إعدام جرثومي لشعوب العالم

في رسالة مثيرة للهلع عنوانها «الجراثيم الخارقة» موقعة من مدير منظمة الصحة العالمية، ومنظمة الغذاء والزراعة التابعة للأمم المتحدة، والمنظمة الدولية لصحة الحيوان تشير إلى احتمال وفاة ما لا يقل عن 85 مليون شخص في المستقبل القريب، وتحقيق خسائر اقتصادية على المستوى العالمي بما قد يصل إلى عشرة آلاف مليار دولار جراء كارثة وصول كل المضادات الحيوية المتاحة على المستوى الكوني لمعالجة «الإنتانات» الجرثومية عند البشر إلى طريق شبه مسدود سببه الزيادة المطردة لتعنيد الجراثيم والإنتانات الناتجة عنها على معظم الصادات الحيوية المستخدمة لعلاجها سواء في الدول المتقدمة أو تلك النامية.
ومقاومة الصادات الحيوية بالصورة التي تلخصها الرسالة السالفة الذكر كابوس مرعب يعني في حال تحققه فعلياً احتمال وفاة البشر بشكل تراجيدي من إنتانات بسيطة كإنتانات اللثة، والجيوب الأنفية لسهولة انتقالها إلى الدم أو النسج الدماغية المجاورة في حال أخفقت الصادات في علاجها السريع والشامل، ويجعل من نجاح أي عملية جراحية مهمة شبه مستحيلة التحقق.
ويستدعي ذلك الهول الذي ينتظر أوان تحققه تساؤلاً ذا طبيعة مزدوجة، أول وجهيه يتعلق بالتعتيم الإعلامي على تلك الحقيقة المهولة من كل وسائل الإعلام المتسيدة، وثانيهما يتعلق بالتفكر في السبب الموضوعي الكامن وراء تلك الكارثة المحدقة بمستقبل بني البشر وذريتهم. والإجابة على ذينك الاثنين يكمن في أس نمط الحياة الرأسمالية المعولمة القائم على «الهدر والتدمير» وفق توصيف المفكر نعوم تشومسكي. وبشكل أكثر تبئيراً، يرتبط ذلك المستقبل المرعب بانفلات الشركات العالمية العابرة للقارات المتخصصة في صناعة تربية المواشي والدواجن، ومزارع الأسماك، وحتى في بعض الأنماط الزراعية للمحاصيل والفواكه مثل زراعة الموز التي تسيطر عليها بشكل مطلق الشركات الأمريكية في جمهوريات الموز في أمريكا الوسطى من كل عقال أخلاقي أو تنظيمي أو قانوني ذي تأثير فعلي على سياساتها؛ حيث تستخدم الصادات الحيوية بشكل روتيني مع علف وسماد تلك الكائنات الحية، لتعزيز سرعة نموها، واستباق أي جائحة إنتانية قد تصيبها حتى قبل حدوثها، على طريقة «سد الذرائع» كلها دون الالتفات إلى الحقيقة العلمية المرة والبديهية المتعلقة بأن الجراثيم والفيروسات الموجودة بشكل طبيعي، مبرمجة وراثياً للحفاظ على نوعها أيضاً، من خلال إحداث طفرات جينية في بنيتها الوراثية تضمن عدم انقراضها إذا تعرضت لأي ما يعيق فعالية جهازها الوراثي ممثلاً بالحمض الريبي النووي فيها، وهو ما تقوم به معظم الصادات الحيوية، بحيث تتمكن من مقاومة ذلك التأثير عبر توليد سلالة مقاومة لذلك الصاد الحيوي. وإذا استعدنا حقيقة أن البشر»حيوانات عاقلة»، وأن بنية جهازهم المناعي مقاربة بشكل كبير لكل تلك الحيوانات التي يتم تربيتها من أجل لحمها، وأن الجراثيم التي تفتك بالبشر هي نفسها التي تفتك بتلك الحيوانات أيضاً، وأن تعنيد الصادات الحيوية لدى قطعان المواشي في العالم المتقدم سوف يعني حتماً تعنيداً عليها لدى البشر في كل أرجاء المعمورة نظراً «لفضائل» التجارة الدولية المعولمة، وشركات صناعة الوجبات السريعة التي لم يعد روادها يتساءلون عن مصدر اللحوم فيها، لأنها في واقع الأمر تأتي مجمدة في حاويات الشحن البحري من مسالخها من كل أصقاع الأرضين، والتي لا أسهل من انتقال الجراثيم المعندة على الصادات الحيوية معها، ولو بكميات مجهرية من محتويات أمعاء الحيوان المسلوخ إلى لحمه خلال ملاحم تحضيره العجائبية في المسالخ العملاقة، أو خلال عمليات حشره في شحنات اللحوم المجمدة العابرة للقارات، خاصة إن كانت متوجهة إلى دول تتمتع الرقابة فيها بمكانة الصفر على الشمال، وأرخص ما فيها هو الإنسان نفسه. وهي شحنات اللحوم المجمدة نفسها التي لن يفلح لهيب النار والزيت المغلي عند تحضيرها في قتل كل الجراثيم فيها، لأن الحالة الاعتيادية التي يتعامى عنها الجميع على الرغم من تجربتهم العملية لها، هو أن لب شريحة ( البرغر) لن يأتي لملتهمه إلا بارداً لم تخترقه النيران والزيت المغلي، فبدعة «الطعام السريع» لا تحتمل التأخير في إطعام الأفواه الشرهة المدمنة على استهلاك غذائها، لتنقل معه الجراثيم المعندة على الصادات وتستوطن الجهاز الهضمي لآكلها منتظرة أوان ضعف مناعته لظرف ما، لتبدأ بالفتك به دون أن تتمكن الصادات الحيوية من إسعافه حينئذ.
