اهتزغنام بقوة وهرع صوب الساحة الفسيحة المسيجة بالأسلاك. سمع صوت امرأة تنادي باسمه، فتوقف وجعل يدور بعينيه وهو يبتسم من غير أن يراها. ظل يبحث عنها وهي تنادي وتلوح بيدها إلى أن أبصرها فاتجه نحوها بخطى حثيثة. هنأته حينما وقف أمامها بكلمات قصيرة كأنه لم يغب عنها سوى ساعات قليلة. ربما تمنى لو أنها أفردت ذراعيها في هذه اللحظة النادرة وضمته إليها بحرارة. لم تفعل، فانتفض فجأة وارتمى على صدرها، فلم تجد بدا من احتضانه مثل صبي ناحف عليل.لبث ناكسا رأسه للحظات، ثم رفعه وسار بجانبها بئيسا محمر العينين. الساعة الآن العاشرة صباحا. الشارع أقل اكتظاظا وصخبا. الوقت ملائم لتناول قهوة بطعم مر لذيذ لم ينعم به منذ سنوات. استدار ليتجه متمهلا صوب مقهى صغير كان يرتاده على انفراد من وقت لآخر. تبعته مديحة وتقدمت صامتة خطوة تلو أخرى حتى وصلا. أخذ غنام مقعدا في ركن منزو وجلست زوجته في مقابله. تطلعت إلى وجهه وتأملته مليا. لقد تغير بالكامل. أصابه ضمور شديد وصار مصفرا وكأن وجهه لا تجري فيه قطرة دم. طلب لنفسه فنجان قهوة، فيما مديحة طلبت عصير ليمون بدون سكر. تشمم غنام رائحة الفنجان قبل أن يرفعه إلى فمه ويعب جرعة طويلة، ثم ثانية، ثم أفرغ ما تبقى في جوفه دفعة واحدة. أصابعه كانت ترتعش. حمد الله كثيرا ورنا إليها كأنما ينتظر أن تقول له كلمة عن الحياة الجديدة التي يبدأها الآن. لم تقل شيئا. بدت لا مبالية وكأن هذه اللحظة لا تعنيها في شيء. ربما تعودت على غيابه، ولا شك أن أربع سنوات متتالية من الغياب كافية كي تنساه. لقد تمنت حينما صدر في حقه حكم بالسجن مدى الحياة لو أن هذا الحكم كان بالإعدام حتى يختفي تماما ويرتاح بالها. لم يحدث ذلك، فظلت تتردد على السجن في زيارات خاطفة، بل إنها في الشهور الأخيرة صارت تمده ببعض الطعام وعلب سجائر وتتركه من غير أن تنظر في وجهه. تفرس فيها لحظات ثم سألها: – هل أسعدك خروجي من السجن؟ قالت باقتضاب: – طبعا. لم تضف كلمة، فقال: – هل توقعت أن أغادر ببراءة؟ ردت عليه: – أنت دائما برئ. بدا متشككا وهو يقول: – أنا كنت دائما أنتظر هذه اللحظة، لكن انتظاري طال، لهذا عانيت كثيرا،فالمدة التي قضيتها في السجن قاسية، أربع سنوات كانت بمثابة أربعين سنة أو أكثر. الزمن في السجن له إيقاع مختلف. إنه بطيء و قاتل. ثم سألها: – ألم تشعري بالفراغ أثناء غيابي؟ ردت دون أن تفكر: – أكيد..الأيام الأولى كانت صعبة، أما بعد ذلك فتعودت على حياتي الجديدة وصرت أملأ كل وقتي بالعمل ومشاهدة الأفلام والمسلسلات، ولحسن حظي أنها كثيرة ومتنوعة ويمكن مشاهدتها في أي وقت. ثم سألته بعد برهة: – وأنت؟ أجابها بهدوء أنه كان يشعر بفراغ دائم. منذ دخل السجن وهو في محنة. كان يتغلب على متاعبه بتلاوة القرآن والصلاة، ويدعو الله دائما إلى أن ظهرت الحقيقة، فلا بأس إذا كان هذا الموعد قد تأخر، فالمهم أنه تم القبض على المجرم الحقيقي، وسقطت عنه هذه التهمة التي تمنى منذ دخل السجن أن يثبت يوما أنها باطلة. ثم رفع رأسه وتساءل كأنما يسأل شبحا معلقا في سقف المقهى إن كانت بهذا كله قد تأكدت براءته بالفعل. فردت عليهبصوت واثق أن عليه ألا يرتاب منذ الآن في براءته، وأن كل ما ضاع منه في السنوات الماضية سيعود إليه، فلا شك أن العدالة ستنظر في أمره وستمنحه مقابل هذا الخطأ تعويضا ينسيه ما لحق به من ظلم وما عانى من محن. كانت شفتاها الحمروان الرقيقتان تتحركان بخفة، وعيناها الصغيرتان تنظران كما لو من خلف ستار شفاف. رأته يلوي عنقه الطويل ويصمت. هل خجل منها؟ مكث يفكر لحظات ثم قال: – يلزمني محامي كبير ومتمرس. طمأنته: – هذا أمر هين. فتساءل: – صح؟ قالت: – طبعا، هذا ما ذكرت لي ابنتك، وأكدت لي أنها لن تذخر جهدا في مساعدتك، وأنت تعرف عفاف، إذا قررت أمرا فعلته. أشعل سيجارة وأخذ يسعل. طال سعاله. رشف جرعة ماء من الكوب الذي أمامه ليخفف من سعاله. بدا مثل مصاب بداء السل. توقف عن السعال وجعل يلهث. تسارعت أنفاسه وأخذ يترنح، فأمسكته مديحة خشية أن يهوي على الأرض. تماسك بعد دقائق. كان شاحبا منهكا كأنه عاد للتو من رحلة طويلة شاقة. أراد أن يشعل سيجارة أخرى فمنعته قائلة إنه إن أشعلها مات فوق مقعده من غير شك، فحالته ساءت بسبب التدخين دون أن يبالي بنفسه. تنهد وقال إن حالته ساءت ليس بسبب التدخين وحده، ولكن أيضا بسبب الطعام الذي كان يتناوله في السجن. واسترسل يتحدث عن أطباق العدس والفول القذرة التي تسبح على سطحها حشرات صغيرة يابسة. وكان الحارس يقدم إليه الطبق قائلا بازدراء إن هذا الطعام لا يستحقه وكان من الأولى أن يقدمه إلى كلب. وأحيانا كان يبصق أمامه فوق الطعام ويمده إليه كأنما يمد شيئا اشتراه من ماله. ومع ذلك، يأخذه شاكرا ويدعو الله أن يمتعه بالصحة، وحينما يختفي من أمامه يكيل له شتائم شنيعة ثم يبصق بين قدميه. عرفه منذ أول يوم جاء فيه إلى السجن،و كرهه في اليوم نفسه. ثخين مثل ثور، وفمه واسع رهيب كلما فتحه بدا أنه يقدر على ابتلاع رجل.قال لزوجته إنه يذكر أيام السجن كما لو أنه عاشها قبل ساعة، لقد طال الزمن فعلا، لكنه لم ينس شيئا. أكد لها بنبرة حاسمة أنه ولد مرة ثانية وأن الله منحه عمرا جديدا بعدما كان في وقت ما قد يئس تماما ولم يعد لديه شك في أن موعد حتفه قد حان. جدران الغرفة كانت تنبعث منها رائحة الموت، لذا صدق أن نهايته وشيكة، فهي قديمة ورطبة، مبنية من طين لونه أشبه ما يكون بلون الدم، وهو ممزوج بالتبن والأحجار الصغيرة، وتوجد في أحد أركان الغرفة الباردة كوة ضيقة يتسرب منها هواء قليل وضوء باهت ما يكاد ينتشر خلال الساعات الأولى من الصباح حتى يتلاشى فيشعر للتو أن الشمس قد غابت بالكامل وحل الظلام. موت حقيقي، وقد لبث شهورا طويلة وهو مدفون في الظلام إلى أن قدم رجل جاوز الخمسين من عمره ليقتسم معه مساحة الغرفة. في هذا الوقت خف عنه الحزن ونسي آلام بطنه ورأسه وقدميه، كما نسي أن الليل يبدأ في منتصف النهار. كان بمثابة قنديل أضاء زوايا الغرفة المعتمة، وأقبل على النكت والأخبار وبث الشكاوى بلا تردد أو خوف. وصار يجهر برأيه في قضايا الحياة والناس التي كان يجد حرجا في الحديث عنها، فيرفع صوته، ويتكلم بلسان طليق، حتى أنه يبدو أحيانا كما لو أنه يلقي خطبة على جمع من الناس والرجل الأصلع القصير يصغي إليه ولا يخفي إعجابه بما يسمع. هل كان يجامله؟ ربما، لكن غنام أكد لزوجته بما لا يقبل الشك أن الرجل لا يمزح، وهو على قدر كبير من الصدق يظهر معه أحيانا مثل رجل غبي يتصرف بسذاجة بالغة. ساعتها سألته عن مهنته ومالت برأسها نحوه لتصغي إليه، لكنه رفع بصره والتفت يمينا وشمالا كأنه خشي أن يسمعه أحد وصمت. انتظرت قليلا فلم يجبها، ثم سألته مرة أخرى فقال لها: – لماذا هذا الإصرار؟ ردت عليه: – مجرد فضول. قال: – الحقيقة أنني لا أعرف عمله بالضبط، حكى لي الكثير و لم يتبين لي شيء، ربما أخفى عني عمله الحقيقي، أو أنه يمارس أعمالا كثيرة متنوعة، إنه صريح، لكن بعض الأمور لا يجهر بها. قالت باستغراب: – بصراحة، هناك أشياء لا تريد قولها. فرد عليها واثقا: – صدقيني، لو أني عرفت أخبرتك. أدار بصره حواليه ثم أضاف أن كل ما يعرف أنه رجل صادق وذكي، وقد تعلم منه الكثير في وقت وجيز، فصار يناديه الأستاذ ، وهو أستاذ بالفعل، وليس بالاسم فحسب. له عقل كبير وله أيضا قلب كبير، غير أن هذا القلب، الذي أحس به يعطف عليه، مملوء بالحقد عن آخره، وهو هادئ لا يظهر على ملامحه أي أثر للانفعال أو التأثر، فلا يترك للمرء فرصة كي يعرف ما بداخله، لكنه لا يفلح في إخفاء ما يحس به من حقد حتى أنه يبدو في بعض الأحيان وكأنه يحقد على العالم بأكمله. اهتزت كأنما أطلعها على جريمة وتساءلت: – الحقد؟ أجابها: – أجل.. الحقد. تنهد وأضاف: – إنه ناقم.. فتساءلت بانزعاج: – لماذا؟ قل يا غنام، أنا أستغرب من أن يكون للإنسان قلب كبير، ويكون في الوقت نفسه حاقدا و ناقما. حنى رأسه ومكثت مديحة صامتة تنتظر أن يقول لها كلمة. ولما رفع رأسه ونظر في وجهها تجمدت أمامه وبدت كأنها لم تعد ترغب في سماع صوته، ولم يعد يهمها من يكون هذا الرجل الحاقد الناقم. تحرك غنام بمقعده وأرسل أنينا خافتا، ثم قال بنبرة ثابتة أن الأستاذ الشهباوي من معدن نادر. فقد أنقذه من الظلام، وأضاء غرفته وعقله. ولو أنه بقي معه سنة أخرى لتغير بالكامل وصار على غير ما هو عليه الآن. اهتزت كأنما أدركت بغتة أن الانسان بالفعل يتعلم الكثير في السجن. تأملها برهة ولاحظ أنها مقتنعة، فنوه بها قائلا: – أنت محقة، لكن شرط أن تكون الاقامة في غرفة واحدة معرجل مثل الأستاذ الشهباوي. صمت قليلا، ثم تابع: – الغرفة كانت كلها سواد، الظلام ودخان السجائر، كنت مختنقا، ولما أتى امتلأت نورا وهواء. قالت وقد تغير صوتها تماما: – جازاه الله خيرا. ثم تساءلت مرة أخرى: – ولماذا كان حاقدا؟ أطرق مفكرا، ثم هز رأسه وقال إنه لم يتحمل فراقه. لقد حزن كثيرا، لكن كان لابد أن يتركه. أكد بكل ثقة أنه أعاد إليه الأمل في الحياة وأعاد الثقة إلى نفسه، وبفضله بقي على قيد الحياة، فقد كان بالامكان أن يغادر السجن ميتا، لكن الله سلم وشاء أن يعود إلى بيته حيا. كانت صامتة.هل تمنت لو أنه بقي في السجن إلى الأبد؟ لا يعرف. نظر إليها بارتياب، فنهضت وطلبت منه أن يقوم كي يذهبا إلى البيت، فقام من مقعده وراح يخطو بمهل وهو يتطلع إلى وجوه الناس والأشجار القصيرة التي تحف الطريق الذي يؤدي إلى بيته(…)