نذر الأزمة المالية العالمية المقبلة

لمح الصحافي الطليعي ديفيد كاي جونستون، الذي قام مؤخراً بنشر تسريبات استثنائية تفكك بعضاً من شيفرة دونالد ترامب في التهرب الضريبي، خلال العقد المنصرم، بأنه «من المحتمل أن يكون ترامب نفسه قد سرب تلك الوثائق لكي يحرف الأنظار عما يقوده من سياسات مالية وسياسية مهولة قد تقود الاقتصاد الكوني برمته إلى كارثة مرعبة في المستقبل القريب».
وهي السياسات التي لخصها المفكر رالف نادر بأنها «سياسات تستند إلى إطلاق العنان للمؤسسات المالية نفسها، التي كانت السبب الجوهري في صناعة الأزمة الاقتصادية العالمية الأخيرة عام 2008»، بإلغاء كل القوانين التنظيمية التي تنظم عملها، وتحد من تهورها في استثمارات خلبية، ومضاربات جنونية في أسواق الأسهم، لا تستند إلى أساس منطقي، وإنما على توقعات حول مستوى أرباح للشركة المضارب بأسهمها، وهو ما قد لا يتحقق في حال إفراط التخمينات، وهو ما يحدث راهناً في الولايات المتحدة، مفصحاً عن نفسه بالتصاعد الصاروخي المطرد لكل أسهم الشركات المالية والعسكرية فيها، بناء على استشرافات محتملة بازدياد أرباحها، جراء سياسات ترامب، خاصة فيما يتعلق بزيادة الإنفاق العسكري بما يعادل 58 مليار دولار أمريكي سنوياً، وإلغاء قانون (دود – فرانك) الذي يشترط على المؤسسات المالية والمصارف الأمريكية الاحتفاظ باحتياطات مالية كبيرة، كدريئة للتحوط من أي هزات مالية محتملة، ومنعها من الدخول في مقامرات استثمارية متهورة قد تبقيها دون سيولة مالية تمكنها من تسيير خدماتها لعملائها، في حال إخفاق تلك المقامرات، أو حدوث أي تراجع اقتصادي عام محتمل سواء في الولايات المتحدة أو عالمياً.
وفي السياق نفسه أشار المفكر نعوم تشومسكي إلى أن الفقاعات الإعلامية التي يقوم بها ترامب هنا وهناك، من قبيل «حظر دخول المسلمين إلى الولايات المتحدة»، ما هي إلا «لاستدرار العواطف الشعبوية المعادية للمهاجرين لدى جماهير الشعب الأمريكي المتضررين الأساسيين من سياسات ترامب نفسه، وإشاحة أنظارهم عن تحويل ترامب للولايات المتحدة كدولة فدرالية إلى شركة يديرها مديرو الشركات الأمريكية العملاقة أنفسهم»، دون مواربة أو مخاتلة عن طريق وكلائهم كما كانوا يفعلون سابقاً في الإدارات الرئاسية السابقة لترامب، وهو ما يبدو جلياً في «تعيين رئيس شركة إكسون موبيل، كبرى شركات النفط الأمريكية وزيراً للخارجية، وتعيين وزير الخزانة من كوادر الصف الأول في مصرف غولدمان ساكس، المتهم الأكبر في تخليق التراجع الاقتصادي العظيم عام 2008»، ويبدو أنه مشروع منهجي لزيادة أرباح تلك الشركات من خلال تعظيم القيمة السوقية لأسهمها بشكل غير حقيقي، ما سيقود إلى كارثة مالية جديدة» بالأيادي نفسها التي صنعتها في 2008، ودون أن يعنيهم ذلك حيث أن، أموال دافعي الضرائب جاهزة لكفالة ودعم تلك المؤسسات المالية، حين تتداعى في خضم الكارثة المالية التي تلوح في الأفق؛ ليتحمل دافعو الضرائب مرة أخرى عبء دفع تكاليف تبخر الفقاعة الاستثمارية الخلبية، التي خلقتها تلك الشركات، كما حدث عام 2008، وأعباء الحفاظ على كينونة تلك المؤسسات المالية من الاندثار إفلاساً، ولكن دون إعادة أموال المستثمرين الأجانب فيها، التي سوف تتبخر كما تبخرت حوالي 500 مليار دولار من احتياطات الدول العربية النفطية جميعها عام 2008، بتضاؤل احتياطياتها النقدية الإجمالية من 1200 مليار دولار عام 2007 إلى أقل من 700 مليار دولار في العام المنصرم، بحسب صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
