فرق المؤرخون والفلاسفة، ومنهم الفرد وايتهد وازوالد اشبنجلر بين الحضارة والمدنية، فالحضارة تعبير عن الكيف والنوع وعن الداخل لا الخارج، بينما المدنية تعبير عن الكم والتمدد إلى الخارج، لهذا يقاس الإنجاز في مجالات الإبداع كلها بالنوعية وليس بالكمية، وحين نرى كتّابا يزهون بعدد مؤلفاتهم التي تصل أحيانا إلى الخمسين أو الستين، نتذكر على الفور مقولة الناقد فلتشر إثر قراءته لرواية «الفهد» للكاتب الإيطالي لامبيدوزا وهي روايته الوحيدة، قال إن مؤلفها أعاد إلى كلمة إنجاز اعتبارها ودلالاتها الأصيلة، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن غزارة الإنتاج سلبية مقابل الإيجابية والامتياز لشحة الإنتاج، وبهذا المعنى فإن شكسبير وديستويفسكي وهمنغواي ونجيب محفوظ وغيرهم، ممن وصفوا بغزارة الإنتاج كان ذلك على حساب المستوى الإبداعي لنصوصهم، لكن هؤلاء ليسوا القاعدة في هذا السياق وربما كانوا الاستثناء، لأن هناك بالمقابل عشرات، بل مئات ممن أنتجوا العديد من المؤلفات التي لم تترك أثرا، لأن الغابة عندما تكون من نوع واحد من الشجر تفقد صفتها وتنوعها.
إن من يعيدون إنتاج أنفسهم وبالتحديد كتابهم الأول عدة مرات، هم على النقيض ممن يولدون بعدد ما يصدرون من كتب لأنهم يتجاوزون أنفسهم أولا، ولا يقلدون نصوصهم لأن تقليد الذات أسوأ بكثير من تقليد الآخر.
وما أعنيه بجبل الورق هو هؤلاء الذين حرموا من نعمة النقد الذاتي وتوهموا بأنهم دائما على حق، وحين تبلغ النرجسية هذا الحد يكون المصاب بها على موعد محتم مع الجنون، وهناك ثلاثة عوامل على الأقل أدت إلى فائض الكتابة والنشر في أيامنا، في مقدمتها سهولة الطباعة وارتهان دور النشر أو معظمها للمعيار التجاري المحض، خصوصا أن دور النشر العربية نادرا ما يكون لها خبراء في اختيار المخطوطات وإعدادها للنشر، على طريقة دار غاليمار الفرنسية التي كان البير كامو من أبرز خبرائها، وكذلك دار فيبر آند فيبر الإنكليزية التي كان الشاعر ت. س. إليوت خبيرها.
والعامل الثاني هو تراجع دور النقد وانحساره بحيث أتاح مساحات من الحرية للهواة، لكنها ليست الحرية بمعناها الوجودي الدقيق، بل الحرية التي قال عنها برتراند راسل إنها من إفرازات الجهل، لأن المعرفة قيد وبقدر ما تعوق العارف غزارة معارفه يتمطى الجاهل ويتثاءب في نعيمه، كما وصفه المتنبي.
جبل الورق لا يصمد أمام نسمة هواء ومن يحاول أن يتسلق سفحه يجد نفسه ملقى على الأرض لأنه لا يقوى على مقاومة جاذبية الواقع، ولدينا في هذه الآونة الرمادية سلاسل جبال من الورق، ولا ندري كم سيبقى منها إذا أخضعت لمراجعات نقدية، وإذا كان الناقد العربي القديم قال إنه أتلف زنابيل من المخطوطات لا تستحق عناء حملها أو نقلها من مكان إلى آخر، فإن اضعاف تلك الزنابيل بانتظار ناقد حصيف يعيد، كما قال جون فليتشر، لكلمة الإنجاز اعتبارها ومعناها.
