عالم ليس لنا

حجم الخط
2

في نقاش مع أحد الأصدقاء حول منعطف الدم الذي يجتازه المشرق العربي، وجدت نفسي أنتقل فجأة الى الكلام بالفصحى فقلت انه «عالم ليس لنا». وجدتني ألجأ بشكل عفوي إلى عنوان مجموعة قصصية لغسان كنفاني. فهذه العبارة صارت جزءاً من قاموسي، من دون أن يعني ذلك أنني قصدت المعنى الذي أراده كنفاني. تماماً مثلما نلجأ إلى أبيات من الشعر نستعين بها كي نلخص المعنى ـونكثفه، متجنبين الاستفاضة والرطانة.
حين قلت انه عالم ليس لنا، لم أتبنَ المعنى الحرفي للعبارة، بل أردت ان أقول أنني لا أعرف بالضبط كيف تسير بنا الأمور في هذا الزمن، أغلب الظن أنني قصدت معاني مختلفة وقد تكون متناقضة، كأن أقول أنني أشعر بالغربة أو أشعر بالعجز، أو أنتظر شيئاً غامضاً تخبئه لنا الأيام، أو أنني لا أدري، فلجأت إلى عبارة جاهزة تجنبني مشقة الصمت.
هذا التضارب في المعاني يأخذني إلى «شتى المعاني» التي يختزنها الشعر بحسب أبي نواس:
«آخذٌ نفسي بتأليف شيءٍ/ واحدٍ في اللفظ شتَّى المعاني».
المعاني المتعددة التي أشار إليها أبو نواس هي غواية العملية الأدبية، فالأدب يغوي ليس بصفته حاملاً للمعنى فقط، بل لأنه يسمح أيضاً للغة بأن تتلون بمعان مختلفة، وهذا سره. التأويل سرّ الأدب الذي يجعل منه باباً مفتوحاً على أزمنة متعددة، وقراءات لا تحصى. ومتى بطُل التأويل أو كان غير ممكن، فقد الأدب سحره، وتحول إلى خطاب آحادي بلا نكهة.
درجت الثقافة العربية على اللجوء إلى الأبيات الشعرية كي تشكل متكأ للكلام. وهذا ليس مرتبطاً بالمتنبي وحده، الذي تحول العديد من أبياته إلى ما يشبه الأمثال الشعبية، بل يعود إلى زمن البدايات الشعرية في العصر الجاهلي، حين كانت فحولة الشاعر تنسب إلى غرض شعري أو بيت محدد. كأن يٌقال «أشعر العرب ثلاثة: امروء القيس إذا ركب والأعشى إذا طرب والنابغة إذا رهب».
كما أن النثر الكلاسيكي العربي احتفى بالشعر لأنه رسم له مهمة تثبيت المعنى داخل المبنى السردي، وهذا ما نلاحظه في أعمال ابن حزم الاندلسي وأبي حيان التوحيدي… وصولاً إلى «ألف ليلة وليلة»، حيث تلعب الأبيات الشعرية دوراً خاصاً في تلوين المعاني وتوكيدها.
غير أنني لم ألجأ إلى الشعر في حواري مع صديقي، بل لجأت إلى عنوان كتاب نثري، كأن عناوين بعض الكتب، تنحفر في الذاكرة بحيث يصير العنوان أشبه بلحظة شعرية تحول المعنى إلى استعارة.
فاذا كانت شعرية الرواية تكمن في قدرتها على نثر المعاني، وتحويل الايقاع إلى متوالية منسوجة من موسيقى الحياة اليومية، فإن العناوين تلعب دوراً مختلفاً، لأنها تقدم باقة من الاحتمالات.
هناك الأسماء التي تتحول إلى رمز مثل «نجمة» لكاتب ياسين، أو نموذج انساني كما في «المتشائل»، لاميل حبيبي، أو استعارة سياسية كما في «الزيني بركات» لجمال الغيطاني، و«حكاية زهرة» لحنان الشيخ، أو حالة إنسانية كما في «خالتي صفية والدير» لبهاء طاهر و«البحث عن وليد مسعود»، لجبرا ابراهيم جبرا، و«الطلياني» لشكري المبخوت…
وهناك أسماء الأماكن التي تصير لصيقة بالكاتب، «القاهرة الجديدة»، لنجيب محفوظ، و«الحي اللاتيني»، لسهيل ادريس، و«بيروت 75» لغادة السمّان، و«دمشق الحرائق» لزكريا تامر، و«بيروت مدينة العالم» لربيع جابر، و«حي الأمريكان» لجبور الدويهي، و«عائد إلى حيفا» لغسان كنفاني، و«جريمة في رام الله» لعباد يحيى…
وهناك العناوين التي تصدم، وهي تتألف في الغالب من كلمة واحدة، كما في «المهزومون» لهاني الراهب، و«الخائفون» لديمة ونوس، و«أرابيسك» لأنطون شمّاس.
وهناك الاستعارات ، كما في «الخبز الحافي»، لمحمد شكري، و«حجر الضحك» لهدى بركات، و«دنا فتدلى» للغيطاني «ولعبة النسيان» لمحمد برادة، و«الآلهة الممسوخة» لليلى بعلبكي، و«التبس الأمر على اللقلق» لأكرم مسلم …
وهناك العناوين ذات الكثافة الشعرية، كما في «رجال في الشمس» و«ما تبقى لكم» لكنفاني، و«مدن الملح» لعبد الرحمن منيف، و«عالم بلا خرائط» لجبرا ومنيف، و«تلك الرائحة» لصنع الله ابراهيم، و«موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح، و«رائحة القرفة» لسمر يزبك، و«الظل والصدى» ليوسف حبشي الأشقر، و«مديح الكراهية» لخالد خليفة …
لا يقدم هذا المقال تصنيفاً شاملاً للعناوين، فهذه مسألة تحتاج إلى جهد أكاديمي وعلمي لا أدعي أنني قمت به، فأنا لم أقم هنا سوى باستحضار عناوين من ذاكرتي قد لا تكون الأفضل تمثيلاً للمقتربات التي اقترحتها، لكنها تشير إلى غنى عالم العناوين ودلالاته. فالكتاّب يعرفون ان العنوان يأتي مع الكتاب وكأنه لصيق به، وهنا لا مشكلة، أما حين لا يجد الكاتب عنوانه في البداية، أو حين يضطر إلى تغيير العنوان الأولي الذي بدأ به، فإنه يمر في مرحلة من القلق واللاتوازن. فالعنوان كالاسم يأتي مع الولادة، وحين تجد نفسك مضطراً إلى اختيار اسمك من جديد، فإنك تجد نفسك في ورطة خبرناها في مراحل العمل السياسي السري، حين كان علينا التخلي عن اسمائنا، وهذه مسألة تستحق معالجة خاصة.
لعل عنوان كتاب محمود درويش «في حضرة الغياب» هو التجسيد الأكثر بلاغة لشعرية العنوان ومعانيه المتعددة. ففي هذا الكتاب النثري الذي هو كناية عن سيرة ذاتية ناقصة جعلت من الذاكرة الشخصية لكاتبه وقوفاً على شرفة الحياة التي تطل على وادي الموت. فمزج الشاعر بين الحضور والغياب، بحيث جعل من الموت شكلاً آخر للحياة.
فنحن جميعاً نعيش في حضرة الغياب، ننغمس في أبدية الحاضر التي لا تكتمل إلا بالموت.
بهذا المعنى الذي نراه في عنوان كتاب درويش أو في الأشكال المختلفة التي نجدها في الكتب السردية، يمتزج الشعر بالنثر، ويصير الشعر قبة النثر، مثلما يصير النثر لحظة شعرية تخطف الروح وتتغلغل في أعماقها.
قلت لصديقي انه عالم ليس لنا، كي أقول ما لم أكن قادراً على صوغه في كلمات، فجاءت الاستعارة الشعرية كي تشقق الصمت بعبارة تستطيع أن تكون عتبة الكلام.

عالم ليس لنا

الياس خوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سوري:

    هو عالم لنا، هو عالم لا هرب منه لأنه منا، والهروب غروب، ونحن لن نهرب ولن نغرب، لن نهرب أمام الأنذال، ولن نغرب أمام من يريدنا ان نغرب كما عندما نريد ان نتخلص من انسان نقول له: اغرب عن وجهي. لأنه يريد ان يتخلص منك. هذه ليست من شيمك يا استاذ خوري,
    ربما وافقتك في بعض العناوين التي ذكرتها التي تعج بدلالات متعددة وقد قرأت معظمها وهي عينة مما انتجه كتابنا الأفذاذ ولكن لا أوافقك في الطلياني لشكري المبخوت وهي اول رواية يكتبها الاستاذ الجامعي الذي اكن له كل احترام ولكن الطلياني كانت تجربة روائية فاشلة بنظري رغم نيلها جائزة البوكر زورا لأنها سفهت المرأة التونسية وتهجم فيها على مفكر تونسي مرموق، ووضع عنوان الطلياني ليقول فيه ان شابا وسيما تونسيا كني بالطلياني لوسامته وكأن الطليان هم الوسيمون والعرب ليسوا كذلك. وبنظري ان الادب معاناة، واحاسيس متفجرة في كلمات وعناوين وأبيات شعرية، عندما اقرأ رواية أو بيت شعر اما ان يؤثر بي او لا يؤثر لأن احاسيس الكاتب او الشاعر تنتقل الي عبر النص او الكلمات كما قال الجاحظ الكلمات مطروحة في الطريق والخير للمعاني

  2. يقول Ossama Kulliah أسامة كليَّة سوريا/المانيا:

    كما قلت أخي الياس العناوين تقدم باقة من الاحتمالات. حتى أن بعضها له دلالات قوية وقد تتوضح مع الزمن ويصبح معناها مجرداً من الزمان والمكان ويتحول إلا نوع من الأيقونة الأدبية فمثلاً عندما أتذكر كتابي غسان كنفاني «رجال في الشمس» و«ما تبقى لكم» يخطر إلى ذهني التشابه مع مايحصل للشعب السوري ليصبح العنوان, أطفالاً في الشمس وماذا تبقى لنا.

إشترك في قائمتنا البريدية