في كل استحقاق شعبي بتركيا يظهر جليا انعكاس الفسيفساء العرقية والمذهبية على خريطة النتائج للقوى الحزبية المتنافسة. فحزبا الشعوب الكردي والجمهوري الأتاتوركي المعارضان للنظام الرئاسي، تمكنا من حشد مؤيديهما بالتصويت بـ «لا» في المحافظات والبلديات ذات الأغلبية الكردية والعلوية ومحافظات الساحل المختلطة عرقيا، بينما منحت «نعم» قوية من معظم ولايات وسط الأناضول المحافظة ذات الأغلبية من الترك السنة، وهم جمهور حزبي العدالة ذو الميول الإسلامية والحزب القومي، ولولا تحالف الحزبين لما أمكن لأردوغان الفوز بالاستفتاء الأخير، إذ ان القاعدة الانتخابية الأصيلة لحزبه تتراوح قرب الاربعين في المئة، بينما يملك الحزب القومي ما يقرب من 16٪ من الأصوات. وسبق لحزب العدالة ان استفاد من تعاطف جمهور الحزب القومي في الانتخابات الأخيرة عندما منحه هذا الحزب نصف أصواته في استجابة لحالة الاحتقان القومي اثر تصاعد قوة حزب الشعوب الكردي حينها، مما منح حزب العدالة يومها فوزا تاريخيا بنحو نصف الأصوات في البرلمان.
وبين تحالف الـ»نعم» بقيادة حزبي العدالة والقومي، وتحالف «لا» بقيادة حزبي الجمهوري الأتاتوركي والشعوب الكردي، جاءت النتيجة لصالح النظام الرئاسي لكن بفارق ضئيل، يظهر بشكل واضح ان هناك نسبة من جمهور حزبي العدالة والحزب القومي والأحزاب الصغيرة المتحالفة المعهم كحزب السعادة الإسلامي، لم تصوت بـ «نعم»، لان القاعدة الانتخابية لهذه الأحزاب المتحالفة مجتمعة من المفترض ان لا تقل عن 55٪ ومع ذلك حصلوا على 51٪ فقط!
ولكن اذا ما نظرنا للكتل السكانية الرئيسية في البلاد التي دعمت كلا الطرفين، سنجد انها حافظت على مواقفها التقليدية نفسها، ويظهر بوضوح ان المناطق الكردية والعلوية دعمت معسكر الرافضين بقوة، وإضافة إلى تجمعاتهم في أحياء اسطنبول وأنقرة المعارضة، تظهر المحافظات الكردية في جنوب شرق البلاد متشحة باللون المعارض لحكومة أردوغان وتوجهاتها في كل مرة، رغم وجود نسبة ليست بالقليلة من الأكراد المحافظين السنة تمنح أصواتها لحزب العدالة، سواء كانوا في بعض تجمعاتهم باسطنبول أو في المحافظات الكردية نفسها. وهكذا فعلت هذه المرة بمنح نسبة من أصوات الأكراد لخيار نعم، دون ان تتمكن كما في كل مرة من ترجيح الكفة لصالحها مقابل غلبة القوميين واليساريين الأكراد الممثلين حزب الشعوب وبقية القوى المتحالفة معه، الذين رجحوا كفة خيار التصويت بالرفض للنظام الرئاسي في معظم المحافظات الكردية. فبينما تتراوح نسبة التصويت بـ«لا» في معظم المحافظات الكردية بمعدل 60٪ وتصل إلى نحو 70٪ في محافظتي شرناق وديار بكر، فالملفت ان هناك محافظة كردية واحدة تنخفض فيها نسبة التأييد للنظام الرئاسي بشكل استثنائي، ويرتفع فيها صوت «لا» بشكل كبير، بل انها المحافظة التي صوتت بأعلى نسبة رفض على الاطلاق في تركيا، وهي 80٪ انها محافظة تونجلي، ويعود السبب إلى ان الأغلبية الساحقة من سكانها هم من الأكراد العلويين، فلا وجود للمكون الكردي السني المحافظ الذي قد تذهب أصواته في كثير من الأحيان لحزب العدالة وبرامجه، كما في باقي المحافظات الكردية السنية الأخرى كديار بكر مثلا. وهكذا تصدرت تونجلي أصوات المعارضين للنظام الرئاسي الذي يريده أردوغان، لغلبة هذه التركيبة السكانية التي تضافر فيها اثنان من الانتماءات العرقية المذهبية الكردية العلوية وهما متعارضان مع برامج حزب العدالة بمرجعيته التركية السنية.
وعندما نبحث أكثر في تاريخ هذه المحافظة، نجد انها معقل لتمرد دائم عرف باسم «تمرد درسيم»، فمنها انطلقت ثورة ضد قانون التتريك القاضي باعادة توطين وتوزيع السكن لبعض الجماعات والعرقيات عام 1934 وبسبب رفض الأكراد العلويين الذي ينتمي جزء منهم لقبائل «ظاظا» الكردية اندلعت مواجهات دموية قمعتها السلطة بعنف وقتل حينها آلاف المدنيين منهم زعيم التمرد سيد رضا، وتعرضت البلدة للقصف بالطائرات والتهجير، فيما اعتبرته بعض الأطراف العلوية مجزرة إبادة جماعية، وظلت هذه الواقعة ماثلة في أذهان سكان درسيم التي تحول اسمها لاحقا، حتى حصلوا على اعتذار من أردوغان عام 2011 وصف بالاعتذار التاريخي، أقر فيه الرئيس التركي مقتل 14 ألف كردي علوي، لكنه حمل حزب الجمهوري المسؤولية باعتباره كان يحكم البلاد في تلك الحقبة الأتاتوركية، وهكذا اصطدم سكان تونجلي كأكراد مع سلطة أتاتورك القومية علمانية الميول، وعادوا كعلويين أكراد لمعارضة برامج حزب أردوغان إسلامي الميول المتحالف مع القوميين الأتراك، لتكون النتيجة من هذه المحافظة التي تشكل حجرا مركبا فريدا في الفسيفساء التركية، هي أقوى «لا» في تركيا.
وائل عصام