سيدة من دير الزور

حجم الخط
1

لن يخفي عني شيئا.
تنظر أمي من النافذة المطلة على الحوش المبلط بنظام حديث مُقطّع أملس يعكس أحيانا الشمس حين تسقط على نحو مباغت مائل، ثم تصعد الاشعة المنعكسة نحو الجبل القديم.
منذ ترعرت، حين انتسبت الى الوعي، وذهبت أخمن وأرتب العالم، رأيته من بعيد، الجبل مقاما عليه بيوت صفيح، وأكراد وأسر مهاجرة جاءت من النواحي البعيدة كي تسكن الشام، تركوا قراهم ومزارعهم إلى أماكن وازدحام وشوارع ضيقة، ومن يكن محظوظا يترك (الآن) الجبل نحو حي التضامن وحي فلسطين. الشام المزدحمة!
(ملاحظة: لم يكن هناك بناء بعد على سفح الجبل، كان مقاما عليه مبنى التلفزيون ببرجه العالي يطل على المدينة!)
أنا المقيم في بيت قديم شامي، لا أهجره ولا أقبل بتحويله إلى مكاتب محاماة وطب ومبيع سيارات ومطاعم وألبسة. تبزغ الشمس مبكرا على غير العادة، وفيها نور. ثم تتركنا.
تفتح أمي النافذة ثم تتركنا.
تذهب للبحث عن زوجها الذي ارتحل إلى حياة أخرى. في الطريق تسأل المارة: أين زوجي؟ وهي موسيقى لأنها فارعة الطول تهب الرياح فيهب شعرها.
أوقفها سياح فرنسيون حين كانت تمشي في سوق الحميدية وطلبوا منها صورة للذكرى. امرأة من سوريا. من الشام: لا لست شامية بل من دير الزور.
يحلو لها أن تتوقف نحو الألق الذي يحمله الفرنسيون مليحو المنظر. ثم إطفاء مفاجئ. تنحدر من التلة القديمة وتسمع منها صوتا مجهولا، قرقعة آلة غريبة، الضجيج. تضج حين تمشي. ماهذه الآلة الغريبة التي دج دج دج دج. تسكت وتضع يدها على خدها. تجلس في الغرقة متربعة، تحز رقبتها على أوتار ربابة قيس بن الملوح الذي كانت تظنه زوجها. أين هو هل، رأيتموه، هنا، في هذا المكان، اختفى. كان الوقت لا يسمح بسؤال أين هو هل رأيتموه لأن العالم كان يتحول رويدا رويدا الى قطيع على الرصيف من البيت نحو العمل ثم التفكير السريع كخط برق لا يراه الزمن فمن الذي سيسمعها؟
مصابة بحساسية غريبة، تفكيرها مضطرب ويطير بين الغيوم التي تنتقل وتتشتت وتذبل في الأعالي وتفرقها الرياح. لهذا فإن عقلها غير ثابت ولا يحمل أي معنى منطقيا هو عقل طلاسم- أين زوجي هل رأيتموه. يضحك الجيران: أنتِ دوما تبحثين عنه وهاهو يأتي من بعيد. يقود المطور الحربي وعلى رأسه خوذة حديد سورية من أجل فلسطين. يقترب دج دج دج صوت المطور الذي لا تعرف نوعه ولا مكان صنعه، كبير مكلس مجبس كأنه بيت له دوار وشرفة تطل على الشارع. تحبه ويرف قلبها لمنظره حين يطقطق مبتعدا وزوجها فوقه يميل كي يترك الشارع الى شارع آخر رئيسي نحو بناية العسكر الحكومية.