هناك هوس عربي لدى المستثمرين العرب، بأحجامهم وكياناتهم المختلفة – يتسق مع التوصيف الكلاسيكي لرأس المال بأنه جبان ورعديد، يبحث عما يظنه أكثر الملاذات أماناً لاستثمار مدخراته فيه – ينطوي على استثمار أكداس هائلة من مدخرات الدول والمواطنين العرب في صناديق استثمارية وصناديق تحوط مالي عابرة للقارات، معظمها يتبع بشكل مباشر أو غيره تلك المؤسسات المالية التي من كوادرها يشكل ترامب عديد إدارته، ويعمل بشكل مخاتل لتعزيز سطوتها الكونية؛ وهو ما يحتمل في قابل الأيام تبخراً جديداً كارثياً لما تبقى من مدخرات قليلة لدى الأعراب مشارقة ومغاربة، وهو ما قد يودي بدول بكليتها إلى الهاوية التي لا مخرج منها.
وقد يكون البديل الوحيد عن ذلك الاحتمال الأخير الكالح الذي يلوح في الأفق، هو العودة إلى منهج شيخ الاقتصاديين العرب سمير أمين، بأن الاستثمار الحقيقي هو» الاستثمار الإنتاجي، خاصة الزراعي في حالة الدول النامية، وليس الاستثمارات الفقاعية في رأس المال المالي والمضاربات في الأسهم والسندات»، وأنّ الطريق الأول للخروج من التبعية الاقتصادية للغرب هو بالعمل المجتهد لمواجهة ما تم تخصيصه بشكل ضمني غير معلن من حصة للدول العربية في قسمة العمل الدولية في اتفاقية منظمة التجارة العالمية، ومن قبلها منظمة الغات عام 1947، كونها مصدرة للمواد الخام ومستهلكة للنتاج الصناعي الغربي؛ بقلب تلك المعادلة، وخرق شروط تلك الاتفاقية، كما يفعل الكثير من الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة، وإن اقتضت الضرورة الخروج منها كلياً، والتحول التدريجي لتوجيه دفة الاقتصادات المحلية العربية تجاه إنتاج ما تحتاجه مجتمعاتها، وليس ما تمليه عليها شروط صندوق النقد الدولي، التي رأينا نتائجها الكارثية المفجعة في مصر، خلال الأشهر القليلة المنصرمة، بالشكل نفسه الذي تعمل عليه بصبر وتأن الهند كمثال عياني مشخص، للخروج تدريجياً من تبعيتها الاقتصادية وتأخرها الاقتصادي، ما قادها للطرافة بأن تكون أقل الدول النامية تأثراً بالأزمة الاقتصادية الأخيرة عام 2008. وهو أيضاً ما بدأت الصين العمل به في تحويل هدف تسويق نتاجها الصناعي العملاق في سوقها المحلية العريضة، دون أن يكون هدفها بعد الآن الأسواق الغربية، في خروج عن دورها المرسوم لها في قسمة اتفاقية منظمة التجارة العالمية الظالمة، التي أفصحت عن وجهها القبيح في «استعباد مئات الملايين من عمالها خلال العقود الأربعة الأخيرة لخدمة الشركات الغربية بأجور لا تتجاوز أجزاء من المئة من أجور عمالة الدول الأم لتلك الشركات، سواء كانت في أوروبا أو الولايات المتحدة» بحسب الباحث جون سميث في كتابه الاستثنائي الأخير «الإمبريالية في القرن الواحد والعشرين».
وبشكل تطبيقي واقعي لا بد للمستثمرين العرب، أفراداً كانوا أم مؤسسات وصناديق سيادية، من اتخاذ قرار إرادي شجاع، بالخروج من رهاب رأس المال من المخاطرة في الاستثمار في اقتصاديات جنينية ريعية متعثرة، كتلك العربية المحلية في مشرق الأرض العربية ومغربها، والبدء بقرار استثماري تاريخي وذرائعي مسوغ منطقياً في آن معاً على المستويين الشعبي والرسمي في العمل أولاً وثانياً وثالثاً، لتأمين احتياجات الشعوب العربية الأساسية، خاصة فيما يتعلق بأمنها الغذائي والمائي، والبدء بخطوة أولى في رحلة الألف ميل التي تأخرت طويلاً في تحقيق الاستقلال الاقتصادي عن مستعمري أرض العرب القدماء الجدد، قبل أن يذهب إعصار الأزمة العالمية المقبلة لا محالة بما تبقى من أحلام العرب بالسّتر والحد الأدنى من العيش الكريم.
كاتب سوري

نذر الأزمة المالية العالمية المقبلة

د. مصعب قاسم عزاوي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول مفيد العربي ألمانيا،:

    التوجه نحو الإستثمار المحلي الانتاجي قابل للتطبيق فقط من أصحاب رؤوس الأموال الصغار حتى متوسطي الحجم، أما الكبار وما يدعى من صناديق سيادية، فهذه لها وظيفة سياسية وهي ضريبة يجب على الحاكم العربي دفعها لقاء إستمراره في الحكم، وهو غير قادر على التحكم بها بشكل كامل، والضواري في الغرب المجرم سوف لن يعيدوها مهما كلف الأمر.

إشترك في قائمتنا البريدية