لا حديث في المغرب إلا عن حدث تعيين الدكتور سعد الدين العثماني من طرف الملك محمد السادس مكان الأستاذ عبد الإله بنكيران الذي اصطدم بالعديد من العراقيل والاشتراطات التعجيزية لباقي الأحزاب تعذر معها تشكيل أغلبية حكومية.
وبغض النظر عن الأسباب المتراكمة التي وضعت حدا لاستمرار عبد الإله بنكيران في مهمته، فإن خصوم حزب العدالة والتنمية سيتنفسون الصعداء من تغييب شخصية سياسية طبعت الحياة السياسية المغربية بأسلوب مختلف،ساهم في مصالحة الكثيرين مع السياسة، وساهم في رفع شعبية حزب العدالة والتنمية الذي حقق انتصارات متتالية في الانتخابات البلدية والتشريعية منذ 2011، وتصدر المشهد الحزبي بعد خمس سنوات من رئاسته للحكومة.
الآن، تمر البلاد بمرحلة سياسية دقيقة ومعقدة تستدعي أقصى درجات النضج والحكمة والتبصر، والصبر المتواصل من أجل استكمال مهمة البناء الديمقراطي ومواصلة مشروع الإصلاح في ظل الاستقرار.
لا يتعلق الأمر فقط بالتحديات الداخلية المتمثّلة في ضرورة استكمال جدول الأعمال الديمقراطي لبلادنا والإسراع بتشكيل حكومة سياسية قوية مدعومة بالشرعية الدستورية والديمقراطية ومحترمة للإرادة الشعبية ولكن هناك تحديات إقليمية ودولية تستوجب من كل الفاعلين تغليب المصلحة العليا للوطن والحرص على بناء توافقات قوية قادرة على رفع هذه التحديات، وهو ما يستدعي من مكوّنات المجتمع المغربي الداعمة لخيار الإصلاح في ظل المؤسسات الاستمرار في التفاعل الإيجابي مع التراكمات التي حصلت، وتحصين المكتسبات التي تحققت، والنضال من أجل تقوية هذا المسار من الناحية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والحقوقية، والمساهمة في تعميق الاختيار الديمقراطي سياسيا وثقافيا.
لقد جاء البلاغ الملكي الأخير منسجما مع القراءة الديمقراطية للدستور، وذلك حينما انتصر إلى تعيين شخصية سياسية جديدة من حزب العدالة والتنمية، باعتباره الحزب الذي تصدر نتائج الانتخابات، وهنا تجدر الإشارة إلى أن البلاغ تجنب الحديث عن إعفاء رئيس الحكومة المعين يوم 10 أكتوبر، لأن هذا الأخير سبق له أن أعلن بعد مرور خمسة أشهر عن نهاية المفاوضات…
اليوم، انطلقت مرحلة جديدة مع الدكتور سعد الدين العثماني رئيس الحكومة المكلف بتشكيلها، وهنا لابد من التنويه باحترام الملك محمد السادس للمنهجية الديمقراطية مرة ثانية بتعيين رئيس المجلس الوطني للحزب في احترام تام للتراتبية التنظيمية داخله، وهو ما لا يمكن أن يكون إلا محل تقدير من طرف كل الحريصين على توطيد الاختيار الديمقراطي وصيانة المكتسبات التي حققتها البلاد في هذا المجال والاستمرار في التفعيل الديمقراطي لمقتضيات الدستور ذات الصلة بتشكيل الحكومة من خلال تكليف شخصية ثانية من الحزب المتصدر للانتخابات.
الجميع يتابع المشاورات الجارية ويتمنى لها النجاح مع ضرورة الاستفادة من الأخطاء التي ارتكبتها كافة الأطراف في المرحلة الأولى، وهنا تجدر الإشارة إلى أن المنهجية التي اعتمدها الأستاذ عبد الإله بنكيران طيلة الخمسة أشهر تميزت بالرجوع الدائم والمنتظم للأمانة العامة وللمجلس الوطني، التي كانت ولا زالت تطالب باحترام نتائج الانتخابات وإرادة الناخبين قصد تشكيل حكومة قوية ومنسجمة تواصل الإصلاحات التي قامت بها الحكومة السابقة.
وقد قدم الأستاذ بنكيران جميع التنازلات الممكنة، غير أنها اصطدمت للأسف الشديد برغبة معاكسة لدى البعض الذي لم يتفاعل بشكل إيجابي مع هذه التنازلات.
لقد كان عبد الإله بنكيران في غاية الاعتدال وهو يقوم بمشاوراته الماراتونية مع باقي الأحزاب من أجل تشكيل الحكومة، حيث عمل في احترام تام للمنطق الدستوري وللتكليف الملكي والاختيار الديمقراطي، مع التشديد على ضرورة اعتبار نتائج الانتخابات التي بوأت الحزب الصدارة، كل ذلك في نطاق من الإحساس العالي بالمسؤولية، والمرونة اللازمة، والتنازل من أجل المصلحة الوطنية العليا من أجل تشكيل حكومة قوية ومنسجمة تكون في مستوى تطلعات إرادة الناخبين.
وغني عن الذكر أن الفترة التي تولى خلالها عبد الإله بنكيران رئاسة الحكومة، تميزت بإطلاق العديد من المبادرات الإصلاحية الشجاعة التي لم تتجرأ عليها حكومات أخرى، وعلى رأسها إصلاح صندوق الدعم وتحرير قطاع المحروقات والشروع في إصلاح أنظمة التقاعد، كما تابع المغاربة رئيس حكومة يتحدث معهم باللغة التي يفهمونها، ولايتوقف عن تبسيط الإشكاليات السياسية المعقدة للناس، مع الحرص على ترسيخ مجموعة من القيم الجديدة على عالم السياسة من قبيل قيم التعاون والصدق ونظافة اليد وتقديم للمصلحة الوطنية العليا، ونكران الذات، والزهد عن الإغراءات المختلطة بالعمل السياسي.
والجميع ينتظر اليوم خروج حكومة قوية قادرة على مواصلة الإصلاحات التي بدأتها الحكومة السابقة بقيادة عبد الإله بن كيران..
حزب العدالة والتنمية اتخذ قرارا بالتفاعل الإيجابي مع المعطيات الجديدة، وفوض لأمانته العامة «اتخاذ كافة القرارات اللازمة من أجل مواكبة مشاورات رئيس الحكومة المكلف بتشكيلها في إطار المنهجية التي عبر عنها الحزب والمعطيات التي ستفرزها جولات التفاوض».
٭ كاتب من المغرب
د. عبد العلي حامي الدين