كانت دمشق واسعة، أيامها. وهنا أتذكر حين ذهبنا نزهة الى الغوطة. أشجار في كل مكان وأسر مع دربكة ورقص في دائرة ‘رقصة ستي’ ‘هيك وهيك هيكيه’ الرقص الشامي المألوف. وقد انضممنا إلى أسر أخرى ورحنا نرقص معهم، وأمي هيك وهيكيه، أي أنها ترقص، فيسرق الرجال من رقصها فنا وخمرا. وهذه الرقصة في الغوطة لم تشغل بالي كثيرا لأنني لم أكن قد ولدتُ بعد، كنت أتنصت إلى العالم. مر أثناءها وقتٌ من الزمن، في تلك اللحظات الغائبة عني، في الشارع الفارغ، مر باص طويل نوع ‘سكانيا فابيس’ بسعة 50 راكبا وكان السائق وحيدا في الباص، يقفز معه حين تمر عجلاته فوق ردم لم يحسب لها منشئو الطريق أي حساب. يتمايل الباص مع السائق المسكين، ويبقى في مخيلتي وهي يمسك بالمقود كي لا يطير من مكانه. مر مسرعا فانتقلت النظرات نحوه وتركت الراقصة التي تدور حول نفسها، شعرها يدور فتبدو للجميع رقبتها الطويلة الناعمة ووجنتها كتراب بادية فيها رص جميل ملون بفرشاة رسم التشكيل.
الملامح يجب أن تمزق الضوء. تقف على عتبة الباب المطل على الحوش، في فكرها أن تنظر نحو الشارع المتسارع الذي يمضي أمامها ولا يتركها لبرهة كي تتذكر من الذي يمر ومن القادم من بعيد، فوق المطور الدراجة النارية احترق قلبها بالعزلة التي هبطت عليها في غرفتها، كانت تريد أن تحييها وتعمرها على شكل البيت الكبير الذي تركته. ساهية متأملة شجر النخيل البعيد، والصوت الخافق لشكل السيرورة في بلدة عدد أناسها يتناقص، عدد الذين يموتون يفوق الذين يولدون. كيف يولد الناس وكيف يموتون؟ ومر من أمامها مسن نحيل يلبس طربوشا أحمر، وجذبت انتباهها الخيوط السود خلف الطربوش وهي تهتز بمشيته البطيئة إنما الواثقة، وقبة القنباز ضيقة وحاجباه كثيفان ويستند بمشيته على عصا بنية اللون تنتهي بيد محشوة باللباد. شمت حين مر من أمامها رائحته من عطر الزهر، هذه رائحة المصلين، في العادة يتعطرون. عند باب الجامع يقف العطار لكن ونظر نحوها الرجل المسن باستحياء، وبدأت تضطرب، فعيناه تكلمتا أسرار قلبه البطيء، ربما فارق السن- أنتَ بمثابة عمي أو جدي أحمد. ودمدم بـ ‘يالله’ وسمعت العصا تطرق الدمدمة على الأرض سوف تتعمق في محياه لأنه لن يمر وقت طويل حتى تسمع نبأ رحيله. هل تعرفين ياجارتنا الرجل المسن الذي كان يمر من أمامك يتعكز على عصاه- مات. على نحو مفاجئ، يأتي الموت وتندبه الأسرة لأربعين يوما. هذه الأفكار عن نهاية الحياة لم تستوطن كثيرا في نفسها، أبعدتها نفحات الهواء المنعش الذي هب من الجانب القريب لكنها لا تدري أين هو الجانب القريب. شعرها أحمر وعيناها بيضاوان. بدا لها أن الإمتداد الذي لا يشبه أي امتداد اعتادته في سني طفولتها ومراهقتها لقد كانت الدنيا خشبا. من الصعب شرح الفكرة بشكل مناسب فهي هائلة، أجدني اتكلم مع نفسي وهو يمر، ومسدت بيدها شعرها وهي ترمقه بنظرات أيضا مجهولة المعنى لا تدري أين مكانها وأين محط أقدامها في النفس السحيقة: جدي أحمد إنتبه أمامك.. هناك.. غصن الشجرة! كي لا يطرقه برأسه مثلما فعل المرة السابقة، فيدمي جبهته ووجهه. حين وصلها خبر إصابته في رأسه، تألمت كأنها هي المصابة. لكن زوجها قال لها، لم يكن جدي أحمد الذي طرق رأسه بغصن الشجرة المتدلية من الجدار الواطئ بل أنا- وانتبهت الى الفرق.
أيامها، والسنوات التي حولها، كان جمال عبد الناصر بصور الأسود والأبيض، وقطعة المنديل الأبيض تظهر من جيب السترة العلوي، يرفع يده ويمد عنقه – يولد حبها في نفسي مرة أخرى حين يأتي ذكره وحين تمر صورته أمام عيني، آية، معلقة أعلى جدار الغرفة، ومائلة كميلان الشمس حين الغياب.
