ثمة ثلاثة تيارات سياسية عربية رئيسية: التيار الإسلامي، التيار القومي، والتيار الليبرالي. كان اليسار يمثل رابع هذه التيارات، حتى وقت قريب، ولكن عدداً من التحولات الإقليمية والدولية أدى، منذ نهاية الثمانينات، إلى اضمحلال اليسار العربي، وانتقال قطاعات من مثقفي ونشطي اليسار العربي إلى صفوف التيارات الثلاثة الأخرى. ما تبقى من اليسار ليس سوى مجموعات صغيرة، حزبية وغير حزبية، لا تتمتع بتأثير يذكر في المجال العربي العام، بخلاف التيارات الثلاثة، الإسلامي والقومي والليبرالي، التي تلعب دوراً هاماً في الجدل العربي السياسي.
المهم، إن وجود هذه التيارات في المجال العربي العام، وتقاسمها الخطاب العربي السياسي، لا يعني بالضرورة أنها تمثل ثلاث كتل مصمتة، ولا أنها تتمتع بثقل شعبي متماثل.
داخل كل من هذه التيارات، هناك بالتأكيد تنوعات وتباينات، بين إسلاميين ينتمون إلى مدرسة الإخوان المسلمين وإسلاميين سلفيين، وإسلاميين ديمقراطيين وغير ديمقراطيين؛ وبين قوميين تقليديين، عسكريي الهوى وأسرى للعلاقة مع الأنظمة العربية شبه القومية، وقوميين ديمقراطيين.
أما ما يعرف بالتيار الليبرالي، فهو أكثر تعقيداً بكثير، وبدا خلال العقد أو العقدين الماضيين، أنه يضم طيفاً واسعاً، يبدأ بمثقفين ليبراليين على الطراز الغربي، ولا ينتهي برجال أعمال، بنوا ثرواتهم بطرق مشبوهة ويدعون إلى ليبرالية اقتصادية جديدة ومتوحشة.
قبل 3 تموز/يوليو، لم تكن هذه التباينات دائماً ضرورية لقراءة الخارطة السياسية العربية. كان ثمة انطباع لدى كثير من دارسي المنطقة العربية وفضائها السياسي أن الإسلاميين يشتركون في هدف أسلمة الدولة ونظام الحكم، بغض النظر عن تبايناتهم، وأن القوميين، مهما كانت توجهاتهم، يتقاسمون حلماً، غير محدد بالضرورة، لوحدة العرب وتوكيد هويتهم القومية، وأن الليبراليين، بكل خلفياتهم، يريدون نقل النموذج السياسي الغربي، الحر، العلماني، التعددي، إلى المجال العربي. ولكن 3 تموز/يوليو، مهما كانت النتائج التي سينتهي إليها، يستدعي قراءة أخرى للتيارات العربية الرئيسية، لتبايناتها، ومدلولاتها. و3 تموز/يوليو، ليس لأنه كان يوم إطاحة الرئيس محمد مرسي، ابن جماعة الإخوان المسلمين، من رئاسة الجمهورية، أو لأنه وضع نهاية لسيطرة الإخوان على نظام حكم الدولة العربية الأكبر والأكثر تأثيراً. هذه في الحقيقة ليست سوى دعاية سوداء، يدرك مروجوها فقدانها للأسس الصلبة؛ فلا مرسي ترأس الجمهورية المصرية الثانية باسم جماعته، ولا كانت الجماعة في موقع المسيطر على نظام الحكم والدولة. 3 تموز/يوليو لأنه التاريخ الذي شهد محاولة إجهاض الديمقراطية المصرية الوليدة، ولأن مواقف القوى السياسية من هذا الحدث الجلل لابد أن تحدد، وتعيد النظر في، حقيقة ومصداقية مقولات هذه القوى.
ادعى الليبراليون المصريون، والليبراليون العرب، بصورة عامة، ومنذ زمن طويل، أنهم حراس النهج الديمقراطي وضمانة ‘الدولة المدنية’، بالرغم من الغموض الثقيل الذي يحيط بمفهوم ‘الدولة المدنية’. ولأن عدداً من دارسي ومؤرخي الشرق الأوسط الحديث، صنعوا أسطورة لحقبة ليبرالية عربية، شهدتها دول عربية في فترة ما بين الحربين الأولى والثانية، فقد وجدت صورة التيار الليبرالي مسوغاً تاريخياً تعود إليه.
