ليست المرة الأولى التي تُوقِف فيها مارينا أبراموفيتش جمهورا من المفكرين والفلاسفة والأطباء والمشتغلين في مجالات الفن والحساسين تجاه تجاربها، المرأة المخبولة صدمت المجتمع بأكمله، قبل أن يكتشف المتأملون في حركاتها المجنونة تلك، مفاتيح لمخبوءات النفس البشرية وما تحويه من أسرار مرعبة.
أكثر فيديو أثار دهشة الناس وأيقظ خلايا الوعي فيهم هو ذلك الفيديو الذي وقفت فيه أمام الجمهور ووضعت سكاكين وزجاجات ماء وكبريتا ومسدسا، وأشياء أخرى أمامهم ووقفت صامتة منتظرة ردّات فعلهم، والنتيجة كانت من أكثر الأمور إرعابا لكشف مخبوءات هذه النفس، في البداية لم يهتم أحد بها، ثم بدأت تلفت أنظار البعض، وبين إثارة دهشتهم وفضولهم تجرّأ البعض بسكب الماء على جسدها، ثم مزّق البعض ثيابها، ثم تمادى البعض لخدشها وجرحها وحاول البعض إحراقها، ونكلُوا بها أيما تنكيل حتى بلغ بأحدهم أن حمل المسدس وصوبه نحو رأسها، ولكنّها ظلّت صامتة محافظة على هدوئها، حتّى همّ الشخص بالكبس على الزناد فأنقذها المصورون وبعض الحضور. النتيجة كانت أكثر إدهاشا من أي تجربة أخرى وهي أن الإنسان، سواء كان سويا أو غير سوي، في مجتمعات متطورة أو غير متطورة، بإمكانه أن يتوحشن إن منح فرصة لذلك.
الفيديو الثاني الذي هزّ مشاعر الناس أنجز في جلسة أمام الجمهور يقوم على مواجهة بينها وبين أي شخص بصمت، العيون تتأمل العيون، والصمت يخاطب الصمت، وفي لحظة غير متوقعة يخرج حبيبها القديم ويأخذ مكانه أمامها، فإذا بالصمت يأخذ معنى آخر، إنّه يكتسح الداخل، ويزمجر في كل الأشياء القديمة، والذكريات التي عاشاها معا، ومسار تجاربهما المجنونة التي افتتن بها الرجل ورافقها خلالها على مدى سنوات.
ثلاثون ثانية كانت كافية لعرض شريطٍ حياتيٍّ طويل كان مخزّنا في أعماق الذاكرة بأفراحه وأتراحه، أما الثلاثون الباقية فقد انهمرت دموعا، وشوقا، وحبا لم ينطفئ أبدا.
أمّا الدهشة التي انتابت الجمهور فلا يمكن وصفها، أمام عظمة الصمت وعظمة تأثيره.
عظمة لم نختبرها في ثقافتنا، نحن الذين ننتمي لعادات العويل والبكاء والثرثرة وإخراج أثقال الداخل خلال احتفالاتنا وجنائزنا، بل تكاد ثقافتنا تكون «ثقافة صراخ» بامتياز.
انفصلت مارينا غريبة الأطوار عن حبيبها ذات تجربة فوق سور الصين العظيم، قطعا معا بشكل متعاكس مسافة ألفين وأربعمائة كيلومتر لتنتهي علاقتهما هنا، لأنّ درجة الشغف فيها لم تعد كافية لاستمرارها، وقد لن تستوعب عقولنا الفكرة، لأننا مقيدون إلى أقفال لا تفتح.
قراءتي للفيديو انبعث من تفاصيلها سؤال عميق: «من الرّجل الذي بإمكانه أن يبكيني في دقيقة صمت؟» وفكّرت لو أني استرجعت اللحظات السعيدة مع شريك راحل لن تبلغ جزءا من الثانية، لأني أصبحت مدركة أن اللحظات السّعيدة هي اللحظات الصادقة من عمرنا وهي التي تبكينا حين نفتقدها وتطفو فجأة على سطح الذاكرة. لحظات مارينا أبراموفيتش هي ذلك الخيط الرّفيع بين الانهيار وعمر مبنيّ من الفرح. وقد كان ممكنا أن يكون ذلك الفرح منبثقا من أشخاص آخرين وأماكن مختلفة، ولكنه اجتمع في شخص حبيبها الحقيقي والفعلي، ولم تحتج لبذل أي جهد للبحث عما يذكرها أو يذكره، فقد كانت ملامحه الصامتة أمامه تقول كل شيء وتختصر لحظة لقاء فريدة بعد انفصال فريد من نوعه.
