الكثير من الأفكار التي تتعلق بالعالم العربي بحاجة لمراجعة شاملة، خاصة أن بعضها ارتقى لمرتبة المسلمات التي لا تقبل النقد ولا التشكيك.
ومن هذه الأفكار أن المشكلة هي دائماً بين الزعماء العرب ولم تكن مطلقاً بين الشعوب العربية، وربما كانت هذه الفكرة على جانب كبير من الصحة في الستينيات، عندما اختطف جمال عبد الناصر مصر وأوقف النمو الطبيعي تجاه البحث عن هويتها الخاصة ووأد تنوعها، وبعد ذلك استولت شخصية الحبيب بورقيبة على تونس وأصبحت نزواته الشخصية هي التي تشكل شخصية الشعب التونسي، والأمر نفسه في أكثر من بلد عربي، وقتها كانت الأمة العربية تجد نفسها في وهلة البراءة الأولى للحرية وكان الاستقلال، حتى في نسخته الشكلية، يمنحها تصوراً لمستقبل أفضل يقوم على أساس التخلص من أثقال وتبعات مراحل الانحطاط المملوكية والعثمانية التي أضعفت العصبية العربية ودجنتها وشوهتها.
الأمر مختلف اليوم، فالزعامات العربية تدرك إلى حد بعيد أنها بحاجة لشرعية العروبة، فمصر الدولة الأكثر قلقاً بخصوص هويتها نظراً لتاريخها القديم الذي يسبق أصلاً ظهور العرب على مسرح التاريخ، ووزنها المؤثر في البحر المتوسط وافريقيا، احتفظت دائماً بصفة العربية مردفة بمصر، وفي مرحلة ليست بالقصيرة احتفظت مصر بتسمية الجمهورية العربية المتحدة، وتغيبت لفظة مصر أمام صفة العروبة، والأمر نفسه في سوريا والعراق.
ومنسوب العروبة هو أحد أسس تشكل المعادلة السياسية اللبنانية وضبطها، ولبنان مؤثر ثقافياً وفكرياً، رغم محدودية تأثيره السياسي والاقتصادي في المنظومة العربية، بينما وجد الخليج العربي نفسه، ومع أنه العروبة هي الصفة الطاغية من الناحية العرقية، مضطراً للتمسك بالعروبة، ليس بوصفها صفة أصيلة لتشكل هويته، ولكن بوصفها أحد آليات الدفاع عن وجوده، حول بحر داخلي تتنازعه الدول العربية مع الجارة ايران.
وباستعراض وضعية العروبة، بوصفها مكوناً لشرعية السلطة فالأمر ينطبق على دول المغرب التي تجد نفسها في صراع متواصل وممتد منذ قرون بين السلطة النخبوية العربية والفعالية الشعبية الأمازيغية، ولذلك فمنظومة العمل العربي المشترك أصبحت اليوم ملاذاً للدول العربية، دون أن تكون بالضرورة مشروعاَ شعبياً عربياً، فهل فقدت الشعوب التي توصف بالعربية قناعتها بجدوى العروبة وايمانها بمستقبل عربي مشترك.
الدولة العربية الحديثة لعبت بورقة العروبة بصورة انتهازية على امتداد عقود من الزمن، فهي تريد أن تبني تقاليد سياسية ذات أبعاد اجتماعية واقتصادية، وليس بوسعها للحصول على هذه الصورة الشرعية سوى أن تقدم العروبة والإسلام، أو النسخة العربية من الإسلام، أو أياً يكن من تفاعلات بين العنصرين، بوصفهما الأساس القائم لشرعية السلطة، ولكن المواطن العربي الذي تغذى طويلاً على ذلك الامتداد الافتراضي لوجوده لم يتمكن من أن يلمس سوى استفحال حالة الرمز الوهمي مقابل الواقع السيئ والرث، الذي يجبره على انتظار الفيزا التي تسمح له بالتنقل بين بلد عربي وآخر، ولإجراءات التفتيش والتدقيق الأمني، ولم تعد المجاملات التقليدية والمكررة والبالية تغري المواطنين العرب لتبني أفكار تجعلهم يتمسكون بمشروع وحدة عربية محتملة أو ضرورية.
جولة صغيرة في مواقع التواصل الاجتماعي، وعند أي خلاف يمكن أن يحدث بين دولتين عربيتين، ستجعل المتابع يتشكك أصلاً في قناعة مواطني الدولتين بفكرة العروبة وإقامة أي اعتبار لها، وعلى العكس، فإن شعارات التهدئة تستمد من الموروث الإسلامي أكثر من الواقع العربي، والشعوب العربية الحديثة أخذت ترتد لهوياتها ما قبل العربية، ففي لبنان تصعد الفينيقية واللبننة، ولم تعد مجرد عوارض وأوهام فكرية لنخبة عنصرية، وفي مصر أصبح المصريون يصفون جميع مواطني الدول العربية الأخرى بالعرب بما يشتمل عليه ذلك من نبرة استخفاف، وأحياناً مرارة في حالات حسن نية لإظهار الاستياء، وحتى مقولات الشامي والمغربي اختفت من الثقافة المصرية، لأن مصر أصبحت في كفة والعرب في كفة أخرى، فالشوام هم جزء من منظومة القادمين من الشرق، بينما المغاربة هم الجيران الأفارقة المباشرين للمصريين.
