السعودية: تجميد الراتب من تجميد السياسة

حجم الخط
3

قد يستغرب أي مراقب للشأن السعودي اللغط المتزايد الذي سببته حملة الكترونية في تويتر تحت عنوان ‘الراتب ما يكفي الحاجة’ الذي اخذ ابعادا محلية وعالمية حيث انتشر بسرعة وجمع مشاركين تتجاوز اعدادهم الآلاف من الذين وضعوا بصماتهم تحت عنوانه مطالبين بزيادة المعاشات في ظل تضخم قلص القدرة الشرائية للريال السعودي فخرج الى العلن حجم المعاناة التي يعيشها الموظفون المستلمون لرواتب شهرية لا ترتفع مع ارتفاع اسعار السلع والخدمات وتناقص القوة الشرائية للاكثرية الساحقة من الشعب السعودي.
ومن خلال متابعة المشاركات في هذا الوسم الالكتروني يبدو انه تحول من مطلب اقتصادي حقيقي الى ما هو اكبر من ذلك بكثير حيث اسقط عليه المشاركون سلسلة من الآراء والمفارقات التي تتجاوز راتب الموظف المجمد وضائقته الاقتصادية خاصة في شهر رمضان حيث انه اشترك بمعاناته مع شعوب عربية اخرى ليس لحكوماتها من الدخل النفطي الذي تتمتع به السعودية.
وتحولت المشاركات الى ادانة واضحة وصريحة لسلسلة من السياسات السعودية أهمها المعونات التي تقدمها الدولة لدول الجوار العربي وثروات الامراء ومشاريعهم الاقتصادية وهيمنة بعض التجار على مواد السلع الاستهلاكية وتلاعبهم بالاسعار واحتكار السوق بمجملها. وعلى خلفية شعبية هذا الوسم الالكتروني خرجت اصوات تندد بطمع المواطن وتدين المطلب وترجعه الى اعمال المتربصين بالوطن بل تعتبره مطلبا غير شرعي يساهم فيه اعداء يهيجون المواطن ضد القيادة وتدعوهم للصبر على الضائقة مذكرة إياهم بان الله وحده هو من يوزع الارزاق مما ادى الى مزيد من المشادات الكلامية لتفنيد مزاعم خصوم الوسم والتشديد على كونه حقيقة تفضح مقولات النعمة التي يعيشها المواطن في ظل الدولة الريعية والتي يزعم الكثير من الناشطين الالكترونيين انها اصبحت موجهة للخارج اكثر من الداخل حيث ينتقد هؤلاء اي خبر عن مشاريع السعودية الخارجية كبناء وحدات سكنية في دولة ما او الدعم المالي لحكومات عربية اخرى بينما يظل المواطن مشغولا بتلبية حاجاته المعيشية منتظرا الراتب المجمد والذي تتهاوى قدرته الشرائية مما يؤدي الى تكدس الديون عليه.
وحتى هذه اللحظة تمتنع القيادة الرسمية عن التفاعل مع حملة الراتب ما يكفي الحاجة بشكل واضح بينما تتكاثر ردات الفعل على صفحات الاعلام الرسمي منها المؤيد للحملة ومنها من يشجبها. ويتمنى البعض ان تخرج القيادة بخبر زيادة الراتب حيث يتزامن هذا مع فرحة العيد وبانتظار مثل هذه الفرحة يظل الوسم ناشطا يشد اليه كلمات لاذعة تعكس الاحتقان والغضب الشعبي من قلة الحيلة والتدبير مستعرضة بانوراما معاناة قد تبدو فردية الا انها غير ذلك على ما يبدو مستشهدة بالصورة اطياف متنوعة من افرازاتها تأتي على خلفية الاعلان الرسمي عن مشاريع تنمية المواصلات في مدينة الرياض بكلفة باهظة تؤكد للمشاركين حجم السيولة وفائض الميزانية المتوفرة للنظام ناهيك عن المخزون المالي المتكدس في البنوك العالمية والمحلية.