وبمناسبة اسم جمال، كان الناس ينظرون إلى أبعاد خماسية، إلى الفضاء والغيوم، ويحررون الخرافة من الوهم، ويفتحون أيقونة النبي، وينفخون عنها الغبار الذي تراكم لسنوات وسنوات. أين أنت أيها النبي. عذاب أن يبقى الشرق على مهل مطبات تحت عجلات الباص سكانيا فابيس الذي مر بينما كنا نتنزه في الغوطة ونرقص ‘هيك وهيكيه’. كانت امرأة مسنة ملفعة بشال أبيض وجبة، وبنطال تحت الجبة، تهز خصرها وتغني هيك وهيك، بفم من دون أسنان، وبعينين غائرتين، عذاب الزمن المطبوع تراه في وجهها، عمرها كان خمسة وسبعين عاما، منذ فترة مات زوجها. أحمد. وهيك وهيكيه لم تكن بالنسبة لها أغنية بل الحزن على غياب زوجها الذي كان يجب أن تمارضه وتسهر على حاجاته. من ينتظر الموت على سريره بهذا الشكل يحمل العذاب إلى أهله حتى يمسي رحيله راحة: ارتاح من العذاب! لكنه مات فجأة، حين عاد من السوق جلس في أرضه يتحضر كي يفارق الحياة.
عيناه ما كانتا تريدانه مني؟ قالت لها الحاجة المسنة: هو يحب النسوان الصغار في العمر. مر من أمامها كما يمر طير فقد جناحيه لكنه عمي أحمد ولا شأن لي به، ولا تفكير في الحرام بيننا، عظامه وجسده ملح الأرض. خرج من الباب الذي كانت تقف عند عتبته تنتظر وصول زوجها، لا تنتظر بل تراقب الشارع الذي أمامها إنما كانت تتأمل الأشياء البعيدة، الفراغ والسماء حين تكوّن الغيوم وترفعها. يمر طائر أمام عينيها المحدقتين نحو العلى ثم يختفي وراء الجدران الوهمية التي تفصلها عما تحب. وهكذا بعد أن تنتظره ثم لا يأتي، تعود إلى غرفتها ربما شَـغله أمر ما، أو منعه رئيسه من الذهاب الى المبيت في المنزل. يحصل أمر كهذا مرات ومرات. ينقضي وقت عودته- لا يعود فيه. في إحدى المرات قال لها لا تقلقي يا حبيبتي، لن يحدث لي مكروه، وسبب التأخر هو إما العمل، وإما من رئيس الشرطة يأمرنا بعدم النزول إلى البيت.
‘هل!’ قال ذلك الرجل المسن حين مر بالقرب منها، ولم يكمل السؤال. صوته أجش، ثم مضى بعصاه تخطو أمامه واختفى في الشارع. وخمنت ما قصده: هل ستنتظرينه أطول مما انتظرتي؟ تناديها الحاجة: تعالي يا بنتنا على الغداء. لقد تأخر الوقت. ترد عليها، نعم، سوف أحمل طبختي معي. تدخل ومعها صحن ‘مطجن’ و ‘منزلة باتنجان’ يحبها زوجي كثيرا وكل يوم اطبخها له.
تجلس الحاجة في أرض الغرفة وتنظر إلى جسدها- جسد أمي: تتملى الحركة التي تقوم في داخلها، فتقول: والله كان جسمي متل جسمك لما كنت من عمرك، وفخذاي كانا ‘هيك’: تحيط بيديها على هواء ضال واسع فخذاه ممتلئان تصرخان في وجه الزمن الذي غير جسد الحاجة: كانتا واسعتين خصبتين. لكن لم تكن تسمع كلام الحاجة، فهي إلى جانبها وفي الوقت نفسه مع آخرين يشدونها حولهم، وبعض الأحيان تلاحظ الحاجة غيابها فتلكزها باصبعها تقول: وين غايبة؟
كان لي أخت تكبرني،
اسمها ساره.
