نيويورك ـ «القدس العربي»: في سعير تموز/يوليو من عام 1997 كنت عائدا من مدينة السليمانية إلى بغداد مرورا بكركوك مصحوبا بموظفين دوليين وسائق عراقي. وفي الشارع المتجه نحو كركوك رأينا أناسا يمشون على الطريق في قيظ الصيف تكاد أرجلهم لا تحملهم من التعب والحــر والجـــوع. ثم رأينــا مخــيمــا صغيرا لا يتجاوز عدد الخيم فيه خمسين أو ستين.
توقفنا فورا ونزلنا نتحدث مع هؤلاء الفقراء المعدمين ولنعرف سر المشاة على الطريق السريع. كان في المخيم مكتب صغير للمفوضية العليا للاجئين فيه موظف واحد. تدافع الرجال المنهكون يحكون لنا قصص إقتلاعهم من ديارهم في كركوك لا لسبب بل لأنهم أكراد. وأقسم أكثر من شخص أن قوات الأمن العراقية لم تسمح لهم أن يحملوا معهم إلا ملابسهم الشخصية. كانت هناك نية لدى النظام أن يجعل كركوك مدينة ذات غالبية عربية بالتقليل من مكونها الكردي الأصيل. كان ذلك القرار الظالم يساهم بشكل غير مباشر في تعزيز انفصال كردستان العراق ذات الأغلبية الكردية عن العراق. فبدل اتباع سياسة الاندماج الديموغرافي بتعزيز المواطنة والانتماء للوطن دفعت تلك السياسة ببعض الأقليات إلى تعميق انتمائها للطائفة والاحتماء بالهوية الإقليمية بدل الوطنية. لقد تراجع المكون الكردي في كركوك عام 1997 إلى 21 ٪ و7 ٪ للتركمان بينما ارتفعت نسبة العرب إلى 72 ٪ مقابل 48 ٪ للكرد عام 1957 و28 ٪ للعرب و21 ٪ للتركمان.
تدور الأيام وتشن الولايات المتحدة وحلفاؤها حربين على العراق (1991 و 2003) أسفرت الثانية عن وقوع العراق كله تحت الاحتلال الأمريكي المباشر الذي ارتكز كثيرا على دعم الحزبين الكرديين الكبيرين، اللذين استغلا الوجود الأمريكي والغربي لتعزيز الحكم الذاتي في إقليم كردستان الذي بدأ فعليا بعد اعتماد مجلس الأمن القرار الخطير 688 في 5 نيسان/أبريل 1991 والذي شرعن ما سمي «التدخل الإنساني» الذي نتج عنه إقامة منطقة حكم ذاتي شبه منفصلة في كردستان.
بعد عام 2003 بسطت قوات البيشمركه سيطرتها على مدينة كركوك ذات الأغلبية العربية التركمانية الآشورية، وبدأوا يعملون بالضبط ما عمله النظام السابق وذلك بطرد أكبر عدد من سكان المدينة العرب واستقدام آلاف الأكراد من الشمال ليصبح العرب أقلية تسقط في أي استفتاء قادم على هوية الإقليم. واستمر الوجود العربي يتراجع والمكون الكردي يتعاظم.
الدور الغائب للأمم المتحدة
تعود جذور الأزمة الحالية إلى حاكم العراق الأمريكي بول بريمر، الذي جاء بنية تفكيك العراق إلى مكوناته الطائفية. أنشأ لكركوك مجلس مدينة مكونا من 6 أعضاء لكل مكون من المكونات الأربعة ـ كرد، وعرب، وتركمان، وآشوريين/كلدان، بالإضافة إلى 6 مستقلين ليكون العدد 30 عضوا. تبين أن المستقلين في غالبيتهم من الأكراد. وفي أول تصويت للمجلس لانتخاب العمدة فاز الكردي عبد الرحمن مصطفى بغالبية 20 صوتا لصالحه. منذ ذلك اليوم ولغاية الآن وعملية تعزيز المكون الكردي على حساب العرب والتركمان مستمرة. أما المكون المسيحي فقد تكفل به خمسة تفجيرات مشبوهة للكنائس عام 2011 حتى كاد الوجود المسيحي يختفي لا في المدينة فحسب بل في كل أنحاء العراق.
بقيت الأمور مستمرة في تعزيز المكون الكردي رغم العديد من التفجيرات لكن التحول الأكبر لصالح الكرد حصل عندما هرب الجيش العراقي من المدينة بعد احتلال تنظيم «الدولة» للموصل في حزيران/يونيو 2014 وقيام البيشمركه بملء الفراغ فورا. وقام «داعش» مرة أخرى في 21 تشرين الأول/أكتوبر الماضي بالهجوم على مناطق في كركوك لحرف أنظار الجيش العراقي الذي أعلن بدء عملية تحرير الموصل لكن الهجوم فشل وقتل العديد من المهاجمين.
