اجتهادات الشيخ الترابي… عَوْدٌ عَليَ بدءِ
الاجتهاد الاجتماعي الاكبر كان مساهمته في تحرير المرأة المسلمة وفق أصول القرآن والسنة والسيرةلا يحيط رأيه بأي قداسة ولا يسميه فتوي… بل هو يعتبر كل فتوي اجتهاداً أو وجهة نظر لها أصولها في المصادراجتهادات الشيخ الترابي… عَوْدٌ عَليَ بدءِ المحبوب عبد السلام منذ عقود ظل الشيخ الترابي يطرح رؤيته في تجديد الفكر الاسلامي وفق اطار كلي أصولي، أتاحته له ثقافته الفقهية الشاملة وتخصصه في القانون الدستوري المقارن وعمله السياسي الناشط في مجالاتها كافة. فهو صاحب رؤية متكاملة في تجديد علم أصول الأحكام أو (أصول الفقه) كما يسميه الدارسون، لم تكن تتيسر له لولا نشأته الخاصة وخبرته الواسعة وخلواته الممتدة في أغوار المحابس والسجون، وهو أمر لم يتجدد في التاريخ الاسلامي منذ الامام الشاطبي (صاحب الموافقات)، اذ قدم أطروحته المتكاملة في الأصول منذ عام 1977 وظل يعبر عنها في جملة مساهماته النظرية والعملية: (قضايا الوحدة والحرية 1980، تجديد أصول الفقه 1981، تجديد الفكر الاسلامي 1982، الأشكال الناظمة لدولة اسلامية معاصرة (قطر 1982)، تجديد الدين 1984، منهجية التشريع 1987 وعلي ذات منهجه الذي يؤصل الشوري سبيلاً للعلم، فقد بسط أطروحته في (تجديد أصول فقه الأحكام) علي جملة من العلماء والمختصين إبان توليه منصب وزير العدل 1979 ـ 1983، وظلت الحلقات تعقد بمكتبه بديوان النائب العام وتدير المداولة والحوار حول المراجعة الشاملة للأصول التي حوتها 80 صفحة خرجت من سجن كوبر بعد سنوات الاطلاع والمدارسة والحوار في الداخل. ومهما تكن تلك الأطروحة ملتزمة مناهج الأصول ومصطلحات الفقه والقانون فان جذورها ممتدة في عبرة سيرة التاريخ الاسلامي وأصول دورة الاحياء والبعث ثم الخمول والموت أو النهضة والفترة، التي توالت علي المسلمين في الفكر والعمل منذ ميلاد الرسالة وحتي اخر أجيال المسلمين، بل وتقارن ذلك الي دورة تاريخ التجديد والبـلـَي في سيرة مشهور الأديان الكتابية السماوية لا سيما عبرة تاريخ اليهود والنصاري علي سنة القرآن الذي يكاثف ذكرها تصويباً لجليل موعظتها. الاجتهاد وحركة البعث المعاصرةفالاجتهاد في الأصول ـ فضلاً عن الفروع ـ هو ما دعي اليه غالب علماء حركة الدعوة والبعث المعاصرة، وصدر عنهم بذلك كثير من المساهمات والأطروحات، وخصصت الأعداد الأولي من مجلة المسلم المعاصر التي استهلت صدورها عام 1980 في الدعوة لهذا الهدف الكبير وجاءت الدعوة بأقلام أكبر الرموز (يوسف القرضاوي، جمال الدين عطية، محيي الدين عطية، أحمد كمال أبو المجد، عبد الحليم أحمد أبو شقة… الخ)، الا أن الدكتور حسن الترابي ظل أكثرهم مقاربة لهذه الدعوة وأوسعهم شمولاً وتأصيلاً لمواضيعها. واذا كان لكل فكرة سياقٌ ومناسبة يخل بها ويضرها أن تبتر عنه أو تجرد منه أو تؤخذ الي سياق اخر، فان الأفكار الأصولية يسيئها ويخل بها مرض التنطع والتفريع والتجزئة الذي أصاب المسلمين ـ كما أصاب اليهود والنصاري ـ، وتعرضت ـ بوجه خاص ـ مساهمات الشيخ الترابي واجتهاداته الكبيرة لكثير من التشويه بأسباب من هذه الأدواء، التي قد تتوهم الخطر الأكبر في الصغائر والفروع لاختلال فقه الأولويات عندها، أو التي تتنطع بدوافع