والعامل الثالث الذي أدى إلى هذا الفائض الكمي من الورق المطبوع والمنشور هو مؤسسات ثقافية رسمية ونقابية وحزبية، تحتكم إلى معايير لا صلة لها بالإبداع الحقيقي، والقائمون عليها يعرفون ذلك جيدا لأن معظم ما يتراكم في المستودعات مصيره فرّامات الورق، أو تحويله حسب اعتراف ناشر لبناني إلى عُلب للحلوى وأغلفة للهدايا لكن بعد تدويره.
وإن كان ديوان العرب قد اختلط فيه الشحم والورم بتعبير المتنبي، واثقلته حمولة من النظم بسبب تعريفه غير الدقيق، وهو الموزون المقفى، فإن الرواية الآن تعاني من خلط آخر، وحين وصفها لوكاتش بأنها ملحمة البرجوازية الأوروبية، كان يعني أنها استكملت أقانيمها بعد تشكل المدينة وتحقيق قدر من الحريات، بحيث لم تتوقف عند حدود سرفانتس والنثر الغنائي، فقد فتح بابا على مصراعيه لمساءلة رؤيوية وليست أسلوبية فقط حول هذا النوع الأدبي، وها نحن نقرأ روايات عربية منها ما ليس له حظ من الرواية بمعناها الدقيق، غير تلك الإشارة على الغلاف، التي تصنفها كنوع أدبي لأمر يخص الناشر وحده، وقد لاحظت أن ضيق مساحة الحرية والوعي باستحقاقها لدى البعض يدفعهم إلى توريط شخوصهم في مصائر تمتزج فيها التراجيديا بالكوميديا، وأحيانا نجد في نص واحد عشرة شخوص هم أشبه بالأبواق التي تعبر عن المؤلف ذاته، فالرواية أحيانا تصلح اختبارا لمنسوب الديمقراطية في ثقافة مؤلفها.
ويبدو أن هناك من هواة الكتابة من تغريهم وفرة الأوراق لتسويدها، ظنا منهم أن الرواية هي تطوير وتحديث لثقافة النميمة، أو لإعادة إنتاج السيرة الذاتية بعناوين واسماء مختلفة، وإضافة إلى غياب النقد هناك تواطؤ بين الكتاب أنفسهم فهم في لقاءاتهم وحواراتهم لا يناقشون ما كتبوا بل يذكروننا بما قاله بابلو بيكاسو عن التشكيليين الذين ينفقون الوقت في الحديث عن أسعار الألوان والفرشاة والقماش، تهربا من الحديث عن الفن ذاته.
ولم يعد هناك الآن من يدافعون عن الفن الذي يمارسونه كي لا يختلط القمح بالزؤان، بحيث نقرأ شيئا يشبه ما كتبه سارتر عن فرانسوا مورياك حين أنهى إحدى مقالاته عنه بأنه ليس فنانا على الإطلاق، وما يحدث الآن هو العكس، حيث يتبادل الهواة حك الظهور وشد شعر الرأس تعبيرا عن الإعجاب المفتعل بانتظار رد الجميل.
إن سلسلة جبال من الورق قد لا تحتمل قمتها عصفورا، لكنها تصلح للتصوير أو ديكور السينما لبعض الوقت بانتظار ذلك الطفل البليغ والجسور الذي تحدث عنه أندرسون الذي قال إن الامبراطور الذي تنافس الناس في وصف ثيابه الطاووسية عارٍ تماما!
٭ كاتب أردني
خيري منصور
لله درك يا استاذ خيري
لا تزال تدهشني كلما قرأت لك نصا
كيف تنصاع لك المفردات وتصطف معا لتكون مقولة كانها مثل قديم!!!
لا ازال اذكر جملة وردت في احدى خواطرك في جريدة الدستور منذ سنين رسخت في في الذاكرة….”الافكار في حالتها الغائمة تمر بعقول معظم الناس ولكن قلة فقط من لها القدرة على استمطارها !!!”
