ماكرون: مساكنة الانسداد

حجم الخط
8

 

إذْ ينتقل إيمانويل ماكرون، اليوم، من صفة الرئيس المنتخب إلى شخص الرئيس الفعلي كامل الصلاحيات (وبالمعنى الإمبراطوري الذي فصّله شارل ديغول في دستور الجمهورية الخامسة)؛ فإنّ الغيوم المدلهمة لتوها في سماء فرنسا ما بعد فرنسوا أولاند، سوف تزداد قتامة وكثافة واحتمال رعود وبروق!
وليست اللغة الاستعارية، هنا، إلا بعض ما يحتشد على مكتب ماكرون من مشكلات عويصة مستعصية؛ لن يبدأ أولها من تسمية رئيس وزراء يحظى بالإجماع، أو يعكس القدرة على تحقيقه، بين اليسار واليمين والوسط، وبين أرباب العمل ونقابات العمال؛ ولن يكون أعقدها خوض معركة الانتخابات التشريعية، وحيازة أغلبية معقولة تتيح للرئيس الحكم دونما حاجة إلى «مساكنة» هذا الحزب أو ذاك؛ ولن ينته آخرها عند هموم أوروبا وهواجسها، كما ستصبح أجندة يومية في أشغال الرئيس منذ أن تهبط طائرته في برلين، للقاء المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، في أوّل زيارة رسمية خارج فرنسا.
الثابت، في كلّ حال، أنّ جوهر هذا المشهد المتداخل لا يتصل بشخص الرئيس نفسه، أو بطبائع انتخابه على نحو أقصى التيارين السياسيين الرئيسيين في الجمهورية الخامسة، فحسب؛ بل يرتبط، أيضاً ومباشرة، بالحال التي تعيشها فرنسا، المجتمع والاقتصاد والسياسة والدولة، بصفة خاصة، مثلما تعيشها أوروبا بصفة عامة، وإنْ بمقادير متفاوتة من الشدّة. عولمة، وحشية أم معتدلة، سواء بسواء؛ واقتصاد سوق متأزم، يعاني من انسداد بنيوي واستعصاء عضال؛ وفلسفة ليبرالية أو نيو ـ ليبرالية، لم تعد تعرف لها هوية إيديولوجية بين يمين أو وسط، أو حتى يسار!
هل نسير، جميعاً، نحو الخراب؟ هكذا تساءل، قبل سنوات قليلة فقط، الكاتب والاقتصادي الفرنسي جاك أتالي في كتاب يحمل روحية التطيّر ذاتها ابتداء من العنوان: «هل سينهار كلّ شيء خلال عشر سنوات؟». طبعة الكتاب الأولى بلغت 70 ألف نسخة، ليس لأسباب تخصّ علوّ كعب المؤلف في الاقتصاد السياسي؛ بل لأنّ توقيت نشر الكتاب كان حاسماً تماماً، لجهة التناغم مع حال الرعب العامة، الجَمْعية على نحو أو آخر، إزاء مآزق الاقتصادات الغربية، في المصارف والبورصات، كما في خزائن الدول وديونها العامة.
ولا بدّ، على الفور، من التذكير بأنّ أتالي ليس بالمراقب العادي لمشهد العولمة الراهن، أو خرائط التأزّم الاقتصادية والجيو ـ سياسية. لقد عمل مستشاراً وكاتم أسرار في حاشية الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتيران، فوقف على الكثير من خفايا السياسة الدولية، خصوصاً في طور انهيار المعسكر الاشتراكي وحرب الخليج الثانية. لكنّه، ثانياً، اقتصادي بارز، شغل منصب المدير العام لأوّل بنك أوروبي موحّد، وُضع تحت تصرّف وإدارة الإتحاد الأوروبي.
أمّا صلته بالمشهد الفرنسي الراهن، بعد الانتخابات الرئاسية، فهو أنّ أتالي كان بين أوائل الذين تنبأوا بصعود ماكرون وسطوع نجمه واحتمال وصوله إلى قصر الإليزيه؛ وذلك في حقبة مبكرة لم يكن فيها أحد من ساسة فرنسا، والغالبية الساحقة من الكتّاب والمعلقين، قد امتلك جرأة التلميح إلى احتمال كهذا. بذلك تبدو المفارقة صارخة حقاً: هذا رجل استبشر خيراً بشابّ آت من قطاع المصارف، غريب عن الأحزاب ومحكّ الانتخاب والاحتراف السياسي، حائر بين الوسط ويمين اليسار ويسار اليمين؛ ولكنه، في آن معاً، الرجل الذي بشّر بانهيار «كل شيء» خلال عشر سنوات، أي خلال فترة زمنية تشمل حكم ماكرون أيضاً!
ومع ذلك، وربما بسبب من ذلك تحديداً، قد يختار الناخب الفرنسي ما تحمله هذه المفارقة من «حكمة» عملية، فيمنح الرئيس الشاب أغلبية برلمانية مفاجئة؛ إنْ لم يكن بسبب من التمسك ببارقة أمل ما، أياً كانت مصداقيتها الظاهرة، فعلى الأقلّ لكي يُنزل العقاب بطبقة سياسية حكمت طيلة ستة عقود تقريباً، ففشلت مراراً وتكراراً، ووُضعت أخيراً على الرفّ!

