المشاعر الغالبة في بيئة كل طائفة دينية – سياسية من لبنان أنّ «الأغيار» يهضمون حقّها، أو أنها تضحي أكثر من سواها من أجل الآخرين، وهؤلاء يجحدون صنيعها، أو ينكرون جميلها، أو يحسدونها على ما لها، كما على تفانيها بما لها. تارة تتخذ هذه المشاعر صيغة «مطلبية» كما لو كانت الطائفة «نقابة دينية» تسعى إلى تحسين أوضاعها ومكانتها على الدوام، وتارة تطغى النوبة «الوجودية» كما لو كان الضيم الذي تشعر به، يتهددها في كيانها نفسه، محاولاً استبعادها، وطمس وجودها أى الغاءه.
يبقى أن شعور عموم المسيحيين، وخصوصاً الموارنة، مختلف مبنى ومعنى عن شعور المسلمين، سنة وشيعة ودروز. طابعه مزمن وتراكمي، على الأقل منذ الحدث التأسيسي لذاكرتهم الراهنة، الذي شكلته المقاطعة المسيحية الواسعة لأول انتخابات تشريعية جرت بعد الحرب، عام 1992، اعتراضاً على قانون انتخابي اعتباطي استنسابي على نحو نافر، اعتمد المحافظة دائرة انتخابية بالنظام الأكثري في المحافظات التي أكثريتها الديموغرافية إسلامية، واعتمد القضاء دائرة لتشطير محافظة جبل لبنان حيث الأكثرية الديموغرافية مسيحية، نزولاً على اصرار الزعامة الدرزية وقتذاك. فرض نظام الوصاية السوري نفسه بشكل أوثق بموجب هذه الانتخابات، ضارباً عرض الحائط المنصوص عنه في اتفاق الطائف – الذي كانت أكثرية المسيحيين ترفضه في نفس الوقت. تجاوزت الوصاية الطائف ليس فقط من جهة قانون الانتخاب، بل ايضا لجهة اعادة انتشار القوات السورية نحو سهل البقاع الذي كان مقرراً ذلك العام، وكذلك لجهة استثناء مسلحي «حزب الله» و»حركة أمل» من موجبات حل الميليشيات.
كان للمسيحيين مشكلة أكبر مع نظام الوصاية في عقد التسعينيات من الطوائف الأخرى، وكانت بينهم وبين الطوائف الأخرى مشكلات مختلفة الأسباب والحدّة والمسار. تفاءل المسيحيون بأن مشكلاتهم مع باقي الطوائف، يسهل حلها بعد خروج الوصي السوري من لبنان، ويسهل حلها مع المسلمين الذين انحازوا شيئا فشيئا إلى المواجهة مع نظام الوصاية (الدروز ثم السنة). فظهر خلاف ذلك بعد الجلاء السوري. لا الانقسام بين «8 و14» آذار، ولا الانقسام السني الشيعي، نجحا في تجاوز الاشكال المسيحي – الإسلامي. المفارقة ان الاصطدام بالطوائف التي شاركت المسيحيين في المعركة السيادية بدا أكثر حيوية من الاصطدام مع الطائفة الشيعية، رغم إسلاموية «حزب الله» وخمينيته، وكثرة ما يمتلكه من سلاح خارج عن امرة الدولة وحروبه ما فوق الوطنية. يمكن ان يفسّر ذلك بأن الاصطدام مع الشيعة، ومع «حزب الله»، مكلّف أكثر بالنسبة إلى المسيحيين. ويمكن تفسيره بأنه صراعهم مع الدروز على جبل لبنان، كمركز للكيان، ومع السنّة حول فكرة العاصمة ومكانتها الاقتصادية والتجارية، مقدّم على المشكلة مع دويلة «حزب الله»، بل ان دويلة الحزب من شأنها التخفيف من الضغط الشيعي «للدخول إلى مؤسسات الدولة»، وبحيث يجوز الاكتفاء بتشييد «جدار آمن» مسيحي افتراضي بازاء هذه الدويلة (تفاهم مار مخايل لميشال عون مع الحزب، مقاومة البلديات المسيحية للتمدد العقاري والسكاني للضاحية الجنوبية الشيعية)، في حين لا يمكن بناء جدران آمنة افتراضية في نقاط الكباش المتحركة مع السنّة والدروز.
