في عالم محكوم بالظلم والقوة المادية المفرطة تفقد الاخلاق والقيم والقانون الدور الذي يساهم في اقامة العدل بين البشر. هذه ليست ظاهرة جديدة، بل سادت خلال التاريخ البشري. الجديد في الامر ترويج مقولات «التحضر» و «التمدن» من جهة، بالاضافة لما يقال عن وجود آليات دولية لمنع حدوث الحرب الا بموافقة المجتمع الدولي ممثلا بالامم المتحدة ومجلس الامن الدولي. فاذا حدثت الحرب فيفترض ان هناك من المواثيق والقوانين التي شرعتها الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، ما يمنع حدوث التجاوزات. بل ان هذه القوانين تنص على اعتبار جرائم الحرب اعتداء على الإنسانية.
وعلى غرار محاكمات «نورومبرغ» التي اقيمت بعد الحرب العالمية الثانية لمحاكمة القادة الالمان بارتكاب جرائم حرب، اقيمت محاكم اخرى مثل «محكمة الحرب اليوغسلافية»، و «محكمة الحرب لرواندا» وسواهما. ظاهر هذه المحاكم معاقبة مرتكبي جرائم الحرب ومنها استهداف المدنيين والاطفال والنساء وتدمير المنشآت المدنية واستخدام الاسلحة المحرمة مثل الاسلحة الكيماوية والجرثومية. ولكن هل تطورت مجريات الحروب حقا؟ ام ان العالم اصبح تحت رحمة القوى العظمى التي كثيرا ما كانت هي القاضي والخصم في الوقت نفسه؟ ومع «تطور» العالم» وضع المزيد من آليات المحاسبة والرقابة، وآخرها المحكمة الجنائية الدولية التي يفترض امتلاكها صلاحية النظر في قضايا جرائم الحرب والابادة الجماعية. هذه «الانجازات» تضاف إلى سلسلة اخرى مماثلة من الاجراءات، ومنها منظومة حقوق الانسان ومواثيق جنيف لتنظيم الحروب. ونشأت منظمات بصلاحيات محدودة مثل الصليب الاحمر ومنظمات المجتمع المدني الاخرى المعنية بحقوق الانسان.
هل تطورت الاوضاع حقا؟ هل ان الحروب التي نشأت على مدى السبعين عاما الاخيرة كانت نظيفة ومنسجمة مع القوانين الدولية؟ هل استمدت تلك الحروب شرعية من المجتمع الدولي؟ وهل كان لمجلس الامن دور سواء في انطلاقها ام وقفها؟ وهنا لا بد من الاشارة إلى ان الحرب العالمية الثانية لم تنته الا بعد استخدام القنبلة النووية التي حولت مدينتي هيروشيما وناغاساكي إلى ركام نووي ما تزال آثاره ملحوظة حتى اليوم. وما تزال مدينة «درزدن» الالمانية تشهد على ما تعرضت له من قصف بريطاني ادى لقتل اكثر من 100000 انسان في ليلة واحدة. وبعد تلك الحرب المدمرة كانت الحرب الكورية في مطلع الخمسينيات من النزاعات المسلحة الاولى بعد الحرب العالمية الثانية، وقد ارتكب فيها الكثير من جرائم الحرب منها قيام وحدة برية وطائرات عسكرية أمريكية بقتل ما بين 300 إلى 400 مدني في الأيام ما بين 26 إلى 29 تموز/يوليو 1950. أغلبهم نساء وأطفال وشيوخ في قرية نوجن-ري بكوريا الجنوبية. ولم يتم التعرف على أغلب القتلى والمفقودين حتى اليوم.. وتختزن ذاكرة الكثيرين من المتقدمين في العمر مشاهد الحرب الأمريكية في فيتنام، وتستحضر مشاهد ضحايا قنابل النابالم والتدمير الكاسح وتوالت الحروب تباعا بدون ان يكون للمؤسسات الدولية الكبرى مثل مجلس الامن والامم المتحدة دور في ادارتها او تنظيمها او وقفها. فالحروب الاسرائيلية على العرب كانت بشعة، وقتل الاسرى المصريين لدى الاسرائيليين بعد انتهاء عدوان 1967 ليس الا واحدة من جرائم الحرب التي ارتكبت بدون ان يكون هناك من تعرض للمساءلة او المحاكمة. وتعايش «العالم الحر» مع الحرب العراقية ـ الإيرانية ثمانية اعوام متواصلة، ولم تتم مساءلة احد عن استخدام الاسلحة الكيماوية واستهداف المدن وقتل المدنيين. اما الحرب الانكلو ـ أمريكية على القوات العراقية في الكويت فسجلت جرائم بشعة لم يعاقب احد بسببها. فقد حصدت طائرات «أباتشي» الأمريكية ارواح آلاف الجنود العراقيين بمنطقة المطلاع وهم ينسحبون من الكويت إلى العراق، في واحدة من ابشع جرائم الحرب التي لم يتوقف «العالم المتحضر» عندها، ولم يحاسب احد عنها. ساهم ذلك التجاهل في تشجيع الأمريكيين على الاستمرار في ارتكاب جرائم الحرب في الحرب الانكلو ـ أمريكية على العراق في 2003، وهي حرب لم تكون مدعومة بقرار دولي. وشهدت تلك الحرب تدميرا واسعا وجرائم لا تحصى. وما استهداف ملجأ «العامرية» في بغداد وحصد ارواح المئات من اللاجئين فيه الا واحدة من جرائم الحرب التي ارتكبت آنذاك.
الامر الذي يبعث على الاحباط واليأس من جدوى ما يقال عن «التطور المدني» على الصعيد الدولي عدم وجود مواقف دولية لمحاسبة مرتكبي جرائم الحرب الا اذا كانوا من الطرف الآخر غير المتحالف مع الولايات المتحدة. ولذلك حين يتحدث المسؤولون الأمريكيون عن جرائم الحرب ويبالغون في اثارة الابعاد الاخلاقية والقيمية والقانونية، فانهم يمارسون ابشع اشكال النفاق. لماذا يرفضون الانضمام للمحكمة الجنائية الدولية والتصديق على بروتوكولات روما؟ لماذا يرفضون مساءلة جنودهم ومسؤوليهم امام القضاء الدولي؟ لماذا يستخدمون الفيتو ضد اي قرار دولي يهدف لمحاسبة الاسرائيليين عن الجرائم التي يرتكبونها بشكل متواصل بحق الفلسطينيين واللبنانيين ( كما حدث في قانا)؟
وزير الدفاع الأمريكي، جيم ماتيس، زار السعودية الاسبوع الماضي. لماذا؟ لانه يريد تسويق المزيد من الاسلحة لدول الخليج. ولذلك تتواصل الحرب في اليمن والازمات في سوريا والعراق وليبيا لان هدوء اوضاع المنطقة يضعف تجارة السلاح. الأمريكيون ليسوا اصدقاء للعرب والمسلمين، بل يؤسسون سياساتهم وفق المصالح التجارية والعسكرية. فحين يزورون السعودية لا بد ان يستهدفوا إيران ويبالغوا في خطرها العسكري على المنطقة، الهدف توفير ظروف عقد صفقات السلاح وتهيئة المناخ لتوترات داخلية بين دول المسلمين، تؤدي إلى الحرب وسفك الدماء. وحين طرح عدد من اعضاء الكونغرس من الحزب الديمقراطي انزعاجهم من ترويج تجارة السلاح الذي يعتبر وقودا للحرب في اليمن، اعلن ماتيس انه سيضغط من اجل تقليص اصابة الاهداف المدنية. ويتجلى النفاق بشكل اوضح حين يقول ان حرب اليمن يجب ان تحل بحوار سياسي وليس بالحرب قائلا: ان هدفنا هو ان يتم تسليم هذه الأزمة إلى فريق من المفاوضين تحت رعاية الأمم المتحدة لايجاد حل سياسي في اقرب وقت ممكن”. ولكنه في الوقت نفسه يتعهد بتقديم الدعم العسكري والاستخباراتي لاحد طرفي النزاع. فهل هذا هو الطريق للحل السياسي؟ وتشير المعلومات المتوفرة إلى ان الولايات المتحدة الأمريكية ستقوم بقصف الاهداف الجوية من البحر وان الطيران الحربي سيوقف غاراته لتصبح المهمة بيد البوارج الحربية الأمريكية.
الامر المؤكد ان كلا من واشنطن ولندن تنظران لمنطقة الشرق الاوسط من زوايا عديدة، وتسعيان لهندسة سياستيهما بما يترك الباب مفتوحا لتدخلاتهما اما مباشرة او من خلال بيع السلاح. ويوما بعد آخر تتحول المنطقة إلى بؤرة صراع على المصالح بين كل من أمريكا (ومعها بريطانيا) وروسيا، ومع ان ذلك ليس جديدا ولكن الجديد ان هذا التنافس اصبح يتخذ اشكالا خطيرة في مقدمتها افتعال الحروب التي تستعصي على التوقف وتستخدم للتدخلات العسكرية المباشرة بوتائر غير مسبوقة. وهذا يعني منع العودة إلى الحياة المدنية الطبيعية المحكومة بالاستقرار والتننمية. الامر المؤكد ان شعوب المنطقة تعيش حالة من التوتر والاحباط. وهذا واضح من استعداد شبابها للاستجابة لدعوات التطرف والانخراط في مسلسلات الموت والتدمير. وبدلا من التعاطي مع هذه الظواهر من منطلقات الحب والدين والدوافع الإنسانية، اصبحت المنطقات مصلحية او فئوية او جاهلية. وبدلا من احتواء هذه الظواهر ازدادت توسعا وخطرا. ومن اهم نتائج ذلك تراجع دور العقل والمنطق في هذه الصراعات المفتعلة، وتغول مشاعر الرغبة في الغلبة والتخندق الفئوي والديني والمذهبي، وتهميش اسباب الاخوة واواصر الحب والاحترام المتبادل والحرص على التعايش السلمي.
٭ كاتب بحريني
د. سعيد الشهابي