ونيات يشوبها في الغالب خطل عظيم، اذ تخلط المواقف الاجتماعية والسياسية التي تميز بين المفكر الذي يبسط اجتهاده العلمي للمداولة الحرة والرأي المسؤول وبين قائد الحركة السياسية الذي يلتزم مواقف حزبه كما يلتزمها سائر الأعضاء، ولا تلزم اراؤه الفكرية حزبه ولوكان حزباً اسلامياً يوحد السياسة الي سائر شعاب الايمان، بل ان الحرب السياسية قد تدفع بدوائر الاستخبار المغلقة عن سعة حركة الفكر والحوار والاجتهاد الحر لِتـُخَلـِط الأحاديث العلمية ولو مشفوعة بِأسماء منسوبة الي المشيخة والعلم ولكنها مسكونة بالغيرة والحسد وعقد النقص وشهوات الشهرة والرئاسة والجاه. كما محض الغزالي الامام مجلده الأول في الاحياء لأمراض (طبقة) المُفتين والعلماء ـ شفاهم الله. فقد نشر الشيخ الترابي اجتهاده حول عودة المسيح ـ عليه السلام ـ عام 1982 في بحث ـ أصولي كذلك ـ لقي حظاً واسعاً من النشر داخل السودان وخارجه بعنوان (تجديد الدين) قـُدم في المنتدي الفكري بجامعة الخرطوم ونشر في مجلة جماعة الفكر والثقافة الاسلامية وظل ينشر منذ ذلك التاريخ، يقول الترابي: وفي بعض التقاليد الدينية تصور عقدي بأن خط التاريخ الديني بعد عهد التأسيس الأول ينحدر بأمر الدين انحطاطاً مضطرداً لا يرسم نمطاً دورياً، وفي ظل هذا الاعتقاد تتركز آمال الاصلاح أو التجديد نحو حدث معين مرجو في المستقبل يرد أمر الدين الي حالته المثلي من جديد. وهذه عقيدة نشأت عند اليهود واعترت النصاري، وقوامها انتظار المسيح يأتي أو يعود عندما يبلغ الانحطاط ذروته بعهد الدجال قبل أن ينقلب الحال بذلك الظهور، ولعلها تحريف للبشريات التي جاءت في الوحي القديم بمبعث عيسي ثم بمبعث محمد عليهما السلام. المهدي وعودة المسيحوقد انتقلت العقيدة بأثر من دفع الاسرائيليات الي المسلمين، وما يزال جمهور من عامة المسلمين يعولون عليها في تجديد دينهم، وفشوها هو الذي أغري كثيرين من أدعياء المهدية أو العيسوية، وبعضهم تحركه نية صادقة للاصلاح والتجديد لكنه بثقافته التقليدية وبتربية العامة الذين يخاطبهم لا يجد وجهاً لشرعية الخروج علي القديم الا بحجة المهدية النهائية. ولعل تلك العقيدة هي التي ألهت المسلمين عن القيام بعبء الاصلاح وأقعدتهم في كثير من حالات الانحطاط المستفز، مرجئة ينتظرون صاحب الوقت. ومهما يكن فان منطق العقيدة القرآنية حول تاريخ الدين لا يتيح مجالاً بعد النبي الخاتم لانتظار عاقبٍ يستأنف النبوة أو ينسخ من الشريعة السماحة التي تغري أهل الكتاب علي المؤمنين، بل هدي القرآن لخلف المؤمنين ان رأوا تغيراً أحالهم الي فسادٍ وذلٍ أن يردوا ذلك الي تـَغَيـُر ما بأنفسهم فيتوبوا الي الله فيتوب عليهم بالصلاح والعزِ انتهي. واذ يبدو الهم الأصولي الفقهي والاجتماعي التاريخي بيناً في قراءة الشيخ الترابي المتجددة للنصوص وفق السنن والسير في عبرة أهل الكتاب وعبرة المسلمين والتي تجلت عبر مللهم ونحلهم وشققتهم شيعة وسنةً الي اليوم، فان البحث في نزول المسيح أو خروج المهدي حفلت بها المباحث الاسلامية من لدن ابن خلدون (في المهدي أربعين حديثاً كلها ضعيفة ـ المقدمة ) الي أوان دورة التجديد التي حمل لواءها رشيد رضا وأستاذه محمد عبدة: يقول الشيخ رشيد رضا مجلة المنار، المجلد 28، ص 