بالنسبة للعامل الثاني.. ليس فقط من حيث تراجع دور النقد وغيابه.. بل أيضاً من حيث “تقدم” دور الناقد و”حضوره” على شاكلة المتملق والمتزلف.. كما نوه الصديق الغضنفر في تعقيبه على مقال “الناقد” صبحي حديدي السابق.. المقال الذي يمدح فيه “الشاعر الكبير” ممدوح عدوان مديحاً زائداً عن حده.. يقول الغضنفر ما يلي..
/المبالغة في مديح ممدوح عدوان بصفته “شاعراً كبيراً” إنما هي ذم له، من جهتين: من الجهة الأولى، هذه المبالغة لا تعدو أن تكون تزلفاً وتملقاً من طرف المادح، أياً كان.. ومن الجهة الثانية، هذه المبالغة تؤول، في الجوهر، إلى انتقاص من قدر الممدوح بالذات..
ممدوح عدوان له محاولات شعرية، بعضها جدير بالقراءة حقاً، ولكنه لا يرتقي به إلى مصاف “الشعراء الكبار”.. فإذا كان الشاعر الكبير محمود درويش قد وصف ممدوح عدوان راثياً إياه ببعض الصفات المتضادة، كالتي ذكرها “الناقد” صبحي حديدي في نهاية مقاله، فهذا من باب الانفعال العاطفي التأبيني الذاتي على فقدان صديق حميم، وليس من باب التقييم النقدي الأدبي الموضوعي لـ”شاعر كبير”/..
فعلى الرغم من تلك الأزمة الحقيقية التي كان وما زال الأدب العربي الحديث يمر بها.. ما زال “الأدباء العرب الحديثون” ينطون من كل الجهات.. تارة من جهة الشعر وتارة أخرى من جهة المسرح وتارة ثالثة من جهة الرواية وتارة رابعة من جهة القصة… إلى أن صار عدد هؤلاء الأدباء يفوق بأضعاف مضاعفة عدد قراء الأدب من المحيط إلى الخليج.. وأقصد بقراء الأدب هنا أولئك المتذوقين الحقيقيين للأدب بالطبع..
ومع ذلك.. نرى نقاد هذه الأيام.. كمثل كتّاب المحاكم الكسبة أو حتى موظفي الإعلام المأجورين.. لا يتوانون في الإسهاب في الكلام عن “النجاحات الباهرة” التي حققها ويحققها هؤلاء الأدباء.. إما على صعيد كتابة النص الثوري في الشكل أو في المضمون أو في الاثنين معا.. وإما على صعيد إقامة ما يعنيه هؤلاء النقاد بتلك الصلات “الحداثية” التي كانت في رأيهم تتمّ والأدباء على وعي تامّ بمقدار الضغوطات الخارجية.. والداخلية طبعا..
هذا هو فقر الأدب.. لا بل مواته بعينه.. في بلادنا المنكوبة..
فعلا لله درك يا استاذ خيري .. وليس الرواية فقط بل اغلب الفنون اصبحت جبال من ورق ونفاق . الاخت اصال وصديقك الغضنفر كلاكما لاتودان الخير لأي ممبدع سواء كان الشاعر الكبير ممدوح عدوان او غيره لأعتبارت شخصية مع الاسف . دعوا الناس تكتب ولا يصح الا الصحيح .
رداً على تعليق سرمد..
واضح أنك أسأتَ فهم ما قرأتَ في تعليقي كل الإساءة..
أولاً.. أن تقول جزافاً بأنني وصديقي الغضنفر لا نود الخير لأي مبدع.. فهذا محض افتراء وتخرص..
ثانياً.. لم يسبق لي أن كتبتُ في هذه الجريدة بأية صيغة كانت من دافع شخصي أو حتى ذاتي..
ثالثاً.. اقرأ جيداً تلك المحاولات الشعرية التي كتبها ممدوح عدوان قبل أن تدعوه “شاعراً كبيراً”..
أخيراً.. وإن لم تفعل ذلك.. فمجرد الحكم عليه بأنه “شاعر كبير” هو الذي ينبع من دافع شخصي ليس غير..