وان كانت حملة الراتب ما يكفي الحاجة عفوية في بدايتها ذات أهداف اقتصادية بحتة الا انها اتخذت ابعادا سياسية بلا شك حيث يظل قرار زيادة الرواتب مرهونا بارادة القائمين على تسيير امور الدولة وترتيب اولويات الصرف فيها والتي تخضع عادة لمعايير الميزانية المعلنة سنويا حسب الاجراءات السابقة. ورغم ان الحملة جيدة في اهدافها ومضمونها الا ان عليها تحفظات تتعلق ليس فقط بوسيلتها بل بأسلوبها وآنيتها.
فهي منذ البدء تستثني الجيش العاطل عن العمل الذي ليس له اي معرفة بالراتب الشهري سوى اقلية استلمت القليل من المعونات الشهرية تحت نظام حديث ولكن لفترة لا تتجاوز السنتين يتندر البعض بان هذه المعونة الآنية لا تكفي مصروف الشباب العاطل الذي يتزايد رغم كل المحاولات لزيادة معدلات التوظيف وتوسيع المشاركة بالاقتصاد الوظيفي. بالاضافة الى استثناء هذه الشريحة الشبابية المهمة من حملة الراتب ما يكفي الحاجة نجد ان المطالبة بحقوق الموظف والتي منها زيادة الراتب بما يتناسب مع حجم التضخم لا يمكن ان تكون آنية او عفوية بل يجب ان تكون هرمية استشرافية للحالة الاقتصادية تسبق وصول المواطن الموظف الى مرحلة استجداء زيادة طارئة تكون ردة فعل على احداث سياسية صرفة تماما كما حدث عندما اعلن الملك عن حزمة اقتصادية لحظة اندلاع الثورات العربية منها توسيع حلقة التوظيف ودعم القطاع الصحي والتعليمي لفترة مستقبلية طويلة لا يبدو انها لبت مطالب المواطنين بنصيب عادل من الثروة النفطية.
والملاحظة المهمة تدور حول آلية المطالبة بالحقوق المشروعة في دولة تحرم المواطن فلا تنظيمات عمالية او مهنية تستطيع ان تضغط بفاعلية من اجل انتزاعها قد تلجأ الى اساليب مشروعة كالاضراب العام او الاعتصامات لتفرض نفسها على الساحة كقوة تمثل الموظفين من الكبير الى الصغير وبدون مثل هذه التنظيمات يظل الوسم الالكتروني خاضعا لارادة النظام ولن يجبره على الرضوخ للمطالب الا اذا شعر انه سيحقق مكاسب اخرى فيلبي الطلب ليس من مبدأ الاستماع لهذه الشكاوى بل من مبدأ تكريس موقعه كوهاب للحقوق بالاسلوب الابوي السلطوي المعتاد.
وقد يكون مثل هذا الاسلوب صالحا في فترات سابقة عندما كان المجتمع صغيرا محدودا في بيئته لكن في دولة حديثة ومجتمع كبير عادة تنتقل الشعوب من لحظة الاستجداء ومفاجآت القيادة الى لحظة تأطير الحقوق بسلسلة من المؤسسات التمثيلية المدنية وتنهي حقبة العلاقات المشخصنة واستجداء الحقوق. ويصبح العمل علاقة مؤطرة بقوانين تشمل الجميع وتضمن لهم الحق بالتمثيل العمالي والمهني والتي لا يجب بأي حال من الاحوال ان تكون محصورة بالمواطنين فقط بل تجمع تحت رايتها المطالبة بحقوق اليد العاملة الوافدة وتنعدم حالة انقسام العمل على اساس وطني واجنبي عندها فقط تنتقل السعودية الى مرحلة الدولة الحديثة التي ينتفي فيها التمييز بين قيمة العامل المحلي والعامل الاجنبي لكن لن تقبل السلطة السياسية باندماج الحقوق لان سياستها تعتمد على التمييز كآلية لفصل المحلي عن الوافد حيث يشعر الاول انه اعلى مرتبة من اليد العاملة الاجنبية وله حقوق تميزه عنها وقد استساغ البعض هذه الحالة ربما لانه يستفيد من توفر يد عاملة اجنبية رخيصة خاصة في مجال المهن والتي تعتبر