756 : ان الأحاديث الواردة في نزول عيسي عليه السلام كثيرة في الصحيحين والسنن وغيرها وأكثرها واردة في أشراط الساعة وممزوجة بأحاديث الدجال وفي تلك الأشراط لا سيما أحاديث الدجال والمهدي اضطراب واختلاف وتعارض كثير، والظاهر من مجموعها أنه يظهر في اليهود أكبر دجال عُرف تاريخ الأمم فيدعي أنه المسيح الذي ينتظره اليهود فيفتتن به خلق كثير، وفي اخر مدته يظهر المسيح الذي هو عيسي بن مريم ويكون نزوله في المنارة البيضاء شرقي دمشق ويلتقي بالمسيح الدجال بباب (لَد) بفلسطين وهناك يقتل المسيح الصادق المسيح الدجال بعد حروبٍ طويلة تكون بين المسلمين واليهود، فنزول عيسي عقيدة أكثر النصاري وقد حاولوا في كل زمان منذ ظهر الاسلام بثها في المسلمين، وممن حاولوا ذلك بادخالها في التفسير وهب بن منبه الركن الثاني بعد كعب الأحبار في تشويه تفسير القرآن بما بثه من الخرافات. انتهي حديث الشيخ رشيد رضا الذي لا يختلف في قراءته وتأويلاته عن المغازي التي أشار اليها النص السابق للشيخ الترابي. أما الذين يستعظمون نقد كتاب البخاري وكتاب مسلم كأنه الكفر البواح فقد أصابتهم شعبة أخري من شعاب أمراض التنطع والجهل والغفلة وخلط الأولويات ـ فقد دخلت خيل نابليون الأزهر والمسلمون ممسكون بهما ـ تلتبس عليهم علوية القرآن وحفظه وعصمته دون أي كتاب آخر. وأشير في هذا المقام فقط لتيسير الأمر علي الباحثين المجدين الي تعليق الشهيد سيد قطب علي حديث البخاري ومسلم في السحر الذي أصاب النبي (ص)، يقول سيد قطب: وقد وردت روايات بعضها صحيح ولكنه غير متواتر أن لبيد بن الأعصم سحر النبي (ص ) في المدينة قيل أياماً وقيل أشهراً حتي كأنه يخيل اليه أنه يأتي النساء وهو لا يأتيهن وحتي يخيل اليه أنه فعل الشيء وأنه لم يفعله في رواية: ولكن هذه الروايات تخالف أصل العصمة النبوية في الفعل والتبليغ ولا تستقيم مع الاعتقاد بأن كل فعل من أفعاله وكل قول من أقواله سنة وشريعة كما أنها تصطدم بنفي القرآن عن الرسول (ص) أنه مسحور . (في ظلال القرآن، المجلد الأخير ـ تفسير سورة الفلق )، وهو نفس رأي الشيخ محمد عبدة الذي أكد أن مكية المعوذتين تنفي عنهما أي علاقة بالأحاديث الصحيحة التي تربطهما بالسحر المزعوم علي النبي (ص). المرأةان الاجتهاد الاجتماعي الأكبر للدكتور حسن الترابي هو مساهمته الفذة في تحرير المرأة المسلمة وفق أصول القرآن وأصول السنة والسيرة، بعد أن استلبت شعار (التحرير) مناهج الفكر الغربي وأصول فلسفته المادية الاجتماعية، وحاولت مسخ المرأة المسلمة في الأخري الغربية. فالشيخ الترابي الذي أسس بجلاء أطروحته عن المرأة علي أصل التكليف المستقل لكل مؤمن كما هو لكل مؤمنة والمتماثل لكليهما وفق ظرفه وحاجته، بعد أن عُزلت المرأة المسلمة قروناً بأثر طغيان التقاليد علي السنن وألحقت تبعاً للرجل وأهملت عن كل كسب في العلم أو العمل. وقد صدرت النسخة الأولي من كتابه المعروف (المرأة بين تعاليم الدين وتقاليد المجتمع) في عام 1974 بعنوان اخر (رسالة المرأة)، وورد في تلك النسخة بالذات حديث (أبي داؤود) عن أم ورقة التي أذن لها الرسول (ص) في امامة أهل بيتها في الصلاة. وهو ذات الموقف الذي التزمه في كتابه الأخير السياسة والحكم الصادر عن دار الساقي عام 