كَمَنْ يتعقّبه أبله بعصا غليظة

1ـ صديقي سائق طاكسي صغير. يشتغل في الليل منذ سنوات. يستمع للمذياع ويجيب على الهاتف. المكالمات لا تتوقف. يتعامل مع زبنائه الليليين بحنانٍ زائدٍ. سلامتهم مضمونة.
يشتري قناني الويسكي من المهرّبين. وقضبان العازل الطبي من صيدلية الحراسة الليلية. ويذهب بالأمانة إلى أصحابها. يذهب، أيضاً، بالمتزوّجات إلى غرف العزّاب ويعيدهن إلى بيت الزوجية في سريّة تامة، ويتقاضى أجره مضروب في عشرة.
صديقي ينهي عمله في السابعة صباحاً. يتناول فطوره بالرغيف والشاي في المقهى. ينظر إلى وجهه في المرآة. يشكر الله والليل. ويذهب للنوم.
2
القهوة جيّدة. صوت أم كلثوم ينبعث من usb. النادل ظريف، شعره مردود إلى الجانب على طريقة عبد الحليم حافظ. حركاته رشيقة مثل غلامٍ يقرصه السكارى في مؤخرته الطرية في ديوان أبي نواس. الغلام الذي نسي أن يأتي بالملعقة هذا الصباح . حرّكتُ القهوة بسبّابتي وجلست أقرأ.
لم أفتح نافذة الفيسبوك بعدُ. ماذا عسى أن يوجد؟ صباح الخير كالعادة. ورود بلاستيك وفناجين قهوة مستخرجة من محرّك غوغل. أسمّيه دائماً عمّي جوجل، وأستعيض به عن عمّي الوحيد الذي لم أره منذ سنوات. منذ أن مات أبي والتقطنا صورةً سيلفي نكاية بالحزن وافترقنا بعناقٍ مغشوش. مشاعر البدو غامضة ومحيّرة. هذا جيّد ويحفزّني على كتابة الشعر. أكره حرف الغين الذي يذّكرني بالغول والغيّاب والطغاة. قافية الغين أجدها مقزّزة في قصائد القدامى، وأفضل عليها الباء التي تذكّرني بحليب النوق وعنب الدوالي.
وماذا يوجد في الفيسبوك أيضاً ؟ قصائد قصيرة مثل ميني جيب وأخرى طويلة مثل عنق زرافة. لا أحد يقرأ. أخمّن ذلك. لكن هناك دائماً من يرفع أصبعه الجميلة ويبصم. هذا رائع كي نواصل الحياة كقردة. نلقم حبّات الكاكاو من ثقوب الشباك ونبتسم.
اليوم هو عيد ميلادي. يقول الفايسبوك. وهي مناسبة لا تعنيني في شيء. أيّامي كانت دائمة متشابهة مثل أزرار قميص. متوّترة مثل مسمار في حائط. الحائط الذي أسند عليه الآن ظهري وأقرأ رسالة وصلتني على الايميل من صديقة في بلاد بعيدة. حكت لي عن أشياءٍ كثيرة قبل أن تختم رسالتها ب «محبتي». المحبّة هي ما يحتاجه العالم، أمّا أنا فأحتاج إلى الأوساخ ورائحة البعر كي أعطس وأتذكّر عيد ميلادي.
3
سلوى وبشرى تلميذتان في الثالثة إعدادي، مجتهدتان وعلى قدر كبير من الانضباط والإصرار على احتلال المراتب الأولى، ولا يمكن للأساتذة في ثانويات وكوليجات المغرب إلا أن يحلموا بأمثالهما في ظل واقع العنف التي تعيش على إيقاعه هذه المؤسسات حدّ أن هناك من الأساتذة من يصلّي ركعتين مشفوعتين بدعاء السلامة كلما فكّر في الذهاب لملاقاة هذه الجثث السمينة.
سلوى وبشرى صديقتان حميمتان، ومتشابتان في هذه الألف المقصورة. في بياض البشرة وجمال العينين. في رنّة الصوت وتصفيف الشعر على شكل إسفنجة. وزّع الله الجمال على البنتين بمنتهى القسط والإنصاف. ومن عظمة الخالق أن تظهر شامة على خدّ بشرى، ثم بعد أربعة أشهر على خدّ سلوى.
كانت الصورة ستكتمل جمالاً لو أنّ البنتين توأمان أو تحملان في دمائهما قرابة عائلية مثلاً. ولولا أنّ أب سلوى جنديّ في مدينة جنوبيّة منذ سنوات يحضر في البيت عشرين يوماً ويتغيّب عنه أربعة أشهر وأكثر ، أما والد بشرى فلا داعي لمعرفة مهنته إذا ما عرفتم أنه جارٌ عزيز لصديقنا الجندي.
يا لعظمة الخالق، ويا لهول فضول العباد من أمثالي.
4
معلمنا القديم في الإبتدائي سي العربي، الذي مات مؤخراً بسبب مضاعفات السكري وغبار الطباشير الذي تسرّب إلى رئتيه حيث كان يترك الباب موارباً ويستلقي على ظهره مثل راعٍ يحرس نجمة، علّمنا أن الدرهم الأبيض ينفع في اليوم الأسود. وحين كبرنا قضينا وقتاً طويلاً نبحث عن الدرهم في الأسواق والمصانع البعيدة، في الوزارات ومربّعات الحظ. بل وأكثر حين حفرنا طويلاً بأظافرنا المتسخة في الحقول بحثاً عن الكنوز المطمورة. لكنّنا لم نعثر على شيء، فكذبنا معلمنا القديم وجلسنا نكتب روايتنا الحزينة. ولأن لكل واحدٍ منّا روايته الحزينة، فلا أحد فكّر أن يقرأ للآخرين.
