قد لا يستطيع أي شديد عتيد مغرق في رباطة الجأش الصمود أمام طوفان الألم الحارق الذي يجتاح قلب كل إنسان طبيعي عندما يلتقي بطفل أو شاب مصاب بمرض التوحد، إذ يبدو له تناقض عصي على التمثل منطقياً بين كينونة الهيكل الصحيح لجسم من أمامه، وحقيقة غياب الوعي والإدراك العقلي المنسجم مع ذلك الأخير. ومرض التوحد هو مرض متوارٍ عن الأنظار في طبيعته الاجتماعية حيث أن معظم المصابين به حبيسو المنزل، دون أن يغير ذلك من أنّ نسبته العالمية أصبحت حوالي 1 من كل 68 طفلاً بحسب آخر إحصائية عالمية، وهو في ازدياد مطرد الحدوث بنسبة تزيد كل سنة بمعدل 6-15% عن السنة السابقة لها. وهو مرض مجهول السبب أساساً، يفصح عن نفسه بأنه أحد أشكال قصور تطور الأداء الفيزيولوجي للنسيج الدماغي ضمن طيف من الأمراض تشمل عسر التطور الإدراكي عند الأطفال، وعسر الانتباه، واضطرابات الذاكرة، وقصور الذكاء وصولاً إلى مرض التوحد نفسه.
لقد أمضى العلماء سنين طويلة في محاولة تقصي الأسباب الكامنة وراء ازدياد وقوعات داء التوحد، فوجدوا أنّ أول المبيدات الحشرية المسجلة في الولايات المتحدة (Chlorpyrifos) منذ العام 1965، والأكثر استخداماً على مستوى الولايات المتحدة، متهم بكونه المسبب الأول لازدياد وقوعات داء التوحد وطيفه المرضي المرافق له من خلال تعرض الأطفال له باستهلاك المحاصيل المعدة لاستهلاك البشر والتي تمّ رشّها به، والتي لا يمكن شطفها بالماء أو غيره من طرائق الغسيل لاستدماجها في نسيج خلايا المحصول نفسه وليس على سطحها الخارجي فقط من خلال مياه السقاية المشبعة به خلال عملية مرورها على أجزاء النبات الخارجية التي تم رشها سلفاً ببلورات المبيد الحشري، ليستشربها المحصول حينئذ خلال سيرورة نضجه، أو عن طريق استهلاك حليب الماشية التي تمّ رش علفها به سابقاً، أو عن طريق استهلاك أي من مشتقات ذلك الحليب، أو حتى من خلال شرب المياه الجوفية التي تحملت بجرعات كبيرة من جزيئات المبيد الحشري جراء تسربها مع الماء الراشح من سقاية تلك المحاصيل التي تمّ إغراقها به.
وهو المبيد الحشري نفسه الذي لا زالت السلطات الأمريكية تجادل بعدم إمكانية حظر تصنيعه حفاظاً على «مصالح الشركات الأمريكية في داخل الولايات المتحدة وعالمياً»، وهي الآلية الإمراضية نفسها التي يسبب بها ذلك المبيد الحشري مرض التوحد، قد تمّ توثيقها وربطها إحصائياً ومخبرياً بعدد من المبيدات الحشرية الأخرى بكونها مسؤولة بشكل مباشر عن زيادات وقوعات سرطانات الأطفال وخاصة سرطانات الدم عند الأطفال، بالإضافة لإثبات العلاقة النوعية بين التعرض لمبيد DDT وسرطان الثدي عند من يتعرض له من الذكور أو الإناث، وأي من ذريته التي سوف ينجبها بعد ذلك التعرض، خاصة مع التذكير بأنّ تأثير هذه المواد المسرطنة تراكمي يصعب على الجسم البشري التخلص منه، وعند تجاوزه عتبة معينة تتعلق بالجرعة وتكرارها يصبح التأثير السرطاني حتمياً لا فكاك منه.
وتقوم لعبة الشركات الكبرى العابرة للقارات المسيطرة على إنتاج المبيدات الحشرية عالمياً مثل شركة داو المنتجة للمبيد الحشري السالف الذكر أو شركتي باير الألمانية وشركة مونسانتو الأمريكية اللتين اندمجتا مؤخراً بصفقة تجاوزت قيمتها السوقية 66 مليار دولار بما يعكس حجم سيطرتها على سوق المبيدات الحشرية عالمياً على مرتكزين أساسيين: الأول منها يقوم على زيادة معدل تصنيع بذور المحاصيل المعدلة وراثياً، وجعلها ذات صفات «مورثية قاهرة» لا تحتاج سوى لنحلة طيارة لتنقل تلك الصفات مع غبار الطلع من الحقول المزروعة ببذورها إلى حقول ليست كذلك، حتى تصبح تلك الأخيرة معدلة وراثياً وفق الشيفرة السرية التي تعرفها الشركة المطورة فقط؛ وهو ما سوف يقتضي علمياً بأنها الوحيدة العارفة بنوعية وتراكيز الأسمدة الكيميائية التي تحتاجها تلك المحاصيل الناتجة عن بذورها المعدلة وراثياً، وهو ما تبيعه تلك الشركة حصرياً للمزارعين الذين لا حول لهم ولا قوة إلا بالقبول بذلك كما هي حالة فول الصويا الذي انتهت أجناسه الطبيعية على المستوى الكوني، ولم يبقَ منها سوى المعدل وراثياً والتي تسيطر على سوق أسمدتها ومبيداتها شركة مونسانتو الآنفة الذكر بشكل شبه مطلق على المستوى الكوني، وكذلك الأمر بالنسبة لمحاصيل القمح في الولايات المتحدة الذي أصبح أكثر من 90 % منه معدلاً وراثياً تحت سيطرة الشركة الأخيرة نفسها. والمرتكز الثاني لتلك الشركات يقوم على توطيد وعي علمي زائف من خلال ماكينة الآلة الدعائية والإعلامية المستأجرة من تلك الشركات يقول بأن المبيدات الحشرية التي تصنعها ضرورة لا بدّ منها لزيادة الإنتاج الزراعي لإطعام البشر الجائعين في أرجاء المعمورة. وهي كذبة من نموذج «للتضليل والتلفيق» لا تستند إلى أساس علمي حسب توصيف تقرير صادر عن الأمم المتحدة منذ أيام قليلة، وهو الذي يؤكد أنّ استخدام المبيدات الحشرية لم يسهم بزيادة الإنتاج الزراعي على المستوى العالمي، وأنّ التحسينات في طرائق الزراعة التقليدية هو الذي أسهم فعلياً في ذلك، وأنّ المبيدات الحشرية لم تكن سوى مسؤولة عن طوفان من الأذيات للبشر أقلّها «وفيات 200000 شخص سنوياً جراء التعرض الحاد والمباشر لها، والتي تحدث معظمها في الدول النامية» بحسب التقرير الأممي الأخير.
ويحزّ في نفس كلّ عربي أدمن التفجع على حال أهله، أننا نحن أمة العرب التي اخترع أهلوها في بلاد الرافدين فكرة الزراعة، وأول محصول قمح، وكان نتاج زُرَّاعِها في وادي النيل خزان قمح العالم بكل المقاييس، تجوع في أرضنا مجتمعات عربية إن لم تتعطف عليها بلاد العم سام بقمحها وأرزها الملوثين بطوفان من المبيدات الحشرية والبذور المعدلة وراثياً التي تنتظر أوان اجتياحها لكل ما تبقى من نتاج زراعي متهالك عربياً، لإرغامها على الارتهان لإرادة مصطنعي تلك البذور المعدلة وراثياً والأسمدة الكيميائية الوحيدة الكفيلة بإبقاء المحاصيل الناتجة عنها على قيد الحياة، تمهيداً لتحويل مستهلكيها في أرض العرب إلى جيش من مرضى التوحد وأشقياء مرض السرطان.
ألا يحق لعاقل عربي مفترض أن يناشد أخوة الدم في التفكر في إلحاحية التوقف عن ترك أوطاننا مشرعة الأبواب لكل من يريد استعباد أبنائها، وتشكيل مستقبل أطفالها الصحي، والعقلي، والغذائي؛ والكل منشغل في الإيغال في تراجيديا إدمان قابيل على التغذي بنسغ كبد أخيه وقتيله هابيل، ونسيان فلذات كبده التي لا يبدو أن لها حقاً في التساؤل عن ذلك الذي سوف يطعمها ويقيها شرّ التوحد وأقانيمه الشيطانية السرطانية.
كاتب من سوريا يقيم في لندن
د. مصعب قاسم عزاوي
رأسمالية قبيحة تدمر البشر والحجر