2003 ضمن أطروحة أكثر شمولاً، يقول الترابي في فصل (سلطة الأمارة والتنفيذ والادارة): الشرط الثاني الذي كتبه التاريخ علي الفقه كأنه حكم قاطع خالد هو الذكورة لولاية الأمارة العليا، وقد سبق البيان أن الذكر والأنثي في أصول الدين وتكاليفه سواء، الفضل لمن امن وعمل صالحاً. وأنهما لهما في سياق أسرة الزواج قسمة تكاليف متعادلة كلاً بما فضله الله علي الاخر، وأنهما في اطار السياسة في شركة موالاة أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر أو مصابرة ومهاجرة وجهاداً وأيما ولاية علي أمر عام، ولأن الله فاضل ومايز بينهما لتأدية وظائف زوجيه ووالديه قد يخف التكليف أو يشتد بعد البوح السواء حتي لا يعوق في أيهما ما هو مهيأ له . ثم يقول الترابي في ذات السياق: ولكن فقهاء أحكام السلطان لم يتركوا تولية المرأة أمراً لتقدير شوري المسلمين يصرفونه غير مناسب، بل منعوه بحكم شرط الذكورة خالداً وبعضهم عمم الحكم لأيما ولاية أو قضاء، وقليل من أباح لها ولاية القضاء خصومات جنائية أو تعاملية وولايات العمالة الصغري التي عرفت منذ سنة عمر بن الخطاب مع الشفـاء، وغالبهم منع امامة الصلاة رغم الحديث الذي ولاها الامامة وهي أهل وأولي بها (السياسة والحكم ص 286) وللذين لا يعرفون سُنة عمر بن الخطاب مع الشَفاء فقد وَلاها شيئاً من أمر السوق. وأما الحديث الذي أورده أبي داؤود في كتاب الصلاة، باب امامة النساء: عن عبد الرحمن بن خلاد عن أم ورقة أن الرسول (ص) لما غزا بدراً قالت له : يا رسول الله ائذن في الغزو معك أمَرِض مرضاكم لعل الله أن يرزقني الشهادة. فقال لها قري في بيتك فان الله عز وجل يرزقك الشهادة وكانت تسمي الشهيدة، وكانت قد قرأت القرآن فاستأذنت النبي (ص) أن تتخذ في دارها مؤذناً فأذن لها. قال عبد الرحمن وكان الرسول (ص) يزورها فجعل مؤذنا يؤذن لها وأمرها أن تؤم أهل بيتها، فأنا رأيت مؤذنها شيخاً كبيراً. (انتهي الحديث) إمامة المرأةفاجتهاد الشيخ حسن الترابي كما حملته كتبه الموثقة قديم قبل عقود من صلاة الدكتورة امنة ودود في أمريكا، قد يوافي رأي الامام الطبري في جواز الامامة الكبري للمرأة أو رأي ابن حزم الظاهري في جواز امامة المرأة لزوجها اذا كانت أحفظ منه وأقرأ للقران، وقد يوافي رأي الأستاذ أبو الأعلي المودوي صاحب كتاب (الحجاب) الشهير في أواخر العقد الخمسين الماضي عندما أيد ترشيح الحاجة فاطمة جناح شقيقة القائد الباكستاني محمد علي جناح علي قائد الانقلاب المشهور يحيي خان، وأوضح أن شرطي الامامة هما الدين والذكورة وأن الدين أولي وأن الحاجة فاطمة تستوفي شرط الدين وان لم تستوفِ شرط الذكورة، وأن يحيي خان يستوفي شرط الذكورة ولا يستوفي شرط الدين ودعي أنصاره من ثم للتصويت لها. وهو ـ كذلك ـ اجتهاد لا علاقة له بالمشروع الأمريكي الصهيوني، كما سارع منخذلة الشيوخ ممن حاولوا (اعادة اكتشاف العجلة وفق السنة). فالمشروع اليميني الأمريكي الديني يؤمن بعودة المسيح ويري في قيام دولة اسرائيل معجلاً لأوانه ولخراب اليهودية من ثم… أو كما استخفت الاثارة الصحافية اخرين فانتحلوا لاجتهاد الشيخ وصفاً (الصلاة المختلطة)، فرأي الشيخ الترابي حول صف الصلاة واضح قديم لمن يبتغي الحق دون الاثارة وفي أشد كتبه