الإنسان في كثير من محطات حياته يقع ضحية لعجزه عن التعبير، تخونه اللغة ويخونه عقله وتخذله عواطفه، لكن هل قرأ نفسه في لحظة غضب أو حنين أو غيرها على الأقل لمدة ستين ثانية؟ أشك أن يكون اللجوء للصمت فكرة تخطر على البال لدى الأغلبية، لكنني خلال حياتي عرفت صمت أمي حين تخمد غضبها وتجمع مكونات حكمتها وشتات أفكارها. وعرفت صمت الطبيعة حين تعيد تأثيث نفسها، وعرفت الفن الصامت حين زرت اليابان، وهذه تجربة أحتاج لكثير من الوقت لسردها لأنها الأكثر إدهاشا فيما عشته.
غير ذلك تعلّمت الكثير من صمت تشارلي شابلن، أشهر الصامتين في العالم، أحببته كثيرا وأنا طفلة، وأشعر بأسف لأن الأجيال الجديدة لا تعرفه، ولا تعرف السينما الصامتة وقدرتها على التوغل في عقولنا وقلوبنا. حين زرت نيويورك أول مرة لم أحضر مجموعة أفلامه كلها، وركضت إلى مسارح برودواي متأثرة بكل ما كانت تكتبه غادة السّمان آنذاك عن رحلاتها خارج الجدران العربية بعقلها وجسدها، وتحديدا عن مسارح العالم التي زارتها.
كنت جد محظوظة بالحصول على تذاكر من السُّوق السوداء لدخول مسرحية موسيقية عن حياة تشارلي تشابلن، يومها أبهرني الطفل ذي الخمس سنوات الذي قفز إلى خشبة المسرح لإنقاذ أمه من سخط الجمهور.
وقف وقفته تلك أمام جمهور شرس، وحانق ببراءة الطفولة وجمالها وصدقها، وقام بما يجب فعله، مُجرّدا تماما من كل خدع الكبار. كانت تلك لحظة حاسمة في حياته، ليعتلي الرّكح بعدها ويلقّن الناس دروسا في الفرح، هو الذي أعطته الحياة دروسا مبكرة في الحزن والفقر والفقدان. وإن استلطفه الناس منذ نعومة أظافره، واستغلّه صناع السينما الأوائل فقد تعلّم سريعا وتفوّق على الجميع في أحلك فترة تاريخية مرت بها المسارح والسينما إبان الحرب العالمية إذْ لعلّه الوحيد الذي أضحك الناس خلالها حين غرق العالم في برك الدماء والدموع ، لكنهم ظلُّوا يبتسمون لتشارلي.
السّير تشارلز سبنسر شابلن، ملك السينما الصامتة، وسيد التعبير الجسدي رحل عنّا في أواخر السبعينيات، ولم ننظر إلى تجربته في بلوغ قلوب الناس بصمته التعبيري. لم نهتم لأننا شعوبا عانت من القمع والحرمان من حرية التّعبير، لكن هل خرج منّا من عبّر بصمته عن كل هذه الدهور المتراكمة من القمع؟ لم نعرف قيمة الصمت نحن الذين قلنا «وداوني بالتي كانت هي الداء» ولم نستعمله سوى خوف، ولم نلجأ إليه إلا كدرع يحمينا من عواقب الكلام. «لسانك حصانك، إن صنته صانك وإن خنته خانك». نتّبع في علاقاتنا أنماطا معينة من الكلام، يشوبها الكثير من الحذر والحيطة، وكأن هذه العلاقات مربوطة بخيط رفيع قد ينقطع بزلة لسان، وربما هذه هي الحقيقة بكل مرارتها.
