الطبيعة بخصوصية نسوية

إن طريقة تعامل البشر مع الطبيعة من حولهم تعكس نفسياتهم وأخلاقهم إن خيرا أو شرا، فما من شك أن أولئك الذين يسيئون للبيئة هم أنفسهم من يسيء للبشر، يحركهم في هذا استعداد للاعتداء على كل ما حولهم، ما دام سؤال المنفعة وتحقيق المكاسب الفردية هو الأهم لديهم.
الفكرة عموما لا تخرج عما بات معروفا باسم «نسوية إيكولوجية» ترى أن هناك بشرا يقفون وراء انقراض كل ما هو جمالي، والأمر وفقا لهذه النسوية مرتبط بتراتبية اجتماعية، أفضت إلى تحميل الرأسماليين والبيض مسؤولية تدمير بيئي مارسوه بقوة على مدار تاريخ الإنسانية، بل يذهب الأمر أبعد من هذا حين يصبح الرجال أكثر تورطا من النساء في تاريخ التدمير البيئي، لتبدو النساء في المقابل أقرب إلى طبيعة تمنحهن شيئا من راحة بحكم أدوار ثقافية يعشنها تختلف عن تلك التي يعيشها الرجل، بل قد يصل الأمر- وفقا لكارول كريست – درجة امتزاج مع طبيعة تدعو المرأة إلى امتلاك الوعي بوجود لامرئي وراء العالم المادي المحسوس، يشكل بديلا عن عالم اجتماعي مادي، تصل بعده المرأة إلى مرحلة تتمكن فيها من الاندماج مع مجتمع طالما عانت الانفصال عنه من قبل.
عودا إلى ظاهرة تدمير الطبيعة، فإننا نستطيع الربط بينها وبين أصول ثقافية وسياسية اجتماعية أفضت إليها، الأمر الذي استدعى تيارا كتابيا ينبه إلى خطورة أولئك الذين يحاربون البيئة بصناعات ونفايات ترمى كيفما اتفق، وهو ما يبدو متفقا وكتابة تواجه – وفقا لهيلين سيكسو- كل ما من شأنه أن يكون خطرا على الإنسانية بشكل عام. فإن كانت الأخلاق تقتضي حرصاً على الطبيعة ومحاربة كل من يعمل على تشويهها، فإن هذا الحرص يحضر جنبا إلى جنب مع دعوة حثيثة لمجابهة مجتمع ما فتئ يعتدي على المرأة ويعمل على تشويهها، والحالتان تحضران في إطار منطق واحد يعادي كل أنواع التمركز البشري، ما يستلزم ثورة بيئية اجتماعية بقواعد أخلاقية جديدة.
وفي هذا السياق أزعم أن الروائية ليلى الأطرش في مجموعتها القصصية « نساء على المفارق» تناولت هذا الموضوع بيقظة عالية في كتابة تسبغ على الطبيعة حسا أنثويا عاليا، فحين تعود بنا إلى ماضي ( بيتسبرغ) المدينة التي اجترأ عليها مستوطنون لم يهمهم في أرضها سوى ثروة حديدية وفولاذية يستغلونها، نجدها وبحس الفنان ترسم بالكلمات وحوشا يقتحمون جمال المدينة البكر أو الأنثى التي أصبحت «ملوثة برغبة الاشتهاء والثروة والاغتصاب ونهم لا يرتوي». ولربما بدت امرأة ملوثة بشهوات مغتصبيها، قذرة بإفرازاتهم، فشاخت سريعا وأصبحت أكثر شيخوخة حين غاصت الآلات عميقا لتقتلع خضرتها، وكانت النتيجة أن المدينة هزمت فانهزمت معها قصائد تقدس حمرة الأرض وتتغنى بلمعان شعرها. مع هذه الهزيمة كان لا بد للطيور أن ترحل، وللحيوانات النادرة التي تعيش فيها أن تنقرض، بما في ذلك جاموس هو رمز القوة عند السكان الأصليين. إلا أن المدينة ذاتها حين زارتها الكاتبة لم تستسلم، وأصرت على الاغتسال، ومن ثم التطهر من دنسها، في إشارة من الكاتبة إلى حملة وطنية بدأت عام 1972 أخرجت فيها المصانع منقذة الأنهار من التلوث، لتعود المدينة بحلة جديدة تحنو وتحتضن ضفتي الماء بخضرة كثيفة تعلوها سماء خالية من سحب سوداء كانت قد غطتها حدادا على موت أشجارها.
من خلال ما تقدم يغدو مناسبا لو قلنا إن اعتداء على البيئة في (بيتسبرغ) يحضر بالتوازي مع ما تعرض له سكان أصليون، انتهكت أرضهم وفتك بهم الطاعون وأرداهم قتلى، بينما نجا حاملوه منه، وهو ما آثرت كتب التاريخ أن تصمت عنه، مؤثرة الحديث عن رحلات بطولية قام بها الأوائل، أقل ما يقال عنها إنها لاأخلاقية، وهو ما يحضر- كما أشرنا – بلغة مجازية وتشبيهات ضمنية تحيل إلى انتهاكات جنسية بدت لي قريبة من أنماط كتابة ما بعد كولونيالية، طالما عبّرت عن قضية التغلغل الاستعماري وانتهاك الأوطان بالإحالة إلى امرأة ينتهك جسدها. علما أن ترميز المرأة على هذه الشاكلة لم يلق قبولا لدى فئات ارتأت أن المرأة تخسر باعتبارها إنسانا حين تحول إلى رمز، بل ذهب البعض إلى أن الوطن نفسه يخسر حين يرمز له بكائن لا حرية له.
في كل الأحوال يتكرر هذا الحس الأنثوي في تعبير الروائية عن بطلتها (مريم) القادمة من الكاميرون والمقيمة في أمريكا، التي ترسم ملامحها من خلال لغة أدبية منتزعة من الطبيعة، كان القصد منها التعبير عن وجود ممزق ومنشطر بين ثقافتين، فعينا مريم «حجرا زفير إفريقي حملتهما موجتان إلى شاطئ غريب»، وجلدها «تبر يلتمع في تربة خصبة إذ تلفحها أشعة شمس»، أما شعرها «فقلائد من مئات الجدائل الرفيعة ضفرتها أمها على شاطئ يطل على المحيط الأطلسي». على حين يبدو قوامها رمحا «لم تستطع أرض إفريقيا أن تحجز انطلاقه، فمضى سادراً خارج الحدود يبحث عن ذات يحققها». ليكون الرسم على هذه الشاكلة مقتلعا مما أرادت لكاتبة أن تطرحه عن هوية إنسانية تستمد خصوصيتها من طبيعة تحيط بها، وبالتالي يحضر سؤال التوزع بين بيئتين مرتبطا بسؤال التوزع بين ثقافتين، لذلك رأينا نصائح والدة مريم وقد ازدادت تعقيدا مع نهاية كل ضفيرة تربطها لها خشية من مجتمع غريب لا تشبه قيمه ما تربت عليه مريم في الكاميرون.
هل في ما تقدم إحالة إلى رومانسية؟ وهل بإمكاننا الآن استعادة شيء منها في ظل ظروف العصر التي نعيشها؟ أجيب بنعم، لأن الرومانسية بكل بساطة نزعة أدبية قادرة على إعادة إنتاج نفسها وتلبية احتياجات البشر كلما أصابتهم تعقيدات الحضارة أو جفاف في العالم، بل وأجدني منسجمة مع دارسين يرجعون جذور الرومانسية إلى ما في العالم من عذاب، بل ويرون احتياجا متزايدا لها لا يتناقض واتساع حالات البؤس والتعاسة التي يعيشها العالم.