ماكرون: مساكنة الانسداد

صبحي حديدي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول بولنوار قويدر-الجزائر-:

    السلام عليكم
    فرنسا كباقي الدول سواء في أوربا أو غيرها لقد حلت بها ريّاح التغيير سواء السياسية منها أو الإقتصادية أو الإجتماعية وحت في جانبه الثقافي حيث إستطاعت أن تخرج عن البمألوف لفرنسا العجوز أن تخرج من قوقعتها المعروفة بالتشبث “بالزعامة والتاريخ” لتسكن قوقعة أخرى من غير الصنف الأول وأرادت أن تمشي مع الواقع المعيش وما الأمجاد فتبقى ليسجلها التاريخ لذلك غامرت بالمتناقضين المتمثل في (لوبان /ماكرون) لتقول :(أنا فرنسا اليوم) ولست (فرنسا التاريخ) فكانت النتائج حسب المتتبعين قد خرجت عن المألوف بتفريخ”طفرة” في إنتخاباتها ببيضتين لم يكن أكثر الفرنسيين القدماء”الجيل الأول” يتوقع ذلك …أمّا فوز “ماكرون” فكان متوقعا كثيرا لأنّ الفرنسيين لم يجدوا بد من الإلتفاف حوا “ماكرون” هروبا من “لوبان”…
    إنّ الفرنسيين على الرغم ممّا تعانيه المنظمة السياسية والإقتصادية فسوف نجدهم يحولقون حول مصير بلادهم ولا يفرطون فيها ضاربين عرض الحائط المصالح الذاتية لنجدة المصالح العامة وليس كحالنا نغضب لنكسر ونفرح لنكسر ولم نعرف بعد :(ما هو الإختلاف في السياسة ولماذا نختلف في السياسة ولماذا نتفق؟؟؟كل ذلك لا معنى له عندنا…نختلف في طرح الأفكار من أجل أن نبين من المتفوق حتى يستطيع المواطن أن يختار الأنسب للوطن أولا ونتفق معارضة وموالاة من أجل أن نبني “إنسان الوطن الذي يبني الوطن”…
    ولله في خلقه شؤون
    وسبحان الله

  2. يقول Dinars:

    خمس معضلات إذا تفطن لها ماكرون وقام بحلها وبنت على منوالها دول أخرى فسيتعافى إقتصاد العالم ككل. ما دون ذلك فهو الخراب واستمرار تمسك اليهود بزمام العالم ولن تنجو دولة حيث ستسقط دول عدة وسيعيد التاريخ نفسه انطلاقا من سنة2029 . عندها تصل الأزمة الإقتصادية ذروتها ولا مجال بعدها للتدارك. إلا بما خطط له اليهود ليزداد الثراء فحشا عند فئة قليلة منهم تدير دواليب العالم.
    أول معضلة حلها ينطلق من المؤسسات التشريعة.
    أما بقية الحلول فأحتفظ بها لنفسي. ويوجد في النهر ما لا يوجد في البحر.

  3. يقول علي البحار:

    تحليل رائع

  4. يقول سامح //الأردن:

    *لا أعرف لماذا القلق والخوف
    والرعب من نظام (ديموقراطي)..؟؟!
    *سلام

  5. يقول Dinars:

    معضلتان كنت قد ذكرتهما في مقالين مختلفين في عدد اليوم من جريدة القدس العربي ولن أذكر كيفية حلهما.
    على سبيل” المزاحح ” ذكرت في تعليق لي بعد فوز ماكرون أنني يمكن أن أكون مستشارا له.
    علما وأن حل الأزمة الإقتصادية يستوجب عزما وحزما.

  6. يقول تونسي ابن الجمهورية:

    فرنسا و ألمانيا هما المحرك الأساسي لأوروبا خصوصا بعد خروج بريطانيا المنافقة منها ….الاستراتيجية الأوروبية واضحة هنا …الفرنسيين ضربوا لوبان فى مقتل عندما قالت انها ستخرج من الأورو …اغلب الفرنسيين يعرفون ان مستقبلهم هو اوروبا و ليس فرنسا و انتم تعرفون ان كل اصلاح داخلى فى بلد اوروبي ما يجب ان يتناغم مع قوانين بروكسل …الاعلام الأوروبية كانت هى الأكثر ظهورا فى تجمعات ماكرون …نحن فى تونس نعرف ان مستقبلنا مرتبط ارتباط عضوى مع أوروبا تونس تبعد 60 كلم عن اول جزيرة اوروبية…90 % من مبادلاتنا التجارية و اغلب الصناعات الالكترونية و الميكانيكية و النسبج و موكنات الطائرات و صناعة الذكاء هى مصدرة الى أوروبا هذا على ان اكثر من 10 % من التونسيين يعيشون فى اوروبا او يحملون حنسيتها هذا علاوتا عن السياحة و تصدير المنتوحات الفلاحية ….هناك اكثر من 500 الف تونسي يعملون فى مؤسسسات اوروبية منتصبة فى تونس …اما متفائل بالمحرك الاوروبي الذى سيعمل بكل قواه و اقتصاديا سيعود على تونس بالفائدة الكبيرة …تحيا تونس تحيا الجمهورية

  7. يقول مارق طريق:

    الى التونسي ابن الجمهورية:
    المكان الذي اشرت اليه كانه مقتل , هو عند لوبان ليس كذلك ؟!! وتقبل مني لفتة النظر هذه والسلام

  8. يقول سامح //الأردن:

    *للأخ (تونسي ابن الجمهورية) حياك الله.
    *يا طيب المفروض تقول وأنت المثقف
    والوطني أن (تونس ) مرتبطة عضويا
    بالاشقاء دول (المغرب العربي) ولكن ولعدم
    توفر الظروف المناسبة على بلدي تونس
    أن تجد البديل في (أوروبا ).
    وبارك الله في تونس وجميع الدول العربية.
    سلام

إشترك في قائمتنا البريدية