اليوم حين أتاقطع مع مارينا أبراموفيتش وهي تخرج ما في جوف الإنسان من مخزون هائل من المشاعر المتناقضة، أشعر بالأسف لأنني لم أكتشفها مبكرا، ولأني مثل غيري في العالم العربي الفسيح مضطرة لإعادة إقلاعي في سباق الحياة من مطلع السبعينيات بصمت أكثر.. فقد كانت كثرة الكلام خلال الرّكض من أهم أسباب الخسارة، وكانت محطّات الصمت التي حظيت بها في غير محلّها في الغالب.. متى نحكي ومتى نصمت؟
شخصيا أحتاج لمزيد من التعمق في الموضوع لأعرف الجواب الذي يريحني، فقد بدأت مقالتي بمارينا أبراموفيتش ثم عرّجت على تشارلي تشابلن ظنا مني أني سأحوي أطرافه، لكني بلغت مفترق طرق كبير، وها أنا مشدوهة أمام مئات الكتب في علم النفس والطب والفلسفة كلها تدور حول «الصمت» الشبيه بالبللورة السحرية التي تكشف أعظم أسرار النفس البشرية.
٭ شاعرة وإعلامية من البحرين
بروين حبيب
في العصر الذهبي .. قيل ومن الحب ماقتل ” اما في عصرنا المعاصر الحالي يحق لي ان اقول ” ومن الصمت ماقتل .. لان الصمت جارح للنفس والكلام عبارة عن تنفيس حتى لانصاب بمرض العصر الضغط والسكري .. كما هو الحال مع مقولة ” قل لي ماهي احلامك وامنياتك. اقول لك من أنت .. مفارقات تندرج تحت بند الحياة حلوة والعمر واحد .. والبدائل متوفرة إن اراد المرء الخروج عن الرتابه المملة فالخروج عن المألوف شغف واستمتاع لايضاهيه اي شيئا في الحياة .ملاحظة عندما كنت اشاهد شابلن
كنت اتساءل ماذا لوكان صامت كليا؟ واعني بدون صوت الضحكات والموسيقى التي كانت تصاحب المشاهد لشابلن! هل كنا سنضحك او نبتسم فقط!
ام سنتابعه بصمت !
يقال فى الاثار أن الرسول محمد صلى الله عليه و سلم قال ” العقيدة عشرة أجزاء تسعة منها الصمت “.
احياناً الصمت هو اعظم من اي كلام و اعظم من اي حديث.
في المدينة التي اعيش فيها يوجد مصحّ القديس يورس منذ اكثر من اربعة مائة عام للامراض النفسية والعصبية و مرضى الصرع والمدمنين للكحول والمخدرات. المكان هادئ جميل فيه مطعم ومقهى رياضه ترفيه خياطة حياكة رسم نحت خزف حفلات كله للمرضى،ويوجد غرفتين من الخشب والزجاج وحديقة صغيرة محاطة مسيجة بالشبك وفيها بعض الطيور المتنوعة واكثر شيئ فيها عصافير الحب حوالي ثلاثين عصفور واحياناُ يزيد العدد وينقص و تأتي عصافير جديدة،و كنت كل ما ازور صديق لي في هذا المصح اقف عند هذه العصافير واتأمل شيء جميل جداً، في احدى المرات قبل حوالي تسع سنوات الوقت كان بعد العصر والمغرب و كان الدنيا تمطر مطر خفيف جداَ جداً ذهبت للمصح قلت لنفسي هل العصافير ما زالت موجودة في الخارج ام دخلت للغرف الزجاجية؟اقتربت من المكان كان يوجد عصفور ابيض واحد من نوع طيور الحب على الشبك والباقي جميعهم قد دخلوا الغرف.قلت لنفسي يا الله لماذا هذا العصفور هو في الخارج ؟اقتربت ونظرت اليه جيداً لاحظت منقاره هو اعوج و فيه اعاقة وادركت و فهمت السبب لماذا هو في الخارج لأن بسبب هذا الاعوجاج في المنقار هو لا يستطيع ان يغرّد و يترغل و ان يتواصل ما باقي العصافير،واقسم بالله العظيم ادخلت اصابعي في الشبك اقترب العصفور و وقف على اصابعي وكنت اعرف باقي العصافير تهرب عندما يحاول الانسان ان يلمسها،شعرت بحالةهذا العصافير المسكين حتى شعرت بأن في داخله بركان هو عصفور الحب ولا يستطيع ان يقوم يهذه المهمة.العصفور .
ahmad=Netherlands
التعليقات أحيانا تفوق روعة المقال، شكرا سيد أحمد . صحيح من الصعب كشف الحقيقة بالصمت، لكن الكتابة تفعل.