وفي المغرب تستفحل المشكلة، وما زالت المملكة المغربية عازفة عن منظومة العمل العربي المشترك، وبعد ما ظهر بأنه نجاح أردني لاستعادة المغرب لمنظومة القمة العربية، عادت المغرب لانكفائها على ذاتها ضمن إعادة ترتيب أوراقها الإفريقية، لبحثها عن عمق جديد، ولوضع قيمتها الافريقية الجديدة بوصفها عاملاً مساعداً للحصول على مزيد من المزايا في أفقها الأوروبي المنشود، والمغاربة في نخبتهم الثقافية محبطون من العروبة، ويعملون على تطوير فكر مستقل، يبدأ من خلال اعتماد لغة خاصة ومتجددة تتباعد مع الوقت عن العربية القياسية، فالمغربي يدرك، وكما وردت مرة في إحدى روايات الطاهر بن جلون، أن المشرقي ينظر إلى المغرب بوصفه المكان الذي يقع غرب الشرق، بمعنى أنهم لا ينظرون للمغرب بما يمتلكه من خصوصية وشخصية مستقلة، ولكن من موضع المهيمن والمسيطر على التابع أو الملحق، ولذلك يبتعد المغاربة وتنغلق بينهم وبين المشارقة إمكانية التواصل والتفاهم، فضلاً عن التكامل والتعاون.
إن منظومة العمل العربي المشترك بوضعها الراهن لا تستطيع أن تستوعب وجود مشكلة شعبية اليوم بين العرب، ولا يمكن أن تواجه الارتدادات نحو الهويات الفرعية والخصوصيات المحلية في مواجهة الدعاوى العروبية التي تحمل من النفس الإنشادي أكثر مما تشتمل على إمكانيات واقعية، ولا تستطيع هذه المنظومة أن تقدم بديلاً طالما بقيت تعمل بعقلية الموظفين، وتشكل تقاعداً مريحاً أو محطة في السيرة الذاتية للدبلوماسيين من الدول الأعضاء، فالأمر يحتاج إلى مشروع حقيقي يبدأ بخطوات ملموسة على الأرض يجني ثمارها المواطنون العرب وحدود مفتوحة بين الدول العربية، وإعادة هندسة التفاوت السكاني في بعض الدول العربية، من خلال إزاحات داخل المنطقة العربية وليست خارجها، وهذه الإزاحات كانت مشروعاً عراقياً في السبعينيات، تمثل في العمل على تشجيع هجرة مصرية واسعة تجاه العراق للنهوض بقطاعه الزراعي، ويحدث الأمر نفسه في أوروبا التي تستوعب السكان من الشرق للغرب لتعويض الاختلالات السكانية القائمة وأثرها على الهياكل الاقتصادية في المدى الطويل.
بدون خطوات عملية على الأرض تبقى القمة العربية مجرد مناسبة إعلامية إقليمية لا تغير شيئاً على الأرض، ونجاح قمة عمان الأخيرة النسبي والقياسي في الوقت نفسه بين القمم الأخيرة يرجع لدور الأردن الذي ما زال يشكل حالة خاصة بين الدول العربية، فيكفي التجول في شوارعه أثناء البطولات الرياضية التي تشارك فيها الفرق العربية لتجد الأردنيين يشجعون الفريق الجزائري بالحماس نفسه الذي يفعلونه مع الفريق المصري، فالأردن واحد من الدول القليلة، ما زال يعتبر الكينونة العربية أمراً مبدئياً ومتجذراً، ولكن الأمر نفسه ليس وحده على امتداد المنطقة للأسف.
كاتب أردني
سامح المحاريق
من اجل شعوب تعيش مع بعضها في سلام دائم يجب ان تتنحى الفكرة القومية جانبا وتكون فكرة المواطنة هي الاصل وبالتالي سيشعر الاقليات بانهم متساوون امام الاكثرية في الحقوق والواجبات.لقد ادت الفكرة القومية ممتمثلة بالاحزاب القومية التي خطفت السلطة في العراق وسوريا ومصر وليبيا الى تدمير تلك البلدان وخاصة العراق المتنوع عرقيا فكان هناك رد فعل من الاقليات بالتمسك بثقافاتهم امام اصرار السلطة على تذويبهم بطرق شتى .