كاتبة أردنية

الطبيعة بخصوصية نسوية

رزان إبراهيم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الدكتورجمال البدري:

    تحياتي لصاحبة القلم الذهبيّ الدكتورة الفاضلة رزان إبراهيم.سيدتي : ليست الطبيعة فقط لها خصوصية نسوية أوأنثوية بل الحضارة أصلاً هي (أنثوية) بامتياز.فالأنوثة المعادل للنسوية ؛ فهي الملح الذي يغسل جراح الأحزان لنرى فرح الرومانسية ؛ رغم العذابات اليومية في هذه الأرض.
    مزج جميل بين الفكرة والمثال ؛ كالنظرية والتطبيق ؛ وهذا نوع من النقد الاستثنائي يقع ضمن تشخيص الموضوع برؤية جمالية عالية المستوى.
    فهونقد بنّاء من دون تجريح ؛ لكنه مديح من دون مراء وتسطيح ؛ خالص التقديرللكاتبة.

  2. يقول مشري احمد الجزائر:

    قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ

  3. يقول Ossama Kulliah أسامة كليَّة سوريا/المانيا:

    السيدة الكاتبة رزان إبراهيم اسمحي لي أن أعطي رأي كقارئ عام بما لست أديبا أو من “النخبة”. يبدو لي أو حسبما شعرت بقراءة المقال أن رأي كارول كريست يختصر جزءاً لا بأس به من المقال ويبدو لي أن اللامرئي هنا ليس إلا وجها من وجوه التفكير التجريدي البعيد عادة عن العالم المحسوس وهو عام وليس خاص ولا أجد هنا خصوصية لطبيعة المرأة بقدر ماهو سلوك إنساني عام ولكن ربما ينطبق على سلوك المرأة بشكل أقوى. وطبعا بما أني لا أتابع الأدب والقصص يبقى رأي عموما مرتبط بقراءة لست عميقة المقال.

  4. يقول داود - الأردن:

    لله در القلم حينما يغدو للكلمة سيدا , وللحق سيفا , وللفكر سيلا … إلى الأمام دكتورتنا الراقية .

إشترك في قائمتنا البريدية