طالما تعرضت ثنائية المنفى والملكوت إلى اختزالات جغرافية وسياسية، وإذا كان لمفهوم المنفى عدة دلالات ومستويات فإن ذلك يفضي بالضرورة إلى تعدد معاني الملكوت، وبالتالي تعدد دلالات العودة، واللاجئ أو المهاجر رغما عنه يقترن دائما بالعودة، لهذا كان هذا الوتر هو الأشد حساسية في الدراما الفلسطينية، الجيل الذي اقتلع من وطنه عام 1948 خصوصا من الشعراء عاد، لكن بالمعنى الرمزي وبعد أن تخفف من حمولة الجسد.
ورغم اقتصار هذا المقام على الشاعر أحمد دحبور الذي اختزله النقد إلى ولد فلسطيني يروي حكاية فإن العودة الرمزية تشمل شعراء آخرين أيضا، حالت سلطات الاحتلال دون إعادتهم في التوابيت إلى مساقط رؤوسهم فعادوا على متون قصائدهم؟
أحمد دحبور الذي تفجرت موهبته في سن مبكرة لم يرتهن للموهبة وحدها، وسعى قدر ما استطاع إلى تثقيف نفسه، وكتب في النقد والتأملات واجتذبته سجالات عديدة بصفته طرفا أصيلا في المعادلة الثقافية الوطنية. ومنذ لثغ أحمد بالقصيدة الأولى، كان سؤاله البريء قد بدأ يتحول إلى مساءلة تاريخية وأخلاقية لمن أنجبوه وتركوه في العراء، فهو ينتمي إلى أمة يباع فيها ويسرق حتى المطر، كما قال، وينتسب إلى واقع يكبر الفقراء فيه فيقتلون ويقتلون.
اما الشعراء فالناجون منهم من الوأد نحتوا أقلامهم في الصّبا من عظم سيقانهم، ونحتوا عصيهم وناياتهم في الشيخوخة من عظام جماجمهم، فالمرحلة كما وصفتها فدوى طوقان جبلية وصعبة، الولد الفلسطيني الذي كان توأم التراجيديا، ثم أصبح شاهدها كان طاعنا في الحزن والحنين، واستكمل أدواته قبل الإنترنت وسلالاته الافتراضية، وقبل أوسلو أيضا، لهذا كان اشتباكه شأن معظم ابناء جيله مع التأقلم عنيفا، وحاسما واختار أن يعود أولا إليه لأن من لا يعود إليه قاطعا هذه البيداء من الاستلاب القسري والاغتراب لن يعود إلى المنبع.
أحمد دحبور من أكثر ابناء جيله إخلاصا للشعر، لهذا لم يتقن تلك الحرفة المضادة لكل إبداع وهي العلاقات العامة ولم يستطع أن يكون مدير أعمال لأشعاره ومجمل كتاباته، والحرب التي خاضها كانت مزدوجة، فهي مع غربته أولا، ثم مع جسده الذي اشتبك معه مبكرا، لأن البدن كما قال ابن عربي دابة قد لا تقوى على حملها الروح.
وحين كتب أحمد دحبور مقالة طويلة نشرت في «الكرمل» عن أبناء جيله من الشعراء الفلسطينيين تخطى بمناقبية جديرة بالعرفان ما أفرزه التحاسد من أمراض نفسية واجتماعية، ولم يعد أسير مرآته كنرجس الذي شغلته نفسه عن كل ما عداها، وحاول ببراءة إنصاف ابناء جيله، لكنهم لم ينصفوه، لهذا رحل وله ديون علينا جميعا، فهل كان على أحمد أن يعتذر عن غنائيته لأصداء الخوار والعواء والفحيح؟ وعن سلامة لغته وبلاغتها لمن يرطنون؟
والشاعر الذي قال ذات عودة ناقصة بغير هذا جئت، كان يعي أن هناك إشباعا كاذبا لرغبات وأحلام مُزمنة، وحين حاول أن يروي ظمأه من السّراب تشققت شفتاه ولاذ بما تبقى من رحيق.
