أثارت مقالتي حول خان شيخون في «القدس العربي» الأسبوعي حفيظة بعض الموالين للنظام، فنصحني اثنان منهم بترك مجال الكتابة في السياسة، والتفرغ للكتابة في الأدب. لا شك أنهما متابعان لكتاباتي الأدبية والسردية على الخصوص. ولا ريب أيضا أنهما يقدران هذه الكتابات، وإلا لـ»نصحاني» بترك الكتابة نهائيا. كتب أحدهما: «دكتور سعيد أتمنى منك أن تتفرغ للثقافة والأدب والنقد، وأن لا تخوض في شأن لا علم لك به سوى ما تروجه «الجزيرة» و«العربية» وبعض الإعلام المأجور، فأنا قريب جدا من الحدث وضمنه إنك في ما تقدم تردد ما تقوله أمريكا ودول الخليج وتركيا». وكتب آخر: «أحترمك ناقدا حصيفا ومثقفا كبيرا، لكنني أستغرب لك ولكل المثقفين الذين ينساقون وراء تضليل الجزيرة القطرية».
في السياق نفسه، أشار آخر: «أصدقائي جميعا لا تنتقدوا الدكتور فهو كغيره من المثقفين الذين يسقطون. فقد سقط في مستنقع البترودولار . وكتب آخر: «أولا: معظم الشعب السوري أصبح رافضا لفكرة العروبة والاسلام من بعد ما لمس من أمثالك من يكتب ليقبض الثمن مهما تأذى من كتاباته ما يدعي إخوته. ثانيا دعك من بلد أنت وأمثالك بعيدون كل البعد عنها ولا تدري ما يحاك لها إلا من خلال أبواق الملوك. ثالثا: لم يصل «النظام» للضعف الذي تظنه لكي يستعمل سلاحا بمعظم الحروب مع العدو الإسرائيلي ما استعمله فكيف به يضرب به اطفالا ونساء من جلدته».
لم تستفزني هذه الكتابات التي، وإن كنت أختلف معها في قراءة الحدث والكتابة عنه، أحترمها لأني أومن دائما بالاختلاف، وفي الوقت نفسه أؤمن بالحوار والنقاش الجاد. لقد تبين لي، وهذا ما استوقفني هو تشابه هذه الخطابات، وهي تعلق على تحليل نقدي لحدث وضعته في سياقه العام. لقد تم التركيز على الإعلام، وعلى المثقف، وعلى القرب من الحدث. بخصوص الإعلام يبدو أنهم جميعا ضحايا إعلام النظام الذي يقدم الصورة التي يريد عن الواقع، وأنهم لا يؤمنون بالرأي الآخر المعارض. وأنهم بادعائهم القرب من الحدث يعرفون ما لا يعرفه غيرهم؟ أما الكلام الذي يشتم منه الإساءة إلى المثقفين المخالفين لهم فأتنزه عن الخوض فيه، ولن أتهمهم بأنهم مرتزقة النظام.
أما عن القرب من الحدث، وأنهم يعرفون الواقع السوري أكثر من غيرهم، فأخبرهم بأن سوريا موجودة في المملكة المغربية، التي فتحت يديها للمهاجرين من مختلف المناطق السورية، وفي مختلف المدن المغربية. في الوقت الذي تعمل الجمهورية الجزائرية على طردهم إلى الحدود المغربية. وكل هؤلاء المهجّرين من لدن النظام السوري والمطرودين من الجزائر التي تسانده، يقدمون لنا الصورة الحقيقية عن سوريا التي لا يعرفها السوريون الذين يتابعون فقط ما يروجه إعلامهم الرسمي الذي أتابعه كما أتابع ما يقوله الإعلام الإيراني، متابعتي لما يقوله الإعلام الغربي والعربي. وفي قراءتي النقدية للإعلام أميز بين الأحداث وتسلسلها وردود الأفعال المختلفة وآثارها على تطور الأحداث، قراءة سردية لا تختلف عن قراءتي لأية رواية أدبية. وماذا يمكن القول عن المثقفين السوريين المعارضين؟ ألا يعرفون سوريا؟ إن التضليل الحقيقي هو ما يمارسه الإعلام الرسمي الذي يقدم صورة مختلفة عن الواقع الذي تبدو أحداثه مناقضة لما يدعيه. وست سنوات من الحرب ضد الشعب السوري، منذ خروج الشباب للتظاهر ليلا، وليس نهارا كما وقع في بعض الدول العربية سوى دليل على ذلك. وما أسطورة «الفبركة» التي يدعيها النظام كلما وجد نفسه في ورطة، سوى تنويع على «الممانعة» التي انخدع بها المثقفون العرب خلال أزمنة طويلة. وليست حروب النظام مع إسرائيل إلا أسطورة أخرى؟
أما نصح المثقفين بعدم التعبير عن آرائهم، بمبررات واهية، فليس سوى استنساخ لقمع ممنهج نجحت كل الأنظمة الديكتاتورية العربية في فرضه بفتح السجون والمنافي، والإعدامات. إنها لا تحتمل الرأي الآخر، وتعمل على تشويهه بإلصاق تهم الاسترزاق. وهذه أسطوانة مشروخة ظلت تستعمل طيلة عدة عقود من لدن الحزب الواحد الذي يمتلك الحقيقة وحده، وكل ما خلاه باطل.
ما يجري في سوريا والعراق واليمن وليبيا وكل البلاد العربية ليس سوى وليد السياسات المتعاقبة التي كممت الأفواه، ومارست الفساد بمسميات لا حصر لها. وما الربيع العربي الذي جاء ليقول: لا للفساد سوى تعبير الشعب العربي عن الرغبة في الحياة. وتلك هي القصة في جوهرها. هذه القصة يمكن أن يقرأها كل إنسان، ويفهمها، ويؤولها حسب مصلحته ورؤيته «السردية». وكمشتغل بالسرد أقرأ هذه القصة قراءة سردية قراءتي لأي عمل سردي. تتكون من حدث أول تتولد عنه أحداث، فأتابع تطورها، متوقفا على ما يؤثر في استمرار توالدها، وصيغ خطابها المنسوجة حولها، سواء كانت حقيقية أو مفبركة. يهمني الخيط الناظم للحبكة، وأحلم بنهاية سعيدة تنهي مهزلة ومأساة شخصيات ـ «أبطال» بلا بطولة.
كاتب مغربي
سعيد يقطين