بعد ترتيبات بريمر جاءت سيطرة الميليشيات الطائفية على العراق والتي قدمت تنازلات للمكون الكردي أثناء الاستفتاء على الدستور عام 2005 ومن بينها البند 140 والذي ينص على إجراء استفتاء على المناطق المتنازع عليها من بينها كركوك خلال سنتـين. وتدخلت الأمم المتحدة لتأجيل الاستفتاء عدة مرات لتوتر الأوضاع بين المكونات على أن يستمر الحوار بين الأطراف المعنية والحكومة الاتحادية إلى أن يتوصلوا إلى حل مرض لمسألة كركوك.
ترتيبات الانفصال
يبدو أن محافظ كركوك الكردي نجم الدين كريم، شعر أن الوقت قد حان لاقتطاع كركوك من الدولة العراقية وضمها لكردستان فأعلن يوم 4 نيسان/أبريل أن الوقت حان لإجراء استفتاء شامل حول انتماء المدينة للإقليم حسب البند 140. وحسب تصريح كريم «لدينا العديد من المظالم من بغداد. هناك حكومة قوية ومركزية وغير مؤهلة وتنقصها الكفاءة. بغداد تتحكم في كل شيء مع العلم أن الدستور ينص على الفدرالية».
قام مجلس المدينة يوم 28 اذار/مارس في جلسة قاطعها العرب والتركمان بالتصويت على رفع علم كردستان بدل العلم العراقي على مجلس المحافظة وبقية المباني الحكومية. فرد البرلمان العراقي السبت برفض هذا القرار وطالب بإنزال العلم الكردي وإبقاء العلم العراقي. فرد مجلس المدينة الثلاثاء برفض قرار البرلمان العراقي الاتحادي، وذكر رئيس مجلس محافظة كركوك، ديبوار الطالباني، في مؤتمر صحافي عقب انتهاء جلسة المجلس، أن «القرار، هو آخر رسالة إلى الحكومة المركزية لكي تنفذ المادة 140، وبعدها سنتخذ كل الإجراءات الدستورية والقانونية».
وأصدر ممثل الأمم المتحدة، يان كوبيتش، كالعادة بيانا أعرب فيه عن قلقه حيال القرار الأخير لمحافظ كركوك برفع علم إقليم كردستان العراق فوق قلعة كركوك. وأشار في بيانه إلى أن «حكومة العراق قد أوضحت أنه وفقا للدستور فإن كركوك من ضمن صلاحيات الحكومة المركزية وأنه لا ينبغي رفع أي علم في المحافظة غير علم العراق». وحذرت البعثة من اتخاذ أي خطوات أحادية الجانب قد تعرض للخطر حالة الانسجام والتعايش السلمي بين المجموعات العرقية والدينية والمحقة في اعتبار كركوك وطنا لها وتود العيش والعمل بشكل مشترك في مرحلة ما بعد تنظيم «داعش» والبناء على روح الوحدة والتعاون.
في النهاية يبدو أن الأكراد قد توصلوا إلى قرار أن الوقت قد حان لانفصال الإقليم وإعلان دولة كردية مستقلة ولكن لا يمكن لهذا الإقليم أن يقف على رجليه اقتصاديا دون ثروة كركوك النفطية. لذا يجب ضم كركوك أولا ثم إجراء الاستفتاء ثانيا حول الانفصال والذي سيكون مضمونا على طريقة جنوب السودان.
والمؤشرات لذلك كثيرة منها استناد القيادات الكردية إلى دعم الإدارة الأمريكية الجديدة وانهاك الجيش العراقي في حرب تحرير الموصل وانشغال تركيا في سوريا ومحاربة تنظيم حزب العمال الكردستاني وتفاقم الأزمة الإنسانية في العراق وايواء الإقليم لملايين المهجرين والفارين من الحرب مما زاد من احترام المكون الكردي وخاصة من سنة العراق والمنطقة. فهل هناك أفضل من هذه المرحلة لتحقيق الحلم القديم الجديد في إعلان دولة كردستان المستقلة؟
عبد الحميد صيام
صدقني اخي عبد الحميد ، لن ينفصل مسعود والأكراد عن العراق ، لأنهم سيخسرون ماليا ، ومصيرهم سيبقى عراقي او تركي او إيراني او سوري .