كل عاداتنا قد تتحول عند تماهينا معها إلى سجون لنا، وسجن العادات من أخطر السجون. العادات التي تدخلنا في ثبات دائم. فتحدُّ من حركتنا، وتجمّد أدمغتنا، وتدخلنا في أقفاص وهمية، حتى يصعب مع الأيام تخطي قضبانها. أليست أقسى من السجون الحقيقية التي يجد فيها البعض المأوى والملبس والمأكل والأمان؟
العادات التي تحرمنا من الحياة والحب والانطلاق، وحرية القول والحركة والابتكار، سجون خفية نمضي فيها فترة عقوبة على جرائم لم نرتكبها. كيف نتحمّل ذلك؟ لا أدري. في الغالب أبواب السجن تكون مفتوحة وإن أغلقت فالأقفال في أيدينا لكن يصعب علينا أن نفتحها.
سطوة العادة التي تفرض علينا أو نكتسبها تحوّلنا إلى دمى مبرمجة، تُكرر أعمالها اليومية وواجباتها الاجتماعية وفروضها الدينية، بشكل أقرب إلى حركة الدراويش حين يدورون في رقصتهم العجيبة حول أنفسهم، بحثا عن نشوة روحية تكسر كل العوازل الدنيوية بينهم وبين الله، ولكنّهم يستفيقون من دوختهم بعد أن تخمد أصواتهم من التعب وأجسادهم من الدوران في المكان نفسه. العادات طريقة ذكية لإنتاج «ما يشبه الإنسان الكامل» أو بالأحرى ما يفترض أن يكون إنسانا قويا يقاوم مغريات الانحراف، بالالتزام بتلك العادات والتقاليد، ظنًّا منه أنها قواعد تتكفل بإنقاذه من الخطأ والخطيئة، حين يهجم الهوى على قلبه وتجذبه الغريزة نحو رغبات مرفوضة أخلاقيا.
نخلط في الغالب ونحن منهمكون في تطبيق تلك النظم الاجتماعية المتعارف عليها لدى جماعات معينة دون غيرها، أن انصياعنا للعادة منشأُه فكرة بشرية تأخذ أشكالا مختلفة، حسب تطور المجتمعات ومدى تمدنها وتحضرها. تبدأ صغيرة كنقطة في منتصف دائرة، ثم تكبر الدائرة لتشمل كل ما يتعلّق بسلوكنا وطقوسنا وغنائنا وموسيقانا وأمثالنا وحكمنا وقصصنا المتداولة بيننا، يتّسع حجم تلك العادات حتى تصبح بصمة تميزنا عن غيرنا، ونصبح متشبثين بها حتى لا نفقد هويتنا، وكأنها كل ما نملك وكل ما يعرّف بنا وسط اختلافات الشعوب عن بعضها بعضا، وأي محاولة لكسر لبنة صغيرة وسط هذا «الفولكلور» تُقَابل بهجوم شرس لردعها، ويعتبر البعض تلك المحاولات حركات تمردية.
على سبيل المثال لا الحصر ناضلت المرأة الأوروبية بقوة لترتدي البنطلون، وكانت الظروف المناخية القاسية غير كافية لتشفع لها، حتى إن مضيفات الخطوط الفرنسية لم يحصلن على حق ارتداء البنطلون أثناء الخدمة إلا سنة 2005. فيما المرأة الفارسية نعمت بهذا اللباس منذ آلاف السنين، أما المرأة في بعض بلدان إفريقيا فالعادات تحميها وتحفظ كرامتها حتى حين تمشي عارية النهدين. في مجتمعات أخرى تبدو لنا أكثر تحضرا، يصبح اللباس عقدة تقض مضجع رجال الدين والسياسة والإعلام، ويصبح أي لباس دخيل، ظاهرة تفتح بابا لسجالات أكثر تعقيدا. يقترن الفن على هذا الأساس بالتجدد والذهاب بعيدا عن المألوف إلى أقاصي الأشياء. وكل تغيير ينبع من كسر تلك العادات، تصادفه محاولات جريئة لخروج الأفراد ببطء، من خلال تلك الفتحة الضيقة التي يحاول المجتمع إغلاقها، ويحاول المبدع توسيعها في صراع مستمر لا ينتهي حتى إن انتهى الكاتب نفسه.
«العادة هي ألدّ أعداء الوعي» تقول الحكمة اليابانية، فيما يقول الفرنسيون إن العادة عنف يمارسه الفرد ضد نفسه، إنها سلطة تردع الحريات، تتكرر هذه المقولة بمعان مختلفة في آداب كثيرة أطلت على الجمهور الفرنسي، من خلال مسارح ما بعد الحرب، ولعل أهمها، إن لم يكن أولها، هو مسرح صامويل بيكيت، الذي كسر المألوف تماما، بمسرحيته الشهيرة «في انتظار غودو».. وفيه ورد وصف العادة على أنها «خرس كبير» تلميحا إلى أنه مبدع لن يكرر غيره ولن يمشي على طرقات شقها سابقوه. لا عادات ولا تقاليد ولا قواعد ولا سلم إبداعي تبنى عليه الأحداث، حسبما هو متفق عليه منذ مئات السنين، خرج غودو من رأس بيكيت، وتحوّل إلى بطل يصل ولا يصل، يدخل المسارح ولا يحضر، يدخل الأشعار ولا يظهر، يتوغل في النصوص التي تبنى على القلق والعبثية المطلقة ويطرح الأسئلة وما من جواب. غودو الشهير تخطّى كل شيء، بما في ذلك الأمكنة والأزمنة وقوالب البشر الممكنة حسب المتخيّل. قهر العادات السيئة في الكتابة والاستسلام للنواميس القديمة، قلب الكيان الفرنسي والأوروبي، وامتد مثل ظلال خسوف شمل الأرض كلها، ليتحول إلى جموح أدبي جديد، عرفه القاصي والداني، دون أن يعرفوه تماما، فيما ظن البعض أنه مجرّد مثلٍ أو حكمة وغاب عن البعض الآخر أنه بطل مسرحية لبيكيت، حتى أن كثيرين دخلوا في دوّامة وهم كبير، إذ يدّعون معرفة غودو في ما هم لا يعرفون من هو بيكيت! وهذا فعل السّحر الحقيقي لبطل أبَديّ لم نعرفه أبدا، ولن نتعرّف عليه مستقبلا، مهما حاولنا فقد أتقن الكاتب بعبقريته المجنونة أن يجعله أحجية النقد منذ ولادة فكرته إلى يومنا هذا.
كان ذلك أيضا الشرخ الذي هزّ القواعد الثابتة للفنون وشطرها نصفين، نصف لركح الماضي ونصف لتوالد المدارس الجديدة، حصل خلالها تناسل مستمر وتوالد مبهر لكائنات أدبية وفنية مختلفة، جعلت باريس تتربع على عرش العواصم، حتى أن وهجها امتدّ لمدن أوروبية مجاورة لها. العادات تقتل الأمكنة، وتطفئها، وإن لم ترتد عباءات مبدعيها، ماتت في رتابة أحداثها وكآبة التكرار الممل للأشياء. ألم يقل نيتشه «أن العادة تجعل أيدينا بارعة أكثر، وعبقريتنا خرقاء أكثر»؟ كان صادقا وقد أخبرنا دون كثير من الشرح أنّ العبقرية تموت إذا ما رُوّضت وأدخلت سجن العادات. وهذا عصب مرضنا بالذات، نخاف من خوض مغامرة كسر المألوف، نعيش عاداتنا بكل ثقلها ونتعثر بها يوميا، نكاد لا نبرح المكان الذي بدأنا منه، نلتمس القربى من ذوي السلطة علينا، لا أمل في الذهاب بعيدا، المقولات نفسها تكسرنا مليون مرة، «الجمهور عاوز كده»، و»من غيّر عادته قلّت سعادته» ومثلهما الكثير. لكن الأغرب على الإطلاق قول أبو حامد الغزالي «لو عالج الطبيب جميع المرضى بالدواء نفسه لمات أغلبهم» أو لسنا موتى اليوم؟
وقد اتبعنا أنظمة صارمة لقتل جينات الحياة فينا، ظنًّا منا أنها الدواء لئلا نصاب بأمراض مجتمعات أخرى نراها مخطئة، أنظمة تجعلنا مشتابهين مثل طيور البطريق وهي مصفوفة على شريط من الجليد. في آدابنا وفنوننا، انطفأنا بمجرّد استسلامنا للقضبان الوهمية التي رسمها المجتمع لنا. انتظرنا «غودو» لكننا لم نكتب حتّى عن تجربة الانتظار. لم نخرج للأفق الفسيح الذي يُمِّكننا من الركض والقفز والطيران في الأعالي. أما القلّة الذين حطموا صنم المألوف فقد أدخلوا إلى محاكم التفتيش سريعا، فيما ظلّ النقد الفعّال حبيس الحناجر الخائفة، والمحابر النّاشفة.
شاعرة وإعلامية من البحرين
بروين حبيب
سيدة بروين نحن فقدنا الحرية منذ عصر الجليد، نحن محنطون و المحنّط لا يخرج من صندوقه.
*من الآخر ؛-
في عادات حسنة يجب التمسك بها.
وفي عادات سيئة يجب تجاوزها.
سلام
بمثل هكذا المقال…… يبدوا أن خلاصنا (نحن أمة الاسلام) سيأتى على أيدى نسائنا ……شرط أن يتحملن الرسالة النبيلة لاخراجنا من الظلمات الى النور….
شكرا لك دكتورة على هذا المقال كالمنحوت بحرفية في الصخر لا احد سضاهيك بهذا