وقد يستقيم تذكر كيف قاوم شعب البنغال في الهند كل سلاسل الوجبات السريعة العابرة للقارات في بلدهم، وتظاهروا ضدها بحسهم الفطري بأنها تدمير صحي وثقافي لمجتمعاتهم، حتى أصبح من شبه المستحيل رؤية أي منها في تلك المقاطعة الهندية، بينما أصبحت الحالة الطبيعية هو «شعشعة» لافتات تلك السلاسل في كل شوارع الحواضر العربية، ومقصداً روتينياً للعوائل العربية، غير مدركة أو متناسية للأخطار الصحية التي تعرفها عن ارتباط استهلاك نتاج تلك الأخيرة بأمراض القلب والشرايين وارتفاع التوتر الشرياني والسرطان والداء السكري، حتى لا يمكننا التماس العذر لهم في عدم معرفتهم بالجراثيم «لخارقة» الكامنة في لبّها.
إنها العولمة التي أدت إلى اندثار الزراعات وتربية المواشي والدواجن الطبيعية في كثير من دول العالم «فالبضاعة الرديئة تطرد البضاعة الجيدة» والاستسهال في استيراد «اللحم الرخيص» من أي من الشركات العابرة للقارات المنتجة له سواء على المستوى الحكومي الفاسد المفسد في الدول النامية، أو القطاع الخاص الكمبرادوري فيها الذي تحكمه عقلية «السمسار الرخيص» وفق توصيف شيخ الاقتصاديين العرب سمير أمين.
و قد لا تصح المناداة بتطبيق فلسفة أبي النظرية النسبية آلبرت أينشتاين في «أن الطريق إلى التحضر الأخلاقي للبشر هو في تحولهم إلى كائنات نباتية» في استقالة من «وحشيتهم السرمدية» في التهام «لحم الكائنات الحية الأخرى» نظراً للكم الهائل من الأفواه الجائعة في مجتمعاتنا المفقرة المنهوبة.
ولكن يصح بالطبع المناداة بضرورة العودة إلى أصل مجتمعاتنا العربية في كونها مجتمعات منتجة لكل احتياجات أبنائها كما كانت عليه منذ فجر التاريخ كمهد أول المجتمعات الزراعية والرعوية على وجه البسيطة، وإعادة الاعتبار إلى قيمة المنتج المحلي الطبيعي، والتحرك الجمعي لدعمه وبقوة لكي يستطيع الصمود بشكله التقليدي دون أن تحطمه آليات السوق العولمية بمنتجاتها الرخيصة، وجراثيمها المخاتلة المتربصة بين تلافيفها.
وربما أيضاً لا بدّ من التفكر بأهمية وإلحاحية مقاومة أنماط الحياة الاستهلاكية الغربية المعولمة التي تعمل جاهدة على توطيد مراسيها في مجتمعاتنا، واستدماجها كجزء بنيوي من الشكل الحضاري المفترض للمجتمعات المتمدنة التي تقدس «مبدأ اختزال كينونة الإنسان إلى محض مستهلك لا يتوقف عن الاستهلاك دون تفكر بجدوى ما يستهلكه أو عقابيله» بحسب تكثيف المفكر رالف نادر.
كما لا بدّ من عقلنة الحقيقة الموضوعية بأنه ما من شجرة أثمرت إلا وقد اغترست جذورها عميقاً في أرضها، وأنّ طبيعة البشر وفطرتهم لا تنسجم مع حدثية تبديل الجلد الذي تقوم به الزواحف فقط. وأنّ نشوة المبهورين بملذات الانسحاق في ركاب نمط حياة السيد الأبيض لا تزيدهم إلا اقتراباً من لحظة الإعدام الجرثومي الجماعي لمجتمعات بأسرها، قد ينطبق في توصيفها استعارة من تفجع حكماء العرب: ولات ساعة مندم يا صاح، فيداك أوكتا وفوك التهم!
كاتب من سوريا يقيم في لندن

إعدام جرثومي لشعوب العالم

د. مصعب قاسم عزاوي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ناي:

    هذه اللحوم التي تأتينا ولا نعرف مصدر بلدها ولا طريقة تحضيرها ونستقبلهم دون ان نسال او ان تكون هناك رقابة
    الله يستر ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول رامي:

    شكرًا للتوعية
    جزاك الله خير

إشترك في قائمتنا البريدية