علاقة الإسلاميين والقوميين بالديمقراطية هي شأن آخر، ليس فقط لأنهم لم يتظاهروا بحمل الادعاء الذي حمله رفاقهم الليبراليون، ولكن أيضاً لأن قناعاتهم الديمقراطية حديثة نسبياً، وتعود إلى سبعينات وثمانينات القرن الماضي. لم يقبل انحياز القوميين والإسلاميين المتأخر للفكرة الديمقراطية بسهولة ويسر، سيما أن الأولين نظروا إلى الأنظمة العربية القومية في الخمسينات والستينات، المعادية للديمقراطية وذات الميراث القمعي، نظرة مرجعية؛ وأن لا لحظة ولادة التيار الإسلامي السياسي في عشرينات القرن الماضي، ولا أدبياته اللاحقة، حملت روحاً ديمقراطية. ولكن تصميم القوميين والإسلاميين على الالتزام بالفكرة الديمقراطية طوال عدة عقود، ومشاركة القوى القومية والإسلامية في النضال من أجل الديمقراطية في مصر وأكثر من بلد عربي، عزز من مصداقية الخطاب الديمقراطي لكلا التيارين، ولم يترك مبرراً ملموساً للتشكيك في هذه المصداقية. ثم جاءت اللحظة التاريخية لانطلاق حركة الثورة العربية، من تونس ومصر ودول الثورة والتحرر الأخرى، لتضع هذه المصداقية، إلى جانب مصداقية التيار الليبرالي، على محك الواقع الملموس.
ليس ثمة شك أن الفكرة الديمقراطية تقع في مركز حركة الثورة العربية؛ ليس فقط لأن الشعوب رأت أن النظام الديمقراطي يوفر مساحة واسعة من الحرية، التي فقدتها طوال عقود من الحكم القمعي، ولكن أيضاً لاعتقادها بأن الديمقراطية كفيلة بتحقيق إرادة الأغلبية، سياسياً وتشريعياً واقتصادياً وقومياً. لم يكن الانقسام وفقدان الإجماع حالة عربية جديدة، أفرزها مناخ الحرية الذي ولدته حركة الثورة العربية. الحقيقة، أن هذا الانقسام قديم، قدم المشرق العربي الحديث. ولكن الاعتقاد الذي ساد خلال العامين الماضيين أن مناخ الحرية والنظام الديمقراطي سيوفران شروط التدافع السلمي والحوار، الكفيلة بأن تمنح الشعوب العربية فرصة صناعة وبناء إجماعها، الضروري لتحقيق الاستقرار. في مصر، كما في تونس واليمن وليبيا وسورية، شهد العامان الماضيان منعطفات بالغة الحرج، ولحظات تفاقم فادح للانقسام، انعكس أحياناً في حراك دموي في شوارع العواصم والمدن. ولكن أحداً لم يتجرأ على المس بسقف مناخ الحرية والديمقراطية، أهم مكتسبات حركة الثورة العربية، حتى الآن. ما شهدته مصر في 3 يوليو/ تموز كان منعطفاً من نوع آخر. ففي الدولة العربية الكبرى، الدولة التي يعني فقدانها أن تفقد حركة الثورة العربية معناها ومبرر وجودها، ثمة شكوك كبرى اليوم حول استمرار مناخ الحرية واستمرار النظام الديمقراطي.
في 3 تموز/يوليو، وقف قوميون وليبراليون مصريون مع خطوة قيادة القوات المسلحة بإطاحة أول رئيس جمهورية مدني، وصل إلى موقعه في انتخابات لم تعرف الجمهورية في تاريخها أكثر منها نزاهة وشفافية، وتعليق أول دستور تضعه هيئة تأسيسية منتخبة، وحل مجلس الشورى، المنتخب. ليس ذلك وحسب، بل إن قيادات وأحزاب ليبرالية وقومية طالبت صراحة طوال شهور، قبل 3 تموز/يوليو، بتدخل الجيش لحسم الصراع السياسي في البلاد، وقدمت كل المسوغات الممكنة لهذا التدخل. وما إن اندلعت حركة شعبية معارضة لوقف مسار الحياة الدستورية، حتى تنافست الأحزاب والشخصيات القومية والليبرالية في الضغط وتقديم المقترحات لقمع الحركة الشعبية. في أجواء لم تعرف لها مصر مثيلاً طوال عقود، يشارك الليبراليون والقوميون المصريون في تأجيج مناخ تخويني، استئصالي، دموي، ضد الإسلاميين، شركاؤهم في سنوات المعارضة لنظام مبارك وشركاؤهم في ثورة كانون أول/يناير 2011، وفي إثارة مشاعر معادية لفلسطين والفلسطينيين، لسورية والسوريين، وصناعة مناخ مصري شوفيني. والمدهش، أن النهج الذي اختاره القوميون والليبراليون المصريون يجد ترحيباً وتأييداً من دوائر عربية قومية وليبرالية، بما في ذلك أحزاب ومثقفون وكتاب وصحافيون. محملون بكراهية عمياء للتيار الإسلامي، وخوف فطري من كل ما يمت للإسلام بصلة، نشر قوميون وليبراليون عرب في الأسابيع القليلة الماضية نصوصاً احتفالية، تؤيد اقتلاع الإسلاميين من المشهد السياسي المصري، وكأن الإسلاميين المصريين حفنة صغيرة من النشطاء الوافدين، ولم يخفوا رغبتهم في أن تكون الانعطافة المصرية مقدمة لحركة اجتثاث عربية شاملة للإسلاميين.