وضيعة من منظور محلي. مقابل ذلك يتمتع المهني الاجنبي من جنسيات اوروبية او امريكية بصلاحيات ومدخول يفوق في بعض الاحيان راتب المواطن. فهذه الازدواجية في معايير وشروط العمل تخلق وضعا وظيفيا مختلا وتمييزا واضحا لن تحله حملة تطالب بزيادة الراتب كالحملة الآنية الحالية. ولن يعالج هذا الخلل الا سياسة اقتصادية تعكس وعيا بتداعيات الفرقة والتمييز كما هو حاصل الآن. الا ان الاقتصاد في السعودية يظل مكبلا بالسياسة حيث يستغل لدعم الولاء للسلطة وليس للتنمية الحقيقية التي هي بدورها مرهونة بمتطلبات تتجاوز تأمين العيش الكريم والابتعاد عن العوز بل ربما يظل العوز سياسة ترهن المواطن لارادة السياسي حتى يتحرر وتكتمل استقلاليته التي بدورها قد تتطور لتتحول الى المطالبة بالاستقلالية السياسية ذاتها مما يعجل في مطالب مشروعة كالحق بالتمثيل السياسي وطالما ظل المواطن مشغولا بتدبير اموره المعيشية كلما ترددت اهتماماته بما هو ابعد من ذلك بكثير.
الا ان المواطن اليوم اصبح مطلعا على انماط حياتية متقدمة خاصة في دول الخليج المجاورة ويقيس انجاز حكومته المحلية بتلك المتوفرة في دول غنية نفطيا استطاعت ان تؤمن لمواطنيها القليل عددهم بالنسبة للسعودية الكثير من الرفاه والتنمية والسيولة النقدية مما يؤدي الى احتقان وتململ من الوضع السعودي الذي تعتبر فيه الرواتب الادنى على الساحة الخليجية. ورغم ان هناك فوارق واضحة في مستوى الحياة المعيشية بين السعودية من جانب ونظيرتها الاماراتية او القطرية الا ان العامل المشترك هو اعتماد كل هؤلاء على الدخل النفطي مما يجعل المقارنة سهلة على مستوى الوعي المجتمعي في السعودية نفسها ومن هنا تتضح صورة قاتمة للخدمات السعودية والتي اصبحت عصية حتى على اولئك المتلقين للرواتب الحكومية المجمدة ناهيك عن العاطلين عن العمل خاصة من شريحة الشباب.
رغم التحفظات على الحملات الالكترونية الا انها تحولت الى متنفس ونافذة للتعبير عن الرأي يقيس بها المراقب التوجه المجتمعي السعودي بغياب الوسائل المعروفة وربما تساعد في المستقبل القريب الانتقال من العوالم الافتراضية الى ارض الواقع حيث هناك الامل في تحقيق مكاسب واضحة بصورة اكثر تأطيرا وفعالية فتجميد الراتب ما هو الا رمز لتجميد السياسة ومحاولة السلطة السعودية عزل المجتمع عن القرار السياسي.

‘ كاتبة واكاديمية من الجزيرة العربية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول صلاح منصور/ابو السوس:

    لا احد يعرف المزرعة السعودية بقدر الدكتورة مضاوي الرشيد، مقال في قمة التحليل…انسانة رائعة

  2. يقول محمد العياشي:

    لقد وضعت يدك على الجرح و شخصت الداء

  3. يقول خربان بن عربان:

    ترى ما هي أسباب التضخم في بلاد مثل السعودية غني بالنفط مترامي الأطراف مساحته تعادل مساحة أوروبا الغربية و تعداد سكانه 25 مليون تقريبا و مواسم العمرة و الحج تدر عليها المليارات و بلا توقف و على مدى العام و أمن من عند الله قال الله تعالى:
    أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا و لكن أكثرهم لا يعلمون .

إشترك في قائمتنا البريدية