كانت للمسيحيين أكثرية برلمانية قبل اتفاق الطائف، فضلاً عن رئاسة بصلاحيات قوية نسبة إلى نظام برلماني. لم يمانع المسيحيون، منذ اندلاع الحرب، عن التخلي عن أكثريتهم العددية في المجلس النيابي والقبول بالمناصفة. مانعوا أكثر لجهة تمسكهم برئاسة قوية، وكان هذا بالذات سبب حماستهم لظاهرة العماد ميشال عون، وسلبيتهم تجاه «الطائف» لسنين طويلة، قبل ان يعود عون وينتخب رئيساً تحت سقف اتفاق الطائف، في مرحلة لم يعد للاقرار فيها بالطائف له دلالات تطبيقية واضحة، ولا حتى أخذه بعين الاعتبار عند الاعداد – الممتنع حتى الآن – لقانون انتخاب جديد.
يقول الطائف بالمناصفة في توزيع المقاعد النيابية والوزراء بين المسيحيين والمسلمين. لكنه لا يفصل في أمر أساسي: عدد النواب المسيحيين الذين يقررهم عملياً الناخبون المسلمون، بالمطلق، ما دام المسلمون اكثرية ديموغرافية، وبالملموس، حسب تقسيم الدوائر والمعايير المعتمدة وراء هذا التقسيم ونظام التصويت. يكتفي الطائف بمناصفة «الواصلين» إلى المجلس، ويزيد عليها ربط هذه المناصفة بالمرحلة الانتقالية، بحيث لا تعود مشروطة، او اقله ليست مضمونة مسبقا، في مرحلة ما بعد الغاء الطائفية السياسية، وهو الهدف الذي ربط اتفاق الطائف نفسه به، «كهدف نهائي».
يظهر اليوم، انه، رغم اجتماع الاحزاب المسيحية الرئيسية على القول بالطائف، فان الطائف اتفاق «غير ناطق»، بالنسبة إلى اشكالية المناصفة الإسلامية المسيحية، ان كانت مناصفة «في نقطة الانطلاق»، او في «نقطة الوصول»، إلا إذا اعتمد الطائف مدخلا جديا لصياغة القانون الانتخابي: المحافظات كدوائر انتخابية بعد اعادة النظر بالتقسيم الاداري. لا يحدد الاتفاق نظام التصويت المرغوب (اكثري او نسبي)، لكنه يصعب كثيراً تكييفه مع المطروح حالياً من «تأهيل على مستوى الطائفة»، تماماً مثلما يؤجل الطائف أي بحث في قانون انتخابي خارج القيد الطائفي، إلا فترة مرتبطة بتشكيل الهيئة الوطنية لالغاء الطائفية السياسية المشرفة، بموجب الاتفاق، على اعداد العدة، لهذا التحول المستقبلي.
في الموازاة، جاء لجوء الرئيس عون قبل أيام للمادة 59 من الدستور لتأجيل جلسة لمجلس النواب كان سيجري فيها التمديد مرة ثالثة لهذا المجلس، بسبب عدم الاتفاق على قانون انتخابي جديد، وعدم توقيع الرئيس على مرسوم دعوة الهيئات الناخبة، ليلاقي تأييدا شعبيا واسعا له، لا سيما بين المسيحيين. ليس لأن للشكلانيات الدستورية قيمة كبيرة بعد كل هذا التآكل المؤسساتي، بل لأن الرئيس تمكن من خلال هذه المادة، من اظهار نفسه بمظهر الساعي لاستخدام الصلاحيات الدستورية التي تعود له إلى حدها الاقصى، خصوصا وانها مادة «تسللت» إلى دستور ما بعد الطائف من «الدستور القديم»: دستور 1926. لهذا الاعتبار اهميته أيضاً: شكوى المسيحيين ليست فقط «تحصيلية لحقوق» او «حمائية لوجود»، انها الشكوى من اغتراب في وطن يعتبرون انه أسس لهم، قبل ان يكون قد أسس لاختبار العيش بين المسيحيين والمسلمين.
فالداعي الأساس لسلخ الكيان اللبناني عن بقية أنحاء سوريا بعد انتهاء الزمن العثماني، كان ايجاد حل كياني للمسألة المارونية، وليس بناء تجربة رسالية في العيش المشترك الإسلامي المسيحي لتدرس أو يبشّر بها على ما ستؤول اليه الأيديولوجيا اللبنانية «المجاملاتية» لاحقاً. بالتوازي، يعود النجاح في استمرارية «لبنان الكبير» في مقابل انهيار تجارب دولة العلويين، دولة الدروز، دولة دمشق، دولة حلب، إلى عوامل كثيرة، منها توسعة الكيان نفسه، عندما تبنت فرنسا ما طرحه الموارنة من مطالب على المنتصرين في الحرب الكبرى. لو بقي لبنان في حدود المتصرفية، لكانت الحرب السورية الكبرى الأولى في عشرينيات القرن الماضي قد انتقلت اليه بشكل تصادمي طاحن بين الموارنة والدروز مرة جديدة. صحيح ان هذه الثورة ـ الحرب تسربت إلى داخل الحدود اللبنانية وقتها، لكنها بقيت فيه تحت السيطرة، وهو ما سرّع من ثم تطور التجربة الكيانية اللبنانية في اتجاه دستوري منذ عام 1926. تهاوت تجارب الارتجال الكولونيالي لدولتي العلويين والدروز، في حين سمحت توسعة الكيان اللبناني بنقلة دلالية مهمة: «دولة الموارنة» عام 1920، تحولت عام 1926 إلى «دولة للموارنة». وكانت «دولة للموارنة» لأنها استطاعت أن تكون في نفس الوقت «دولة للمصرفيين» الذين هم في معظمهم مسيحيون من غير الموارنة.
في الموازاة، كانت دولة ذات تشكل دستوري في مجتمع سينبت جيشاً من المحامين، محامي الحق الخاص. بجيش المحامين هذا جرى تجاوز الأطر التقليدية لمجتمع الأعيان والمشايخ و»مشايخ الشباب» في جبل لبنان. لبنان الكبير كان إلى حد كبير تجربة كولونيالية فرنسيا ناجحة نظراً لهذين الازدهارين: المصرفيون المسيحيون غير الموارنة، والمحامون، الموارنة بنسبة عالية منهم آنذاك.
هذا الانتقال من «دولة الموارنة» (لبنان الكبير، 1920) إلى «دولة للموارنة» (الجمهورية اللبنانية، 1926) ترافق اذاً مع قيام تجربة دستورية، تتبنى النظام البرلماني، القائم على انبثاق السلطة التنفيذية من السلطة التشريعية، انما نظام برلماني من نوع خاص، لا تداول فيه في السلطة إلا في حدود النيابة: أما الحكومة فهي تبقى فيه بمثابة برلمان مصغّر، موجز لمجلس النواب، بدلاً من أن تتعاقب على الحكم الأكثريات حين تتبدّل في مجلس النواب.
لم تعد الدولة «للموارنة» بعد الحرب. إلا ان «الدولة» بقيت موجودة في مناطقهم كما في مخيلتهم أكثر من وجودها عند سواهم. لم يعد للدستور مكانة كانت له يوم كانت الدولة للموارنة. صار استحضاره استنسابيا حينا، وشكلانيا عبثيا حينا آخر. مع ذلك، بقيت تركيبة البلد إلى حد كبير محافظة على خاصيتي «دولة للمصرفيين» و»جيش من المحامين»، وكثيراً ما يحمل هذا الجمع، فضلا عن الحلم المسيحي بالرئيس المسيحي القوي، طعم الحنين لزمن كانت فيه الدولة للموارنة.
٭ كاتب لبناني
وسام سعادة