بدت الولايات المتحدة، بعد ضربها مطار الشعيرات، شرقي حمص، كذلك السائق الذي يشير إلى اليسار ثم ينعطف يميناً، على ما تقول عبارة سورية شائعة في وصف الحالات المماثلة. فقبل أقل من أسبوع، كان الطاقم الدبلوماسي في إدارة ترامب قد طمأن بشار الكيميائي بصدد نوايا الإدارة الأمريكية الجديدة تجاه نظامه: الأولوية لمحاربة داعش، والشعب السوري هو من يقرر مصير الأسد، قال وزير الخارجية ريكس تليرسون، وسبقته المندوبة الأمريكية في مجلس الأمن بقولها إن تغيير النظام في سوريا «لم يعد» أولوية أمريكية، وكأن هذا الهدف كان يحظى بأي أولوية في عهد أوباما.
فجأةً تغير كل شيء في خطاب أركان الإدارة وأفعالها معاً: بين تهديد ترامب للنظام بالعقاب على استخدامه للسلاح الكيميائي في بلدة خان شيخون، وضرب مطار الشعيرات بصواريخ التوماهوك، ساعات قليلة وحسب. كان الرجل يتناول العشاء مع ضيفه، الرئيس الصيني شي جين بينغ، على ما سيخبر الإعلام لاحقاً، حين تم إبلاغه بجاهزية الصواريخ المعدة للإطلاق، بما في ذلك توجيهها نحو الأهداف المحددة. فأعطى الأمر بالإطلاق. وحين انتقل الرئيسان إلى تناول حلوى ما بعد الطعام، أُبلِغَ بالتنفيذ. «كانت حلوى لذيذة بقطع الشوكولا الرائعة»! قال ترامب وهو يصف تلذذه بإخبار ضيفه بالعملية. «استمع إليّ بصمت وبتعابير وجه محايدة» قال ترامب، وكأنه كان يصف، مجازاً، امتناع الصين اللاحق عن التصويت في مجلس الأمن، تاركةً روسيا وحدها في الفيتو ضد مشروع قرار يطالب بالتحقيق في مجزرة الكيميائي في خان شيخون. طيلة حملته الانتخابية، وبعد فوزه بالانتخابات ثم استلامه منصب رئاسة الدولة الأولى في العالم، دأب ترامب على مهاجمة الصين وإطلاق التهديدات نحوها، مقابل مغازلة علنية لروسيا ورئيسها بوتين، بل إنه لم يتوان عن إبداء إعجابه ببشار الكيميائي نفسه بوصفه «مكافحاً للإرهاب»! وها هو، اليوم، يستميل الصين بضغط «ناعم» ويضع روسيا في الهدف، ومعه تابعه السوري بطل الكيميائي والبراميل المتفجرة.
استجابت الصين لهذا الضغط الناعم، وبدأ ابتعادها عن روسيا، وربما عن كوريا الشمالية التي يستهدفها ترامب أيضاً برسائل شديدة الفتك: التوماهوك في سوريا و«أم القنابل» MOAB في أفغانستان (تستخدم للمرة الأولى)، بعد تحريك قطع من أسطولها الحربي قريباً من «الدولة المارقة» لصاحبها كيم جونغ أون. وهكذا رأينا الصين تنصح محميتها كوريا الشمالية بوجوب التفاهم مع الولايات المتحدة. نذكر، في هذا السياق، أن الإدارة الأمريكية خفضت كثيراً من بنود ميزانيتها المالية للسنة 2018، باستثناء ميزانية الدفاع التي من المحتمل أن ترتفع بصورة قياسية ما لم يتم تغيير ذلك. أي أن إدارة ترامب هي إدارة حرب يتألف أركانها من جنرالات سابقين ورجال أعمال.
هناك، إذن، انعطافة كبيرة وشاملة في السياسة الخارجية الأمريكية، سواء بالقياس إلى عهد أوباما الذي يتعرض لهجوم كبير من ترامب وفريقه، أو بالقياس إلى بعض تصريحات أركان الإدارة الحالية، إلى ما قبل ضرب الشعيرات. غير أن مؤشرات كثيرة كانت تنبئ بشيء من هذه الانعطافة، حتى قبل الهجوم الصاروخي. تتعلق تلك المؤشرات، عموماً بتغير في خطاب دول حليفة للولايات المتحدة كالسعودية والأردن وإسرائيل على سبيل المثال. عودة الدفء إلى العلاقات السعودية ـ العراقية كانت مؤشراً مبكراً على أن تصعيد إدارة ترامب تجاه إيران هو في غاية الجدية. أما الأردن، فقد تدخل عسكرياً في جنوب سوريا، للمرة الأولى منذ بداية الحرب، وطرح نفسه شريكاً في مسار أستانة، في انقلاب واضح على السياسة الأردنية المتبعة، إلى حينه، تجاه الصراع في سوريا. كذلك يمكن تلمس مؤشرات التغيير الأمريكي في الغارة الجوية التي نفذها الطيران الإسرائيلي، قبل أسبوعين، على أهداف لحزب الله، وأين؟ قرب تدمر! ثم أعلنت إسرائيل عن الغارة، بخلاف مسلكها المعتاد في الامتناع عن تبني غاراتها الكثيرة ضد أهداف داخل الأراضي السورية. كما أنها ردت بقسوة على محاولة أنظمة الدفاع الجوي للنظام الكيميائي اعتراض الطائرات الإسرائيلية: فهذا الرد الفاشل من النظام، للمرة الأولى في تاريخ الغارات الإسرائيلية، قوبل بتهديد إسرائيلي صريح: إذا تكرر ذلك سنقصف دفاعاتكم الجوية! لا الأمريكي اعترض على الغارة والتهديدات الإسرائيلية، ولا الروسي الوصي على نظام دمشق وسماء سوريا.
فهل كانت تصريحات تليرسون ونيكي هايلي المطمئنة للأسد مجرد فخ فشل بطل الكيميائي في مقاومة إغرائه؟ إغراء الاختبار العملي لتلك التطمينات؟ هذا محتمل بقوة بالنظر إلى أنه من غير المنطقي، في سياسات الدول، أن يغيِّر حدث كمجزرة خان شيخون تلك السياسات تغييراً من النقيض إلى النقيض، بـ«دوافع إنسانية» ما لم تستخدمها الدولة المعنية كذريعة لتوجهات مبيتة أصلاً. فما بالكم إذا كان الأمر يتعلق بدولة كالولايات المتحدة، وبقيادة الحزب الجمهوري، وهي صاحبة السابقة المعروفة في العراق: حين شجعت السفيرة الأمريكية آنذاك، إبريل غلاسبي، الرئيس العراقي صدام حسين، بصورة مواربة، على غزو الكويت، فوقع في الفخ المنصوب له، وكانت بداية نهاية نظامه.
هناك تشابهات إضافية بين الحالتين: استطاعت الولايات المتحدة أن تجمع طيفاً واسعاً من الدول المهمة على تأييد ضربته لمطار الشعيرات. فباستثناء روسيا وإيران، أيدتها جميع الدول تقريباً، بما فيها نادي السبعة الكبار الذي اجتمع وزراء خارجيتها في إيطاليا، واتفقوا على تقرير مصير بشار الكيميائي خارج السلطة. وأعطوا روسيا فرصةً للتعاون بهذا الصدد بدلاً من الصدام. كما أيدت الضربة الأمريكية دول إقليمية تم استدعاء وزراء خارجيتها إلى هذا الاجتماع، لإعطاء انطباع قوي لروسيا حول إجماع أمريكي ـ أوروبي ـ عربي ـ تركي حول وجوب إبعاد الأسد عن السلطة، مدخلاً لحل الصراع المديد الدامي في سوريا.
واستخدم الروسي السلاح الوحيد الذي يملكه في مواجهة الولايات المتحدة والغرب: الفيتو في مجلس الأمن. علينا ألا نستغرب إذا كان هذا آخر فيتو يستخدمه بوتين في مجلس الأمن بخصوص الصراع في سوريا. فالأمريكي الذي استبق القول بالفعل، تصرف أصلاً من خارج مجلس الأمن، وأظهر العزلة الدولية الخانقة لروسيا مقابل التفاف الحلفاء التقليديين لواشنطن في مساندة سياستها الهجومية. عزلةٌ حتى عن الشريك الصيني الثابت في قرارات الفيتو بخصوص سوريا.
ماذا بعد؟ هل سيكون هناك صدام بين الأمريكيين والروس؟ إذا كرر الأمريكيون ضرب أهداف جديدة تخص النظام الكيميائي، هل سيردعهم الروس، بما يعنيه ذلك إشعال حرب بين الدولتين؟ أم أن الأمر لن يحتاج أصلاً إلى ضربات جوية جديدة ضد أهداف عسكرية للنظام الكيميائي؟
ما خرج من اللقاء الأول بين سيرغي لافروف وريك تليرسون في موسكو لا يوحي أبداً باحتمال حدوث أي صدام بين الطرفين، رغم وضوح التباين السياسي بينهما بصدد سوريا. فالمهم في هذا اللقاء هو إعلان موسكو عن استمرار التعاون بين الدولتين في الشأن السوري، واستمرار التنسيق العسكري بينهما فيما خص تجنب وقوع صدامات بين الطائرات الأمريكية والروسية في الأجواء السورية.
هذا يعني أن «الرسالة الأمريكية» القوية قد وصلت، كما يقال، سواء لروسيا أو لتابعها في دمشق (ومن ورائه إيران). وفي جعبة الأمريكيين أوراق ضغط وتهديد لبوتين كفيلة بإرضاخه: مسؤوليته عن فشل الصفقة الكيميائية، في العام 2013، وهي الدولة الضامنة للنظام، بدلالة احتفاظ الأخير بكميات من غاز السارين استخدم جزءا منها في ضربة خان شيخون. بل مسؤوليته المحتملة عن ضربة خان شيخون ذاتها: فالخبراء الروس كانوا موجودين في مطار الشعيرات الذي انطلقت منه الطائرات التي قصفت خان شيخون بالسارين. هذه الورقة الأخيرة تكفي وحدها لابتزاز الروس من أجل تغيير سلوكهم في سوريا باتجاه إرغام النظام على الدخول في حل سياسي حقيقي يشمل بصورة خاصة إبعاد بطل السارين عن السلطة.
والأمريكيون لا يريدون إسقاط النظام، بسبب مخاوفهم المعلنة بخصوص «الإرهاب» الجهادي. بل يريدون حلاً سياسياً يتضمن نقلاً منظماً للسلطة. وفي ذلك يحتاجون إلى تعاون روسيا في مجلس الأمن وعلى الأرض.
الأسابيع المقبلة حبلى بتغيرات كبيرة في سوريا وحولها وعليها. كل ما نتمناه أن يكون التغيير الأول على جدول الأعمال هو وقف حقيقي وشامل لإطلاق النار، وفك الحصار عن المناطق المحاصرة، وإنفاذ من تبقى من أسرى في معتقلات النظام المتوحش الذي لا يجيد سوى القتل والترويع بحق من هو أضعف منه، والتذلل والخضوع لمن هم أقوى منه.
بكر صدقي
قطعت جهيزة قول كل خطيب