انتشاراً وشهرة، يقول الترابي في كتاب المرأة بين تعاليم الدين وتقاليد المجتمع ص16، طبعة مركز دراسات المرأة: ولا ينبغي أن يزدحم الرجال والنساء بحيث تتقارب الأنفاس والأجساد الا لضرورة عملية كما في الحج وحيثما وجد الرجال والنساء في البيوت أو الطرقات أو المجالس العامة يجب أن تتمايز الأوضاع شيئاً ما. لذلك تمايزت الصفوف في الصلاة لأن في صفها يتراص الناس مقاماً ومقصداً ولأنها موضعٌ يتوخي فيه التجرد الشديد من كل صارف عن ذكر الله. وقد اتخذ الرسول (ص) باباً خاصاً للنساء (أبو داؤود): وقد روي البخاري عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله (ص) اذا قام النساء حين يقضي تسليمه يمكث هو في مقامه يسيراً قبل أن يقوم) انتهي. ان غالب خطاب الشيخ حسن الترابي ومحاضراته العامة قدمت في معاهد العلم العليا والجامعات، الا جمهور يُقدر فيه درجة أرقي من العلم والثقافة، فجاءت أغلبها تصوب نحو كليات المعاني وأصول القضايا، الا أن غالب الموضوعات التي شاعت في أحاديث الناس، كانت في مساحة الأسئلة التي تتاح للحاضرين بين يدي المحاضر، وأفصحت كذلك عما يشغل جمهورنا حتي المثقف عن أمهات القضايا والأسئلة وعبرت عما شاب فكرنا من قصور وتجزئة وذرية (كما يصف مالك بن نبي العقل المسلم المعاصر في كتاب مشكلة الأفكار في العالم الاسلامي وكتاب مشكلة الثقافة وكتاب وجهة العالم الاسلامي وكلها مباحث جليلة في هذا الباب) كما عبرت عما يخالط نفوسنا من نفاق ورياء. فحديث الذبابة أو حادثتها الشهيرة جاءت في سؤال لسائل بعد محاضرة عن (تجديد أصول فقه الأحكام) بجامعة محمد بن سعود في مدينة الرياض السعودية في عام 1978، وكانت الاجابة في سياق مباحث أصول العلم الديني الشرعي وأصول العلم الديني الطبيعي ومساحات الاجتهاد فيهما، وهي قضية ظلت تطرح في كتب الأصول والفقه والمقاصد من قديم وحديث (الرسالة للشافعي، ورد واصل بن عطاء المعتزلي حول حجية المعقول علي المنقول، وأبو عبيدة القاسم بن سلام صاحب كتاب الأموال 242هـ، وحجة الله البالغة للكندهلوي). وكذلك ما يعرف بموضوع (زواج المسلمة من الكتابي) جاء في سياق رد علي سؤال لمسلمة أمريكية حديثة عهد بالاسلام، أسلمت دون زوجها وهي تطمح في اسلامه، وبينهما الأولاد والأموال والبيوت والشركات، وكان ذلك في محاضرة في مؤتمر حول الأسرة بمدينة لارسنغ بولاية ميتشيغن عام 1980، ولم يقطع الشيخ فيها برأي ولكنه قلـَب لها وجوه فقه المسألة كما يعرفها جيداً ودعاها للتفكير المستقل في قضايا مجتمع جديد يشبه مجتمع الاسلام الأول الذي كان ينتقل نحو الاسلام وليس مثل حاضر مجتمعات المسلمين المستقرة في الاسلام أباً عن جد. فالترابي لا يحيط رأيه بأي قداسة ولا يسميه فتوي، بل هو يعتبر كل فتوي اجتهادا أو وجهة نظر، ورأيه للمسلمة الأمريكية هو نفس الاجتهاد الذي أقره المجلس الاسلامي الأوروبي في عام 2003 وطلب الشيخ يوسف القرضاوي أن تذيل الفتوي بتقديره الشخصي وشكره للدكتور حسن الترابي، الذي سمع منه هذا الرأي قبل عقدين وأنه عثر عليه بعد ذلك في كتاب (اعلام الموقعين لابن القيم). حد الردةأما القضية التي يطلق عليها (حد الردة) فقد جاءت بعد محاضرة بجامعة الخرطوم (حول قضايا تطبيق الشريعة) في عام 1979،تحديداً