وكان ينبغي لها أن تظلّ محافظة على لياقتها وطاقة جسمها، حيث أنها لم تتوقّف عن إرفاق غنائها بالاستعراض. كان ذلك معذّبا، فقد شاهدنا في الفيلم كيف كانت مهجوسة بالحفاظ على قوامها، ما كان يدفعها إلى التقيّؤ بعد كل وجبة تتناولها.
وأحسب أن جمهور الصالة البيروتية المتعيّن أعلاه لم يأتِ لحضور فيلم عميق التحليل لشخصية داليدا، التي كلما ازددنا بها معرفة ازدادت تأزّما وتعقّدا. ليزا أزويلوس مخرجة الفيلم لم تتعدّ، هي أيضا، ذلك الجانب الاستعراضي التذكيري من حياة داليدا وفنها. الأغنيات لم تتوقّف في الفيلم، ليس أنها رافقت مراحل حياة داليدا بل كانت عنصرا من عناصر جماليّته. وربما فوجئ الجمهور الحاضر، على اختلاف درجة معرفته بالنجمة، أن أغنياتها باقية في الذاكرة، بل كان بعضهم سيشدو مرافقا الأغنيات لو لم يكن ذلك في السينما، حيث ينبغي الصمت، ثم أن من كان منه ضعيف الإلمام باللغة الفرنسية، سيعرف، من ترجمة الأغنيات أسفل الشاشة، كم كانت رائعة كلماتها. ليس في طموحها إلى مقاربة الشعر الحقيقي، لكن أيضا في محاولتها تجديده وتقريبه من الحياة.
ثم أن ذاك الجمهور، هنا في بيروت، أو في القاهرة كما في أي مدينة عربية أخرى، سيبذل انتباها خاصّا للفواصل العربية من حياة داليدا. عيشها في مصر مثلا (جرى تصوير ذلك الجانب من الفيلم في المغرب)، بل كيف كان عيش العائلة، بل العائلات، الإيطالية هناك، وإلى أيّ مدى ما زالت داليدا حاملة لإرث ذلك الزمن. كان الفيلم عادلا هنا، بل إن دعوة يوسف شاهين لها للقيام ببطولة فيلمه جرى التقديم لها كأنها عتبة أخرى من عتبات النجاح كان عليها أن تقطعها. وكان ذلك في 1986، قبل سنة من انتحارها وهي في أوج نجاحها.
كثيرون من النقاد في فرنسا وسواها رأوا أن الفيلم لم يذهب إلى ما يتعدّى السطح، وأنه من صنف البيوغرافيا التقليدية التي تقسم الحياة إلى مراحل متتابعة. وحسبهم لم يجر التركيز إلا على جانبين من حياة داليدا، هما فنها وعشاقها (وقد قضى ثلاثة منهم انتحارا). «كل تلك الحياة المأساوية بقيت تحت السطح» كتب أحدهم مذكّرا بقوّة داليدا الهائلة التي يقابلها ضعف وهشاشة ظلا ملازمين لها حتى في أكثر أيامها تألّقا.
كان يمكن أن توحي حياة داليدا بالكثير لصانعي السينما، كما للروائيين وكتبة البيوغرافيا. كان يمكن مثلا أن تكون علاقتها بأبيها الذي أُرهقه واستنفده الاعتقال حتى موته واحدا من تلك الأعمال، أو توزعها في العيش بين ثقافات متعارضة، أو وحدتها وهي في وسط الضجيج والأضواء المبهرة، أو أن لا يجري تناول عشاقها عرضا، كما في الفيلم، واحدا يتبع الآخر. ثم كيف يقصر المجد والشهرة عن أن يكونا كافيين وحائلين دون التعاسة واليأس؟
«داليدا» فيلم فرنسي كتابة وإخراج وإنتاج ليزا أزويلوس، أدت بطولته سفيفا ألفيتي، انتهى العمل به في 2017 وجرى تصويره في فرنسا وإيطاليا والمغرب،

٭ روائي لبناني

داليدا تستعيد جمهورها القديم

حسن داوود

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية