تخيلوا السلام

حجم الخط
1

يُحتاج لخلق شيء ما الى تخيله قبل ذلك والى وصف العالم الذي تريد أن تخلقه بالكلمات وأن تبنيه بعد ذلك بالافعال.
لهذا اذا كنا نريد نحن ـ الفلسطينيين والاسرائيليين ـ ان نصنع سلاما بيننا حقا وصدقا فعلينا قبل ذلك ان نتخيله وان نتخيل كيف نريد ان يبدو هذا السلام. وأن نصفه لأنفسنا بالكلمات وان نرسمه بعد ذلك بمعاهدات وخطوط على الخرائط.
تخيلوا مثلا بعد 12 سنة أو 27 سنة أو 40 سنة يوم الذكرى المشترك لضحايا حروب الماضي بين الشعبين. في نفس الساعة حقا ستُسمع صافرة تدوم دقيقتين في شوارع تل ابيب ونابلس وبئر السبع ورام الله، وسيوقف أبناء وبنات الشعبين ولا يهم أين يمر خط الحدود سياراتهم جميعا ويخرجون منها ويقفون في سكون، يهودي مع قبعة وعربي مع كوفية وشباب وشابات اسرائيليون وفلسطينيون جنبا الى جنب في الشوارع والمدارس والمؤسسات العامة دقيقتي الصمت هاتين لذكرى ضحايا الشعبين معا.
لأنكم اذا كنتم أو كنا أو كانوا (وسموا أنفسكم وسموهم كما يحلو لكم) لا تريدون أو لا تستطيعون تخيل هذه اللحظة الصعبة والجميلة، التي كلها تصالح وتسليم فانه فضلا عن أنه ليست لنا أية طريق أو أمل للتوصل الى السلام لا يوجد ايضا مستقبل لا بصورة منفصلة ولا معا.
لكننا نحن، أعني الشعبين، بدل ان نصنع تصالحا ونشغل أنفسنا بالتسليم، وبدل ان نتخيل مستقبلنا المشترك في قطعة الارض الصغيرة هذه وننشئه، نشغل أنفسنا بدل ذلك في كل مرة نجتمع فيها بتفصيلات تقنية وخطوط وصياغات وسائر البلبلات.
مكث نيلسون مانديلا وهو أكبر ساسة القرن العشرين سنين طويلة بلغت 27 سنة في سجن نظام الاضطهاد الابيض في جنوب افريقيا. لكن حينما تم الافراج عنه ودُعي في نهاية الامر الى تولي الحكم وصنع سلام بين السود المداسين والذين يدوسونهم، لم يشغل نفسه ولو ثانية واحدة بالانتقام لخطايا الماضي، ولم يشغلها بمن فعل وماذا فعل، بل نظر الى الأمام فقط، الى المستقبل المشترك لهذين العرقين في تلك البلاد، وانشأ مسيرة عميقة واسعة من التصالح والتسليم.
هكذا يجب ان نسلك هنا ايضا لأن هذه هي الطريقة الوحيدة الممكنة بألا نشغل أنفسنا بمن أساء لمن أكثر، ولا نحاول التوصل الى اتفاق يضمن لهم أو لنا مساحة أكبر من الارض أو قدرا أقل من الماء وكأننا لا نسكن الارض نفسها ولا نشرب الماء نفسه. وألا نشغل أنفسنا برسم خطوط تُبين أين يستطيعون المكوث في الايام العادية وفي أي التلال يستطيعون زرع الزيتون وأين نستطيع نحن زرع التين، ومتى يُسمح لنا بالسير ولهم بالسفر، وفي أي الساعات يستطيعون الذهاب الى البحر والى أي الشواطئ وفي أي الساعات لأن كل ذلك سخافات. فهذه نفس الارض ونفس التراب ونفس الاشجار ونفس الثمرات. وهي نفس الشوارع والجبال والبحر. فلا يمكن الفصل ولا يمكن التفرق ولا يهم ما هي الخطوط وأين توجد هذه الخطوط وبأي لون.
إن من لا يستطيع أن يوجه نظره الى الأمام، بل ينظر الى الخلف دائما يتحول الى عمود ملح. والذي ينظر الى الوراء فقط سيكون له مستقبل كالماضي الذي يتكئ عليه بالضبط، أي مستقبل اسود هو مستقبل قتل وموت لا ينتهيان.

هآرتس 6/8/2013

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول د. حسين:

    ما أحلى هذا الكلام وهذه الطريقة بالتفكير يا كوبي نيف: حبذا لو فكر كل اسرائيلي محتل قادم من انحاء العالم بنفس طريقة تفكيرك ويعلم أنه مستقر هنا لكن بين احضان فلسطيني رحب به ويرحب به كانسان وليس كمستعمر أو محتل ويريد تطهير الارض من كل ما هو اصلي فلسطيني.
    نريدها دولة واحدة تضمنا جميعا لنستمتع بخيراتها بعدالة وقبول للطرف الاخر دون اقصاء:
    فهل من مجيب يا قيادات اسرائيل المتعنتة ويا قادة فلسطين الصدئة؟؟ ابدأوا العمل معا لمصلحة الشعبين ليندمجا في شعب واحد:
    دولة يهودية وأخرى فلسطينية كلام فاضي ولا يمت للحقيقة بصلة لانها فيها يستمر العنف والعنف المضاد:
    أليس هذا من اجترار المآسي السابقة وذكريات القتل والقتل المضاد والوقوف عند تلك الذكريات الاليمة؟ اصحوا واعملوا معا…
    فهل هنالك مليون انسان (انسان حقا) مثل كوبي نيف ود. حسين في المنظقة لنجعل الحلم حقيقة؟؟

إشترك في قائمتنا البريدية