ندمت ..ندمت يا بروين لانني تاخرت في قراءة مقالك العميق الاكثر من راءع والفريد في مضمونه واسمتعت فعلا بلا محاملة بتعليقات الاخ للاسف الشديد عربي والاخ احمد …
الصمت هو بوح الحقيقة للروح بكنهها وشعر التبتل الذي يعزف على عيون الروح بانامل نغم فريد ! فيفجرها ويفتح اسرارها بلى يا بروين قرات في القرءان ( قال رب اجعل لي اية قال ايتك ان لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا وقرات عن مريم عليها السلام في احزان المخاض العجيب … فاما ترين من البشر احدا فقولي اني نذرت للرحمن صوما فلن اكلم اليوم انسيا … الصمت هو لحظة انعدام التشويش الظاهر والباطن عن الروح هو جنة الابتعاد عن ضجيج الدنيا هو انعتاق الروح في مدى بحر هاديء واندماجها مع صمت امواجه الرقيق هو سفرها بعيدا كعطر منعتق نحو السماء الصمت هو احزان المحراب ودقات الندى على نوافذ الروح وحزن الشمس لحظة الغروب وروعة الفجر اذ يتنفس بلا صوت ليكون اروع الصمت … هو نحن اذا انخلعنا من ضجيج دنيانا واشرقت ارواحنا كشمس فنقرؤها بلا كتابة ونكتبها حبا في عالمنا بلا حرف !
مقالك رائع جدا. فالصمت بكاء بلا آثار تعابير؛ لكنه أبلغ تعبير عن رفض عميق لا يفقهه إلا الاصفياء.إنَّه إحتجاج على مُنكر أو ظلم أو رفض.أمام طاغوت لايفقهه .. بل لعله .. أعجبني جدا تشخيصك لطبيعة مجتمعنا العربي بهذا المقطع” أمّا الدهشة التي انتابت الجمهور فلا يمكن وصفها، أمام عظمة الصمت وعظمة تأثيره. عظمة لم نختبرها في ثقافتنا، نحن الذين ننتمي لعادات العويل والبكاء والثرثرة وإخراج أثقال الداخل خلال احتفالاتنا وجنائزنا، بل تكاد ثقافتنا تكون «ثقافة صراخ» بامتياز” هذا صحيح جدا عِشته كثيراً. وما جاء في مقالك فرائد تحليلية ذات نكهة بلمسات ذكية في التعبير لأنك شاعرة في الكتابة.أتذوق مقالاتك بين الحين والاخر. تحياتي ليراعك.
ليس هوالصمت يادكتورة وسط لهاث الحياة.بل الأفضل من الصمت التأمّل.ففيه راحة عن ماضٍ وتهيأ ممزوج مع حاضروتطلّع إلى مستقبل.التأمّل كالتوبة الصادقة الدموع يغسل الذنوب ليقضي على وخزالماضي بالاستمرارنحوالمستقبل ؛ برضى النفس ورضا الله ربّ الناس.ليس الإنسان وحده به حاجة للتأمل بل حتى الكواكب والنجوم ؛ وإلا ما هوخسوف القمرإلا استراحة قليلة عن الضياء ؛ وكسوف الشمس إلا استراحة قليلة عن النـّور؛ ليكونا مزيد هيولي ؛ لهالتيّ السّماء المنيرة لأهل الأرض.زادك الله بهاءاً على بهاء…وتذكري قول الإمام جعفرالصادق : ( ما من شيء له كيل وميزان إلا الدموع ؛ فإنّ القطرة تطفيء بحاراً من النارفإذا أغرورقت العين بمائها لم يرهق وجهها قترولا ذلة ؛ فإذا فاضت حرّمه الله على النار).وخيرتأمل لعين دامعة بين يديّ الله الوادعة ؛ في جوف الليل الساجيّ..بعيداً عن الرياء اليوميّ ؛ ديكورالعصرالثقيل ؛ ونفاق التباهي البخيل.
تنتابنا الدهشة أمام عظمة الصمت وعظمة تأثيره . لا يمكن أن تتكشف أسرار النفس البشرية وأسرار عوالمها إلاّ بلغة الصمت .
مقال رائع . شكراً أستاذة بروين حبيب
عندما تكون الشفاه صامته .. يكون للقلب مئات اللغات .. – جلال_الدين_الرومي