الموت الذي لن يفلت منه الذين بقوا على قيد الحياة والشعر معا، ليس مناسبة لتبرئة أو وداع مشحون بالاعتذار، ونحن ورثنا في ثقافتنا تعاليم اسخريوطية تعيد صلب المصلوب وقتل الموتى، لأننا سرعان ما ننفض عن ثيابنا غبار القبور ونخون موتانا تحت شعار قد يكون الأقبح والأردأ في تاريخ الأقوال الموروثة والمأثورة وهو «كلب حي خير من أسد ميت»، وبالتالي شاعر له فضيلة تذكيرنا بغياب الشعر على شاعر يرشح الشعر من شاهدة قبره وحفيف الأشجار التي تحرسه.
وإلى أن ينال أحمد دحبور ولو شيئا من حقه في الاستقراء والنقد والعرفان، أقول بلا تردد إنه شاهد عقد السبعينيات بامتياز أخلاقي وله قصائد هي بمثابة وثائق وجدانية سوف تحملها الذاكرة الوطنية إلى أحفاد أحفاده.
ويندر أن تبقى على المودة والصلة الدافئة مع شاعر من جيلك لعدة عقود لكن أحمد اتاح لنا ذلك، لأنه لم يئد الطفل الذي اصطحبه ورعاه في رمل الكراهية والحسد والتنابذ، ولأنه لم يولد في فمه ملعقة ذهب أو حتى نحاس بل هي ملعقة من رحيق لهذا لم يعلفه أحد بالسكر المطحون، بحيث يفرز عسلا مغشوشا ليس فيه شفاء للناس. ولأن المنفى كان ناقصا فإن العودة بالضرورة تكون أشد نقصانا وهذا ما أعنيه بالقول إنه عاد على متن قصيدته وليس على متن طائرة أو سفينة شراعية أو عربة تجرها البغال، وكان عليه أن يعود إلى نفسه أولا كي يتهجاها جرحا جرحا، ونصلا نصلا ثم يشرع في اجتراح الطريق الموحش الذي يشح فيه الماء والزاد والرفيق كما يقول ازرا باوند.
هكذا يعودون، بعد أن يخلعوا أجسادهم، فلا تعترضهم حواجز ولا تدمغ أوراقهم فيزا قاطع الطريق إلى حيث لثغوا بالحرف الأول وبالسؤال الأول.
إن لدينا من فائض الفقدان والغياب ما يكفي لتحويل الحزن إلى غضب والاسئلة إلى مساءلات وشبه الوطن إلى وطن.
٭ كاتب أردني
خيري منصور
سلمت أناملك، قول جميل من قلم جميل يرد لشاعرنا الكبير احمد دحبور الجميل
.4.201717
يا عزيزي خيري تمتعت بمقالتك عن عزيزنا المرحوم أحمد دحبور، كما أفرح بكل مقالاتك التي تنشرها.
صحيح أن شاعرنا أحمد دحبور في السنوات الأخيرة ابتعد عن صدارة الموقف الشعري والسبب يا عزيزي الأمراض التي تناوبته وألزمته الفراش . فقد ترك الضفة لفترة وانتقل ليقيم في غزة، وبسبب انفصال غزة بتحكم حماس بها انقطع أحمد عن أهله وأصدقائه في الضفة، ثم عرفنا أنه سافر إلى سوريا وهناك اشتد عليه المرض وكان الموت يراوده ويكاد يقضي عليه، ثم بعد العذابات الكثيرة وتفجّر الأوضاع عاد ليعيش بين أهله في الضفة سنوات عمره الأخيرة، ولم يدعه المرض يعيش حياته الطبيعية ،وهذا مما أثر على عطائه ونشاطه رغم أنه كتب العديد من المقالات النقدية ، لكن الشعر تراجع قليلا في ابداعه في الفترة الأخيرة.
أحمد دحبور نال محبّة وتقدير كل مَن عرفه . وأنا التقيت به لأول مرة في مطار تونس عندما كان في استقبالنا أنا ومحمد علي طه عام 1994 وقضينا برفقته أسبوعا كاملا.
فقدنا للغالي أحمد كان صعبا خاصة وكانت علاقتنا به قوية وقد التقيته المرات العديدة في رام الله وبلدتي الرامة وحيفا. وكتب عن كتابين لي الأول “سميح القاسم مبدعا لا يستأذن أحدا” والثاني ” إميل حبيبي المثقف الإشكالي”
تحياتي لك وأنا في انتظار مقالاتك الأتية.
الرامة – فلسطين