هذا لا يعني بالتأكيد أن هذا الموقف يشمل كل القوميين والليبراليين المصريين والعرب. ثمة من كان لديهم النزاهة والشجاعة الكافية ليخالفوا أبناء القبيلة وشيوخها، من كان لديهم الحكمة ليروا مخاطر ما وقع وعواقبه، ليس على مصر وحسب، بل وعلى المحيط العربي كله أيضاً. ولكن هؤلاء كانوا الاستثناء لا القاعدة. وهذا هو الخطر.
فمنذ بداية الخمسينات، وحتى بداية الثمانينات، شهدت دول الجمهوريات العربية، قومية التوجه، سلسلة من الصدامات الدموية بين أنظمة الحكم القومية والتيار الإسلامي، بداية من مصر والجزائر إلى العراق وسورية، تركت خلفها إرثاً دموياً من الكراهية الأحقاد والمنافي البعيدة. ولكن قوى متعددة في التيار القومي العربي سرعان ما أدركت أن تماهي الحركة القومية مع أنظمة قمعية، دموية، استئصالية، لم يكن ضاراً بالفكرة القومية وحسب، بل والدول العربية نفسها، كل على حدة، كذلك. وفي ظل أجواء مراجعة ديمقراطية واسعة، وجد القوميون والإسلاميون مساحة متفاوتة للقاء والعمل معاً من أجل مستقبل أفضل لبلادهم وللعرب جميعاً، كانت مصر بدون شك، مثال هذا اللقاء الأبرز. قصة التيار الليبرالي وعلاقته بالقوميين والإسلاميين مختلفة قليلاً. فما لا يخفى أن التيار الليبرالي بتعبيراته السياسية، وليس بمثقفيه بالضرورة، ولد في أحضان أنظمة الانفتاح الاقتصادي والتحالف الغربي في العقود الثلاثة الماضية. أموال رجال أعمال، ربطتهم بالأنظمة العربية الحاكمة، المتحولة إلى الليبرالية الاقتصادية منذ الثمانينات، هي التي مولت الأحزاب والجماعات السياسية الليبرالية، ووسائل الإعلام المرتبطة بها أو القريبة منها. ولكن هؤلاء كانوا من الذكاء، أو المصلحة، أن التحقوا بحركة الثورة العربية، وأصبحوا، على نحو أو آخر، جزءاً منها.
على مستوى خارطة قواه السياسية، يمر العالم العربي الآن بلحظة فارقة. فقد انتهت سنوات اللقاء بين التيارات الثلاثة إلى افتراق سياسي حاد، وتبخرت الآمال المعلقة على أن يساعد الزمن والمناخ الديمقراطي على بلورة توافق تاريخي بين التيارات الثلاثة، يفتح أبواب المستقبل للمصريين والعرب جميعاً. كان امتحان الديمقراطية، وأعباؤها، أثقل بكثير من قدرة النخب السياسية القومية والليبرالية على التحمل. ما لم تقع معجزة عربية أخرى، فقد وضع امتحان الديمقراطية في مصر، وهو امتحان متصل في دول عربية أخرى، نهاية للمشترك الأصلب والأكثر مدعاة للأمل، بين التيارات الثلاثة. على غير معظم توقعات دارسي الشرق الأوسط والإسلام الحديث، لم يعد من الممكن الثقة في ديمقراطية النخب السياسية العربية القومية والليبرالية. ليس سوى الإسلاميين اليوم، من يرفع راية الحريات والديمقراطية في هذا المجال العربي الواسع، والمفعم بآلام القرن العشرين.
‘ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث
مشكلة الإسلاميين يا دكتور بشير أنهم أو معظمهم يعتقدون أنهم يحتكون الحقيقة مع أن الصحابة اختلفوا في عهد الرسول صلى الله عليه و سلم ولم يكفر احد الآخر ولم يزعم انه وحده من يفهم و يطبق الشريعة على أصولها ولكن فرصة الإسلام الوسطي السمح لا تزال قائمة
لصاحب التعليق الأول، يبدوا أنك انطلت عليك الحيلة وصدقت التهم الزائفة التي يلصقها العلمانيون بالاسلاميين: أن الإسلاميين يملكون الحقيقة، لا يقبلون الرأي الآخر، يضمنون لأنفسهم الجنة ويحسمون لمخالفهم بالنار، يستغلون الدين في السياسة، يتشبتون بالسلطة، سيقتلون ويذبحون…. هل من أدلة واقعية وعقولة على هذه التهم
هل العلمانيين كانوا في عالمنا العربي ديموقراطيين يوما ما؟ أثبتت الأيام أن لا إرهاب ولا قمع ولا تزوير ولا تدليس ولا كفر بالديموقراطية سوى ما آتى به العلمانيون بقومييهم وليبيرالييهم واشتراكييهم….
الذي يحلم باجتثات الإسلاميين وإقصائهم واهم