5
صديقتي القديمة شاعرة وظريفة جدّاً. تزوّجت معلماً في البداية. ظريف هو الآخر، يضع مشطاً في جيبه ويصل إلى عمله على متن دراجة هوائية. لا أدري ما ذا حصل بينهما وتطلقّا بسرعة البرق. ثم تزوّجت صديقتي، في المرّة الثانية، شاعراً يشرف على إحدى الملاحق الثقافية. تطلّقت منه هو الآخر وتزوّجت روائياً.
صديقتي شاعرة ذكية. أرجّح أن تتزوّج صاحب دار نشر شهيرة في المرّة القادمة. أنتظر ذلك لأبارك لها في داخلي كما كنت أفعل في كلّ مرّة.
6
كلما مررتُ من أمامها تتبعثر خطواتي، وأكاد أهوي على وجهي، وأتضرّج في دماء كثيرة، ويكاد لا يصل أحد لإسعافي. أقصد شجرة الليمون المغروسة أمام جارنا، الذي لا أعرف عمله. أشعر كما لو أن شخصاً يختبئ بين أغصانها.
ولأن الشجرة كبيرة، أشعر أحياناً أن هناك شخصين لا واحداً. واحداً يملي والآخر يكتب. أتباطأ في المشي، وأشعر بدبيب القلم من اليمين إلى اليسار.لا أعرف كم من مجلد كتبا إلى الآن، ولأن ضوء البلدية شحيح جداً، فأرجح أن الرجلين يكتبان بخط رديء، كما أن هناك مشكلة في الهمزة وتشطيبات كثيرة.
7
الرجل المشلول الذي طلب مني ثمن الحليب هذا المساء، هو بالذات والصفات الذي كان يبيع النبيذ والوسيكي المهرّب من الشمال طوال سنوات. يبدأ عمله بعد العاشرة ليلاً عندما تغلق حانة المدينة الوحيدة بابها الخشبيّ.
كان مدجّجاً بالمجرمين والعصي وكلب «بيتبول» وظلام الليل. يوزّع القسوة من نافذة صغيرة ويقمع الموظفين بصوته الجهوري. يستف الويسكي من القوارير بأنبوبٍ صغير ويدسّ مكانه البنج ومسحوق القرقوبي.
الحياة ماكينة قمار عجيبة يديرها أحدهم بأصابع طويلة وسيجارة في الفم.
8
أفرغتُ الصالون من الأغراض. أزحتُ الكراسي جانباً. تجرّدت من ملابسي. ثم أخذتُ أتقلب في كلّ اتجاه مثل حمارٍ فوق رمل ساخنٍ. فعلتُ هذا لمدّة ربع ساعة تقريباً إلى أن سقط كثيرون من على ظهري، رجال ونساء لا حصر لهم.
أشعر الآن أنّي خفيف الوزن ورشيق لدرجة بإمكاني أن أركض كمن يتعقبّه أبله بعصا غليظة.
9
هذا الصباح، أجريتُ عملية جراحية سريعة على نصّ سردي، عمليّة في الجهاز التناسلي بالتحديد، وصارَ قصيدة جميلة أردافها بحجم الإمبراطورية العثمانيّة.
المهم دفعتُ بهذا المتحوّل جنسيّاً إلى الحياة. ليشرب القهوة ويشتم الحكومة. وتركتُ الناس ورائي بين مؤيدٍ ومعارض .
10
على عكس المرّات السابقة، تفاهمنا هذه المرّة على كلّ شيء تقريباً عدا بعض التفاصيل الصغيرة التي يمكن أن نواصل النقاش بخصوصها في الهاتف أو عبر الواتساب.
أتحدث عن بطل روايتي الجديدة، الذي زارني هذا الصباح في المقهى وبدا مقتنعاً بمصيره. وكي أضرب الحديد وهو حامي كما تقول أمّي، سلّمته شيكاً كضمانة على أساس أن أدفع له أتعابه كلما فرغنا من أربعين صفحة. أي سأسلمه المبلغ على خمس دفعات إذا ما توقفنا عند الصفحة 200 كما اِتفقنا. وهي الصفحة التي سيكون فيها البطل واقفاً على شفير حفرة. سأدفع به إلى الهاوية وأضحك، قبل أن أغلق الرواية بنظام الحماية الإلكتروني وأكتب جنوب الصفحة « لقد تمّت بعون الله في المكان الفلاني بالتاريخ الفلاني « كما كان يفعل جرجي زيدان.
اِتفقنا على شهرين من العمل المتواصل. من منتصف الليل إلى الرابعة صباحاً، بما في ذلك ثلاثة أيام لإعادة النظر في بعض الفقرات واِستبدال بعض الجمل الاسمية بأخرى فعلية لتسريع إيقاع السرد والرفع من درجة الحرارة بين السطور.

٭ كاتب مغربي

كَمَنْ يتعقّبه أبله بعصا غليظة

حسن بولهويشات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عدنان:

    رائع مختصر ومعبر

  2. يقول بادر سيف:

    الزميل حسن سلامي….نص باسلوب رائع سهل و ممتع الكل يعترف لك بامتلاك ناصية قلمك فقط هل نحن وفي مثل هذا العصر الذي يتكالب عليه الفساد من كل ناحية و صوب هل نحن في حاجة الى ادب الايروتيك و اللعب الفاضيي
    تحياتي حسن وظف قدراتك في كتابات ترتقي الى مصاف الادب العفيف النظيف و نحن نقرأ لك
    بادر سيف/ الجزائر

إشترك في قائمتنا البريدية