يقول المثل الشعبي الشائع «شو جمع الشامي بالمغربي؟» وإن صعبت الإجابات المبنية على إستحالة الجمع بين شيئين متباعدين فإن الشعر جمع الشامي بالمغربي، والحكاية تقول إن ثلاثة شعراء من فلسطين طالبوا ذات سنة – من باريس – منظمة الأونيسكو بتعيين يوم عالمي للشعر، هم محمود درويش وعز الدين لمناصرة وفدوى طوقان، وتابع شعراء مغاربة الطلب حتى تم إقراره عام 1999.
وهكذا اجتمع «الشامي والمغربي» في أول يوم من أيام الرّبيع، ولا أدري إن كان اختيار هذا التاريخ تحديدا تم لأن له علاقة بأبهى الفصول؟ أم أن الصدفة هي التي وضعت أصبعها على تاريخ مولد الشاعر نزار قباني، لأن المطالبين شعراء عرب، ولأنه صادف في تلك الفترة التي دُرس فيها القرار في كواليس الأونيسكو أن توفي الشاعر نزار قباني، الذي نال خبر وفاته المساحة الأكبر في الإعلام العربي والغربي. فقد تصدّرت صورته الصفحات الأول للجرائد، وانشغل به الإعلام على مدى أشهر، وهذا أدهش العاملين في هذه المؤسسة، فقد مات الرجل ليذكر هؤلاء أنه كان على مدى نصف قرن من الزمن الشاعر العربي الأول، سواء من حيث الشهرة أو من حيث المبيعات. ودون قصد منه عرفوا ذائقة العرب الشعرية، وأنهم شعب يقرأ إن وجد شاعرا يفهم دواخله وازدواجيته ومصائبه ومآربه.
صحيح أن جزءا من العالم على مدى قرون احتفل بالشعر في الخريف، كل خامس عشر من أكتوبر/تشرين الأول في ذكرى ميلاد الشاعر العظيم فرجيل، لكن الزمن لم يعد زمن فرجيل، فقلب العالم اليوم هو المنطقة العربية بكل تناقضاتها. وسواء قرأنا الشعر أو لم نقرأه فإن هذه المنطقة بلاد العجائب فعلا، ففيها من البحور ما هو أبيض، وما هو أحمر، وما هو حي وما هو ميت، وفي أرضها مغارات العجب العجاب، وكنوز لا تفنى حتى إن كانت تقارير أهل الاقتصاد تقول العكس.
وحين بدأت هذه الأمة تهتز وتفقد توازنها، اُستهدِف الشعر أولا، فقد كان دوما النّاقل الأول للغة، واللغة مفتاح الحضارات ما خفي منها وما ظهر.
وغير ذلك فالشعر ناقل للحب وللموسيقى، وأكاد أجزم أنه مفتاح القلوب حين لا تلين، وشاطئ أمانها حين تبحر في مغامرة بدايتها الشوق ونهايتها الاستقرار.
أقول ذلك وكل المبررات عندي، فمن الطبيعي أن أنحاز للشعر، لا لأني شاعرة حسب البعض وشويعرة حسب البعض الآخر، وطفيلية شعر، حسب القلة التي تصلني وشوشاتها السرية، فقد عشقت الشعر منذ نعومة أظافري، وخلتني ولدت في مهد من الشعر غزلته أمي برموش عينيها، وأشعة حبها، ولم تحرمني من كتاب وددت قراءته، ولا من أقلام اشتهيتها ودفاتر رغبت أن أملأها شعرا، وقد فعلت ذلك فعلا.
ولدت من رحم القصيدة الأجمل في حياتي، أمي حبيبتي، والمرأة التي عرفت حتى دون أن تعجن المدارس ومقرراتها مادة تفكيرها، حملتُ كل جينات الشعر منها وقد وضعتني على طريق التميز وهي تصر أن أكون جميلة كقصيدة.
أمي المعجزة كباقي الأمهات المعجزات اللواتي ولدن في القفار وأنجبن أولادهن فيها، ولكنهن أبدعن في تحويلهم إلى أشجار مزهرة ومثمرة ومعطاءة. وها أنا كما أنا، أطوف في أفلاك الشعر مهما حاولت أن أبتعد، وأذكر أمي حيثما حللت.
بالنسبة لي، جناحاي هما أمي والشعر، وقد صادف أن اجتمع العيدان في تاريخ واحد، فهل هي الصدف مرة أخرى؟
وهل هي الصدف نفسها التي قادتني إلى عشق نزار قباني لأنه كتب أجمل قصيدة للأم «صباح الخير يا أمي، صباح الخير يا قديستي الحلوة» قبل أن يكون مادة أطروحتي لنيل شهادة الماجستير؟ والذي ربطتني به نصوص وكتب وقائمة طويلة من الدارسين والباحثين، اكتشفتهم خلال سنوات دراستي وتحضير أطروحتي. هل هي الأقدار أم قدري أنا وحدي أن أحتفل بعيد نزار الرابع والتسعين وأنا أطفئ شمعة لأمي وشمعة للشعر الذي جعلني أعيش أكبر تحولات حياتي؟ وشمعة لحافظ الشيرازي في عيد النيروز، حيث تلتقي الحياة بالشعر منذ أكثر من ألفي سنة؟
نعم تلتقي هذه الأعياد كباقة جميلة في مزهريتي الخاصة، سواء أحبها الناس أو لم يحبوها، فأنا أعرف أن من فقدوا الرغبة بقراءة الشعر فقدوا نبض قلوبهم الحقيقي، وفتحوا ثقوبا شوهت رؤيتهم للحياة نفسها. تلك الثقوب أشبه بالجراح التي تنزف ولا دواء لها غير لمسة سحرية من آلهة الشعر، تماما مثل لمسة الأم حين تحضن ابنها المريض. إنها سر الكلمة، فالكلام لا يرمى جزافا، إن لم ينبثق من الأغاني التي غنيناها ونحن أطفال فإنه لا فرق بينه وبين ثغاء الغنم.
هل تريد أن تقتل أمة؟ لا داعي لحشد الجيوش وقصف المباني وقتل البشر. إبن عازلا بين الشعوب والشعراء واتركها تثغوا، وتتراشق بأبشع الأصوات.
زمان حكى لي أحدهم أن نزار قباني قرأ شعرا في جامعة عربية، فكان الحشد كبيرا، وقبل انتهائه نزلت سيدة فاتنة من آخر المسرح وتقدمت نحوه تحت أنظار الجميع ورفعت تنورتها قليلا حتى انكشف بعض فخذها وطلبت منه أن يوقع لها عليه، شاعر المرأة المنبهر بشجاعة فريدة من نوعها لم يصادفها لا في أسفاره ولا في مضارب أرضه، أخرج القلم من جيبه ووقع لها، والسيدة أوقفت أنفاس الرجال والنساء من دكاترة وطلاب وخرجت بالإيقاع نفسه وكعبها يعزف معزوفة انتصارها. في الجامعة نفسها بعد سنوات راح يقرأ الشاعر نفائس إبداعاته فارتفع صوت متشدّدٍ ديني من آخر المسرح يلعنه ويلعن الشعر ويهدر دمه ويردد « الله أكبر». ارتعب الشاعر وارتعب الحضور، وكان ذلك الصوت بداية لتشييد العازل الذي ارتفع حتى غاب الشعراء كشمس الشتاء خلف الغيوم.
لم يعاود قباني زيارة ذلك البلد، وتقلّص حجم الشعراء فيه وعددهم، هرب من هرب، وتنكر منهم من تنكر للشعر، وقتل بعضهم ليكونوا موعظة لمن يتعظ، قبل أن يكتسحَ البلدَ جرادٌ أسودُ أكل الأخضر واليابس. وفي تاريخ الحضارات العظمى، هناك اطّراد وطيد بين حركات الشعر النهضوية ونهضة الشعوب، لا مجال لدحض هذه النظرية.
واليوم لإحياء تلك الأرض وكل الأراضي التي حلّت عليها لعنة التشدد والجراد الأسود، هل يكفي أن نحتفل بعيد للشعر والعازل قائم بيننا؟ هل نترك العازل يزداد سماكة أم نحاول إذابته بوهج الشعر؟
أقرأ الجرائد وأستغرب هذا الكم الهائل من المقالات التي تستسخف عيد الأمهات وعيد الشعر وأعيادا أخرى، حتى ذكرى مولد نزار قباني غابت تقريبا عن مشهدنا الثقافي، وبرزت بدلا منها عدائية غريبة نحو الشاعر من أشخاص يسمون أنفسهم «دعاة» ويتهمون نزار بالتطاول على الذات الإلهية يا للحماقة، فحتى الديناصورات انقرضت بحكمة الخالق، ولا يزال عندنا من يعتقد أن الذات الإلهية «صنم « يحتاج للحماية وأن هذه الذات هشة لدرجة أن كلمة مجازية في قصيدة يمكن أن تؤثر عليها؟
الله يرحمك يا نزار، ولن أقول في عيدك سوى ما قاله المتنبي ذات يوم: «لكل داء دواء يستطب به إلا الحماقة أعيت من يداويها» فكل عام وأنت بألف خير .
وسأردد مقولة النيروز الجميلة «غدا يوم جديد» مفعمة بكل آمال الدنيا، لأن المظــــالم ليست أبدية مهما طالت والحي أبقى من الميت مهما كثرت أسباب الموت.
٭ شاعرة و إعلامية من البحرين
بروين حبيب
نزار قباني، شاعر الحب الاكبر، ، صاحب اللغه المتفرده في سهولتها و عمقها، و التي عبر بها عن ادق مشاعرنا، و اخرج لغه الحب الي النور و الهواء.
بابه الشعري مفتوح لهن يتغزلن به حيا وميتا. وهن يُغلقن أبواب شِعرهن في وجه كل من تغزل بهن. ولي في الشعر عناية سدت في وجهي ستاتي. لأن شِعرها خاص وليس للجميع. ويقلن إنهن شاعرات. وهل للشعر حياء أم هو الخجل.
أتمنى أنْ نقرأ للدكتورة بروين حبيب في العدد القادم ( هنا ) آخرقصيدة جديدة لحضرتك ؛ كبدل عن المقال النثري.