لكن أمي لا تنصت، مصابة بوهم أن لا يأتي، فالعسكر دوما أو بعضهم على الأقل لا يأتون في يوم من الأيام. لأن الدنيا حرب ومنذ أيام قليلة كانت واقعة ‘بور سعيد’ والهجوم الثلاثي. كان الشاميون يختلجون كلما سمعوا باسم مصر على شفاه أحدهم أو من الراديو، ولم تكن أمي فقط مصابة بشجن ووهم بل كانوا هم أيضا يرفعون رؤوسهم نحو العلى: لعل الله من فوق ينزل المعجزة تلك الأيام كانت غامضة وضباب يملأ الأصقاع وكيف إذن تستطيع أن ترى من بعيد القادم الذي تنتظره؟
كان الشارع الشامي طويلا وعريضا ومرصوفا بحرفة بناء. من الجانبين الأبنية الشاهقة التي تصعد جدرانها ثم تهبط، كأنها سينما أفلام ‘الأزمنة الحديثة’ والناس على الرصيف ينتظرون مرور سيارة واحدة كي يديروا رؤوسهم معها يتابعونها أين تمضي مرت سيارة بيضاء ‘فارة- فولكس فاغن’ تقودها امرأة فاهتز الناس الذين على الرصيف ‘شوف مرا عم تسوء’ كان شعرها القصير يبتعد، وتمضي العجلات الغريبة التي تدور. حين رأيتها ظننتها تسبح أو تطير من دون صوت، كانت تلف في ‘شارع بغداد’ نحو شارع آخر وهناك قبل أن تختفي تظهر في الصورة شجرة كبيرة أنبتها الله لتلك اللحظة كي تدخل وتسكن في الذاكرة. ثم حين مرت عصور وعصور وعدتُ الى نفس المكان أبحث عن الشارع وعن الشجرة، لم تكن هناك شجرة ولم يكن هناك شارع.
شارع لا حدود له لا أستطيع أن أصل إلى نهايته. تطيل أمي النظر وحين يصيبها السأم تعود. هكذا رميتم ابنتكم للعسكري الغريب في الشام؟ أبناء البلدة الأقرباء يخلقون الإشاعة ويقتبسون عن امرأة في أساطيرهم: امرأة وقفت ووقفت تنتظر قدوم بعلها. يركب سفن الفرات عائدا. لكنه لم يأت. غابت الشمس، وهبط الليل، وذهبت مصر ولم يعد.
جدي أحمد يقترب من الباب، ويتنحنح كي تبتعد عنه، وتفسح مسافة لجسده كي يمر جسده النحيل، ثم تنتبه فتسأله: هل أنت ياجدي الذي مررت قبل قليل من هنا؟!
تنظر الحاجة نحوها متسائلة: أنت تتكلمين مع نفسك يا بنتي! لكن ابنتي لا تسمعها، لأن جدي أحمد يكلمها بطريقته قائلا: كم أنت جميلة ووقفتك هنا في هذا المكان تشدني من عنقي ومن أذيالي، تشد روحي كي أتوقف عن الرحيل.
نزف قليلا من الدم. لماذا يخلق الله غصن الشجرة الباسقة منخفضا عند جبهتي حين أمر. لم أره وأنا على بعد خطوات منها. غير أنه تدلى من الفضاء إلى جبهتي وأنا أمشي فخبط رأسي خشب.
قالت الحاجة تواسيه: لقد ذهب وعيك قليلا، وها أنت تعود رويدا رويدا، كنتَ تلغط لغط أهل بابل ولم نفهم عليك شيئا. الدم قليل. استلقى جدي في الشارع تحت الغصن، وحين رأته أمي ركضت نحوه تولول وتبعتها الحاجة وأهل الدار وتجمع الجيران وأهل الزقاق.
لكنه لم يعد إلى وعيه- مات حين خبط رأسه بغصن الشجرة التي أنبتها الله. في شارع.
وهكذا.
الحاجة تبكي بصمت، أمام جثته.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عيسى القنصل:

    شدنى جدا جدا هذا السرد الواعى الجميل ..اليوم شربت حروفك يا صديقى ولم اشعر بغصة ..لعلنى توقفت معك قليلا هنا وهناك حين بدلت مجرى الحديث لكننى عدت سريعا الى مقعدى فى قطار المطالعة وشعرت فى جمال وصفك وسردك … جميل ما كتبت يا صديقى ورائع ما تابعت احداثه انا

إشترك في قائمتنا البريدية