تأثير «عمليات شد الوجه» على مشاهدي المحطات الإخبارية العربية

حجم الخط
0

عندما كنت صبياً كنت مولعاً ببرامج الأطفال لدرجة أنني كنت أتتبع حركة الظل كعلامة لبدء برامج الأطفال، فإن وصل الظل لعلامة محددة على الأرض، أعلم أن برامج الأطفال قد بدأت، فأترك كل ما في يدي وأهرول سريعاً إلى جهاز التلفزيون لأشاهدها. وبقدر ولعي هذا ببرامج الأطفال كان والدي ـ رحمة الله عليه ـ أميّاً مولعاً بالأخبار، بحيث أنه كان يشاهد كل نشرة أخبار على التلفزيون ويمنع أيا منّا بأن ينبس ببنت شفة خلال مشاهدته لها، وإن فعل أحدنا ذلك غضب غضباً شديداً. بل من شدة ولعه بالأخبار كان يحمل جهاز راديو بحجم اليد مغطى بغلاف جلدي محكم الصنعة يضعه على أذنه كل ساعة ليتابع نشرات الأخـبار.
غيّب الموت أبي منذ زمن بعيد، وورثت عنه هذا الولع، ولم اكتف بنشرة الأخبار، بل غرقت في دراستها إلى اليوم. والحقيقة التي لا أشك في صحتها بأن الفئة المستهدفة من نشرات الأخبار، ليست فئة الشباب وهي الأكثر عدداً في وطننا العربي، بل هي فئة كبار السن. هذه الحقيقة تأكدها محصلات نتائج الأبحاث الإعلامية الخاصة في نشرات الأخبار التلفزيونية، وليس هذا رأياً شخصياً. فمعظم هذه النتائج تبين أن الفئة الأكثر اهتماماً بنشرة الأخبار هي فئة كبار السن، وكلما زادت الفئة العمرية ازداد اهتمامها بالأخبار، وقلما قلت قل اهتمامها بها. إن سلّم القائمون على المحطات الإخبارية بهذه الحقيقة عندها سيلاحظون أن ما يقومون به اليوم من تغييرات على شاشات محطاتهم، من حيث الشكل والمحتوى، ما هي إلا سياسات بعيدة كل البعد عن الواقع، ولن تمر من دون عواقب سلبية ستأثر على محطاتـهم في القـريب العاجـل.
ففي الأشهر القليلة الماضية ظهرت بعض المحطات الإخبارية بحلة جديدة طغت عليها وجوه شابة من الجنسين، بالإضافة إلى تصميم أستوديو جديد يظهر حداثة الأجهزة المستخدمة ويكشف خلف الكواليس ويربط بين المذيعين والمحررين. هذه الهيئة الإخراجية تعبر مجازياً عن حالة «الشفافية» في التعاطي مع الأخبار، وكأن المحطة تريد أن تخبرنا بأنها لا تخفي عنّا شيئاً، وأنها تكشف لنا عن «مطبخها الإخباري» بلا مواربة.
عملية الكشف هذه، علاوة على أنها ليست فكرة جديدة فقد ظهرت بداية تسعينيات القرن الماضي، لا تقدم للمشاهد كبير السن أي معلومة خبرية مفيدة، بل على العكس إذ تعمل حركات الكاميرة وحركات المذيع المتجول بين مقاعد محرري غرفة الأخبار وكذلك شاشات التلفزيون والحواسيب الكثيرة على تشتيت أفكاره وانتباهه عن الموضوع الإخباري المعالج. ليس هذا فحسب فإظهار عظمة الأستوديو وأجهزته المتطورة لا تفيد المواضيع الإخبارية في شيء، بل هي تأتي في إطار التباهي بالذات، وهي صفة غير محمودة. والأدهى من كل هذا أن هذه الهيئة الإخراجية كشفت لنا عن الأشخاص الذين يقفون وراء كواليس الأخبار، وإذا بهم شباباً صغار السن لم يتجاوز معظمهم الأربعين عاماً، أي أصغر سناً من الفئة الرئيسية المتابعة لنشرات الأخبار، وهذا الكشف يقلل من ثقة كبار السن في هؤلاء، ويتساءل المرء أهؤلاء حقاً من يقفون خلف بعض المذيعين المخضرمين كجميل عازر ومحمد كريشان وخديجة بن قنة؟
إن المذيع الصغير السن والمذيعة صغيرة السن لا يجذبان بصغر سنهما أو جمالهما الظاهر كبار السن، وإن كان القصد من إظهار أصحاب الوجوه الشابة المشدودة جذب صغار السن من المشاهدين، فهذا الأمر لن يحدث لأن الشباب لا يشاهدون نشرة الأخبار أصلاً (وهذا الأمر أعرفه جيداً من خلال محاضراتي الجامعية)، وإن شاهدوها فإن جمال المذيع أو جمال المذيعة ولباسهما سيعمل على تشتيت أنظارهم عن محتوى الخبر لانشغال ذهنهم بما يرون لا بما يسمعون. فهل الهدف هو زيادة عدد المشاهدين بغض النظر عن فهمهم للخبر؟ فإن كان الهدف كذلك فلماذا يعجب القائمون على المحطات الإخبارية من قلة تأثيرهم في الرأي العام العربي ومن قلة تأثيرهم في إحداث تغيير إيجابي في المجتمعات العربية؟
إن عمر المذيع وهيئته الخارجية وليس فقط كفاءته المهنية واللغوية يلعبان دوراً محورياً في تكوين مصداقية المحطة وفي فهم المشاهد للأخبار. وما على القارئ إلا أن يشاهد نشرة أخبار يقدمها رجل مخضرم مثل جميل عازر مثلاً ونشرة أخبار أخرى تقدمها مذيعة جميلة مثل حسينة أوشان، ثم يسأل نفسه بعد ذلك أيا من نشرتي الأخبار هاتين علقت معلوماتها الخبرية أكثر في ذهنه؟ عندها سيعرف عمّا أتحدث.

أستاذ الإعلام في جامعة الخليل ـ فلسطين

تأثير «عمليات شد الوجه» على مشاهدي المحطات الإخبارية العربية

د. فايز شاهين

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية