أوهام تونسية

حجم الخط
2

إذن نحن لسنا ‘استثناء’
كذبوا علينا وكذبنا على أنفسنا وصدقنا أكاذيبنا. هذا كل ما في الأمر.
توهمنا أننا عقلانيون بل وعلمانيون خلافا لسائر ‘أمة البدو’. هكذا كنا نسمي العرب في غمرة زهونا بأنفسنا وفي حمى التفوق الوهمي التي لا أدري كيف أصابتنا. كانوا يرددون في التلفزيون والإذاعة وفي كل وسائل الإعلام في عهدي بورقيبة وبن علي أننا نحن التونسيين من طينة خاصة. والغريب في الأمر أننا كنا نصدق ذلك. حتى المثقفون ( باستثناء عدد ضئيل منهم) وقعوا في هذا الفخ الدعائي الرخيص واستهوتهم هذه اللعبة الشوفينية الخطرة والحقيرة في آن واحد. وكل من كان يتصدى لهذا الخطاب الهذياني العجيب كان يتهم ببساطة بأنه ليس تونسيا أصيلا أوبأنه بعثي أو ناصري أو في أحسن الحالات يوصف بأنه عربي على الطريقة الليبية أي .. متخلف !.(أعتذر إلى أشقائنا الليبيين) توهمنا أننا دمرنا كل البنية القبلية في المجتمع وأقمنا على أنقاضها دولة المواطن. صرنا نعتقد أن تونس هي الدولة العربية الوحيدة التي عرفت بحكمة زعمائها ووعي مسؤوليها’ (هكذا كانوا يقولون لنا دائما بدون أي حياء) كيف تتجنب الوقوع في متاهة الفوضى التي تتخبط فيها كل الدول العربية وأننا باستخدامنا الصحيح والذكي ل’المادة الشخمة’ (أي الدماغ) كما كان يردد بورقيبة تميزنا عن غيرنا وأنقذنا البلد مما كان يهدده من أخطار العشائرية والقبلية..
توهمنا أننا بطبعنا لسنا عنيفين وأن الله خلقنا لحكمة لا يدريها إلا هو سبحانه وتعالى مختلفين عن جيراننا. كائنات وديعة مسالمة. وكتبنا الكثير عن هذا. باحثونا ومفكرونا انضموا هم أيضا إلى جوقة المدح والإطراء هذه واستعانوا بالتاريخ والجغرافيا تارة وبعلم النفس وعلم الإجتماع طورا ليؤكدوا هذه الحقيقة الساطعة التي يعترف بها لنا الغربيون وينكرها (بالطبع ) أعداؤنا وحسادنا وهم كثر سواء في مغارب العرب أومشارقهم.
توهمنا أننا حررنا المرأة ومكناها من حقوق كثيرة تماما مثل الفرنسية أو الألمانية. لم نتوقف أبدا عن القول إن المرأة التونسية لا مثيل لها في كل عالم البداوة هذا الذي شاءت الأقدار أن نكون ضمنه. عالم الرجال المتعجرفين الأجلاف القساة الذين لم يفهوا أهمية المرأة كما فهمناها نحن ولن يدركوا أبدا الدور الحاسم الذي يمكن أن تقوم به في مجتمع الحداثة الذي نريد أن نبنيه.
صدقنا كل هذا. وانتشينا به لفترة طويلة.
لكن هاهي الثورة التي فاجأتنا تضعنا أمام أنفسنا. هاهي تزيل عنا فجأة كل الأقنعة لنرى وجوهنا عارية وكما هي. ها نحن نكتشف في فترة وجيزة أننا متدينون حتى النخاع والأخطر من هذا أننا متخلفون في تديننا. ها نحن نكتشف أننا قادرون على أننا نحب راشد الغنوشي تماما مثلما كنا نحب الحبيب بورقيبة !
ها هي الأحداث تثبت لنا أننا بدو مثل الآخرين وأننا أبعد ما نكون عن العلمانية وأننا لسنا أقل عنفا من الآخرين بل وأننا قادرون على تدمير ما بنيناه من مؤسسات وعلى هدم معالمنا الأثرية وإضرام النار في أضرحة أوليائنا وعلى ممارسة العنف بكل أشكاله والأخطر من كل هذا على اغتيال أبرز ما في نخبنا وتقتيل بعضنا بعضا ببنادق الصيد والفؤوس والهراوات والسيوف تماما مثلما كانت تفعل قبائل إفريقيا السوداء البدائية حين تتناحر.
ثم اكتشفنا ما لم يكن ليخطر لنا ببال حتى في الحلم وهو أننا قادرون على أن نكون ‘ارهابيين’ وأيضا على أن نرسل بناتنا اللاتي درست أمهاتهن وجداتهن في مدارس بورقيبة إلى سورية ليمارسن ‘جهاد النكاح’ على مرأى ومسمع كل العالم الذي لا يريد أن يصدق أن أمراغريبا كهذا يمكن أن يحدث في القرن الحادي والعشرين في بلد ظل لسنوات طويلة يباهي بما وهبه للمرأة من حقوق!
شكرا جزيلا لك أيتها الثورة.
بفضلك تخلصنا من أوهامنا الجميلة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سليم شكودارلي:

    مقال ممتازرائع

  2. يقول Hugo Maia:

    هذا النص جيد جد وفيه حقائق صحيحة إلى حد مؤلم. أشكر الكاتب التونسي المتميز لاستدعاء الانتباه إلى نقاط مهمة في ثقافة المجتمع التونسي وجوّه الحضاري وكذلك أهنئ بعرضه حول قضية أيديولوجية الاستثناء التي دفعها ودافع عنها النظام التونسي في عهدي بورقيبة وبن علي. ولكن للأسف الكاتب سقط في نفس الخطإ الذي هو ينتقده عندما يختار إفريقيا تحت الصحراء كصورة ومثال للعقلانية المتخلفة التي هو يصف التوانسة بها. وفي نصف جملة (“مثلما كانت تفعل قبائل إفريقيا السوداء البدائية حين تتناحر”) الكاتب يعرض الأفكار المسبقة التقليدية عند التوانسة (والعرب بصفة عامة) حول هذه القارة الحميمة. فلماذا هو اختار هذه المقارنة المؤسفة والقبائل البدائية المتناحرة كانت (ولا تزال) منتشرة في القارات الخمسة وحتى في أوروبا؟ لماذا عند العرب إفريقيا تحت الصحراء هي دائما رمز للوحشية؟ هل هو يعرف أن بعض قبائل إفريقيا السوداء البدائية تتناحر ولكن أخرى لا تتناحر؟ هل هو يعرف أن هناك قبائل بدائية غير إفريقية تتناحر بطريقات أكثر وحشية؟ وأظن الجواب بسيط جدا: الكاتب ما زال لم يتخلص بشكل كامل من الأفكار البدائة التي ينتقدها. عزيزي الحبيب السالمي: لا شك أنك في الطريق الصحيحة، وأنا من أول محبي كتبك البديعة والمبتكر ولكن من الضروري أن تجتهد أكثر لكي تناضل العقلانية الظلامية.

إشترك في قائمتنا البريدية