الأدب أصدق أنباء من السياسة والإعلام

أكثر من كتبوا عن الناقد الأدبي الفذ توفيق بكار، الذي انتقل إلى رحمة الله الاثنين عن سن تناهز التسعين، هم من الأكاديميين والباحثين الذين كانوا من طلابه في الجامعة التونسية. فقد كانت له، فضلا عن أنه من جيل الآباء المؤسسين، ريادة الاضطلاع بتأصيل الاتجاه الحداثي في مناهج النقد الأدبي في تونس بينما اضطلع صنوه وخليله صالح القرمادي بريادة تبيئة اللسانيات الحديثة (التي ظلت، حتى أواخر السبعينيات، تعرف باسم «الألسنية»). ولكن الجامعيين لا يمثلون إلا شريحة محدودة من جمهور واسع لديه معرفة بتوفيق بكار تبلغ، عند الكثيرين، حد الإعجاب. ذلك أن اسم هذا الناقد الفريد المقام قد اقترن، في الوعي العام، باسم أعظم أديب أنجبته تونس في القرن العشرين. إذ ليس هناك بين مئات آلاف التلاميذ في الثانوية، على مر العقود، من يستطيع اقتحام مجاهل أدب محمود المسعدي دون أن يكون قد توسل إليه، بادئ الأمر، بالمفاتيح القرائية التي يجود بها توفيق بكار في تلك المقدمات التأطيرية التنويرية البديعة الملازمة، لزوما يقارب الضرورة، لكل من روايات «السد»، و»حدث أبو هريرة، قال» و»من أيام عمران».
وجه التفرّد الأخاذ في نصوص توفيق بكار النقدية هو أنها كثيرا ما تضارع بإبداعيتها العمل الإبداعي الأصلي، حتى أنك يمكن أن تقرأها مستقلة بذاتها: نصوصا هي من أبدع البديع، حسب العبارة التي أطلقها هو نفسه، في نهاية العام الماضي، وصفا لمسرحية «الإخوة هاملت» للكاتب توفيق بن بريك. وإضافة للتجديد في المناهج – باستلهام الشكلانية عند الروس والبنيوية والإنشائية (أو الشعرية) عند رومان ياكبسون وتزفيتان تودوروف (الذي كنا كتبنا عنه هنا بمناسبة وفاته قبل ثلاثة أشهر) والبنيوية التوليدية عند لوسيان غولدمان – جدد توفيق بكار في مادة المتن الأدبي الذي كان يدرّسه للطلاب، فأدخل أسماء تونسية شملت علي الدوعاجي والبشير خريف وعز الدين المدني ومحمود المسعدي. كما أدخل أسماء عربية كان منها الطيب صالح واميل حبيبي وجمال الغيطاني وعبد الرحمن منيف وفؤاد التكرلي ومحمود درويش.
وأذكر أني شهدت في دار الثقافة ابن خلدون عام 1983، أيام كان الكاتب المسرحي سمير العيادي مديرا لها، المحاضرة التي قدّم فيها توفيق بكار رواية «الياطر» للكاتب السوري حنا مينه وأشاد بها أيّما إشادة. وقد قام بعد ذلك بإصدارها في سلسلة عيون المعاصرة التي لا تزال مستمرة حتى اليوم منذ أن أسسها عام 1979 مع محمد المصمودي صاحب دار الجنوب للنشر. وكان مما قاله توفيق بكار ردا على المثقفين الذين عاتبوه ليلتها على شدة شغفه بأدب المسعدي: الرأي عندي أن نص المسعدي هو أقوى نصوص الأدب التونسي، ولكنني متعطش دوما لاكتشاف الجديد، وخصوصا جديد الشباب. ثم التفت إلى المنشّط الثقافي أحمد حاذق العرف الذي كان جالسا بجانبه وأشهده قائلا: ألست دائما ما ألح عليك في تزويدي بالجديد؟
ولأنه لا يني يتصيّد الجديد، فقد كان هو الذي قدّم لرواية المناضل الوطني والنقابي مصطفى الفيلالي «مانعة: من أيام قرية الجبل» التي صدرت في سلسلة عيون المعاصرة عام 2004. وهي رواية متميزة اكتشفنا بفضلها أن الشيخ التسعيني الجليل مصطفى الفيلالي ليس شخصية وطنية فحسب وإنما هو، كذلك، أديب أصيل!
كان توفيق بكار أكاديميا رائدا وسم أجيالا من الجامعيين بميسمه التكويني الفارق. وكان مناضلا يساريا حررته سعة الالتزام الثقافي من ضيق الانتماء السياسي. أما الأوقع والأبقى فهو أنه كاتب فذ يتقن نفث السحر في النثر، على ما في مقوله النقدي من دقة الرأي وبنائية الاستدلال. الحسن والتفنّن هما علامتا جميع كتاباته، بما فيها ترجماته الفرنسية مع صالح القرمادي لمختاراتهما من الأدب التونسي. وليس أدل على أناقته في استثمار المناهج الحديثة في دراسة الأدب من نصه التحليلي لقصيدة أبي نواس الشهيرة التي مطلعها «نضت عنها القميص لصب ماء… فورّد وجهها فرط الحياء». وقد نشر النص مطلع الثمانينات بعنوان «في جدلية الانكشاف والاحتجاب». أما دراساته في الأدب العربي المعاصر وما يثيره من خطير القضايا الاجتماعية والسياسية ودفينها، فإنها أقوى مصداق على صحة قوله البليغ: (..) ولا ينبئك عمّا بقوم أصدق من أدبهم.

٭ كاتب تونسي

الأدب أصدق أنباء من السياسة والإعلام

مالك التريكي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سوري:

    رحم الله توفيق بكار، أصدق وأعمق ناقد أدبي في العالم العربي، وزهرة من زهرات تونس، لم اجتمع بمبدع اكثر من تواضعا وسعة معرفة، وبلاغة عبارة، في كتابيه شعريات عربية وقصصيات عربية نلمس بوضوح ودون عناء قدرة الرجل على التحليل الأدبي، وهو المتأثر برولان بارت، كتابه مقدمات الذي يجمع مقدماته لروايات مختلفة التي أضاف لها بعدا أدبيا اخر، هو عمل أدبي بامتياز وتحديا لغويا جاحظيا, لقد أغنى بكار النقد الادبي العربي كما أغنى صديق عمره محمود المسعدي الأدب العربي بأروع الأعمال الادبية التي تشبه لغته لغة نص قرآني ولهذا قال عنه بكار بأنه أفضل نص أدبي وهو محق في ذلك. لقد خسرت تونس والادب العربي احد كباراتها

إشترك في قائمتنا البريدية