من تلامذة الفكر الجمهوري الذين استنكروا اجتهاد الشيخ الترابي (المرتد ردة فكرية بحتة لا يقتل)، وأصدروا في ذات ليلة المحاضرة كتيباً يحمل عنوان (الترابي يخرج علي الشريعة باسم تحكيم الشريعة) وهو ـ علي أية حال ـ الرأي الذي يتبناه غالب رموز الفكر الاسلامي المعاصر (من المستشار سالم البهنساوي الي راشد الغنوشي مروراً بالدكتور محمد سليم العوا والدكتور طه جابر العلواني) ويخالفون به جمهور الفقهاء القديم. وكما اضطربت بالجاهلين والمرجفين الاجتهادات التأصيلية الفقهية للشيخ الترابي، اضطربوا ازاء مصطلحه الأصيل ولغته الفذة العميقة ولم يقدروا سعيه المجتهد في سبيل لغة (فصيحة جميلة)، أو كما قال في مقدمة كتابه المصطلحات السياسية في الاسلام: أصاب المسلمين بؤس في فقه حياتهم السياسية ومقاصدها ووسائلها ونظمها وعلاقاتها، وأخذت بعض الكلمات التي تشير بأصولها الصرفية الي توحيد ديني عام لكل شعاب الحياة، تطور الي دلالة خصوص يحصر عمومها الي محدود. فكلمة (فقه) ـ مثلاً ـ كان معناها الفهم العميق لايات الله في كتاب التنزيل، ثم علي الفهم الساذج في ذلك لا يبلغ حكمة الله، ثم علي الحفظ بغير شيء من الفهم . ومن ذلك ما توهمه البعض أن مصطلح (التوالي) الذي جانب به الشيخ الترابي الظلال غير التوحيدية لكلمة (التعددية)، فظنوه تحايلاً ابتدعه لمنع الأحزاب في دستور 1998، وهو مصطلح استعمله في كتاب (الايمان ـ أثره في حياة الانسان، 1973) و(بحث الاسلام والدولة القطرية، 1983) وكتاب (الحركة الاسلامية في السودان، التطور، الكسب، المنهج، 1989)، وهو ذات الأصل الذي استعمله اللبنانيون بغير كثير حرج وهم يقسمون ساحتهم السياسية الي موالاة ومعارضة. كما ظن اخرون أن مصطلح (الاجماع السكوتي) الذي تداول حوله فقهاء الأصول منذ القرن الثاني الهجري من نحت الدكتور الترابي، وان كان هو من بعثه واستعمله في سياق العملية الانتخابية المعاصرة بعضاً من نهجه في تأصيل اللغة وبث الحياة في مصطلحاته الدقيقة المهجورة. ان تفاصيل رؤية الشيخ حسن الترابي لجملة هذه القضايا، مظانها الحقة هي أدبه المكتوب وكتبه المنشورة، والتي يتعهدها قليل من الباحثين اليوم بالدراسة المعمقة ويعكفون عليها جماعات، كما كان الحال في سالف عهد الحركة الاسلامية السودانية، أو كما هو اليوم في بعض مدن أوروبا (السياسة والحكم 527 صفحة، التفسير التوحيدي للقران المجلد الأول 942 صفحة، المصطلحات السياسية في الاسلام 83 صفحة، أصول فقه الأحكام تحت التحرير ، الأعمال السياسية الكاملة تحت الطبع 500 صفحة وغيرها). ان النظر الموضوعي يؤكد أن الشيخ حسن الترابي أقل الناس حاجة لأصوات السمعة والشهرة فقد بلغ صيته الافاق وهواليوم مرجع وقدوة، ورغم العمر الممتد الذي قضاه محاضراً ومخاطباً وكاتباً، فهو أقل العلماء المفكرين ميلاً الي التفريع وتكثيف الشواهد أو التماس الأسماء أو نظم العنعنات، سوي كثافة ظاهرة غالبة لأي القرآن في أدبه المكتوب، وأن تناول اجتهاده والتفاعل معه يقتضي مسؤولية أكبر لا تجدي معها الأخبار الصحفية التي تلتمس الاثارة، فالترابي المفكر العظيم لا يبسط الريب والشكوك وانما يقدم عصارة علم كبير واطلاع مثابر مصابر ودراسة مجتهدة… لو أنهم يعلمون، لو أنهم يقرأون.7