بدون الاستغناء عن المعونة الأمريكية السامة، وحل هيئاتها في مصر، ما من ضمان لاستقلال وطني للبلد المركزي في أمته العربية وعالمه الإسلامي، وبدون وجود استقلال وطني، لا تنمية ولا تصنيع حقيقي، ولا عدالة اجتماعية، ولا ديمقراطية تغري الناس بتصديقها وحمايتها .
وقد كان واحدا من أعظم آثام حكم الإخوان القصير العمر، أن قضية الاستقلال الوطني لم توضع أصلا في الحسبان، بل جرى استمراء حالة الاحتلال السياسي الأمريكي لمصر، والاستظلال بالنفوذ الأمريكي المتضخم، الذي تمثله ثاني أكبر سفارة أمريكية ـ بعد السفارة في العراق ـ في العالم، وحيث تبدو السفيرة ـ أو السفيرـ الأمريكية في وضع المندوب السامي البريطاني القديم، وتضم السفارة المحصنة كقلعة في قلب القاهرة، محطة المخابرات المركزية الرئيسية في الشرق الأوسط، كما تدير جهازا متضخما للمعونة يدير حركة واحد وثلاثين ألف أمريكي في مصر، وفي ما يشبه سلطة انتداب قائمة بخبرائها في كافة أجهزة الدولة المدنية والعسكرية، أضف إلى ذلك هيئات ذات وضع ممتاز من نوع ‘غرفة’ التجارة الأمريكية في مصر ومؤسسات التمويل المدارة بمعرفة المخابرات المركزية، ويكاد يوجد لكل وزارة أو هيئة مصرية هيئة أو وزارة ظل أمريكية، تناظرها وتتشاور معها، وتشارك عمليا في صنع القرار، وتلك حالة تداعت منذ عقد ما يسمى معاهدة السلام المصرية ـ الإسرائيلية، التي انتهت بأحكام ملاحقها الأمنية إلى نزع سيادة السلاح المصري عن غالب سيناء، وبعمق يصل إلى مئة وخمسين كيلومترا.
وقد بدأت المعونة الأمريكية في الانتظام مع بدء سريان المعاهدة الملعونة، وأدت المعاهدة إلى نزع سيادة السلاح، ثم جاءت المعونة الأمريكية الضامنة، وانتهت إلى نزع سيادة قرار السياسة والاقتصاد في القاهرة، ولم يعد يصنع القرار في القاهرة إلا صوريا، فقد وضعت مصر تحت وصاية شاملة، جرت في ظلها عملية تجريف واسعة للقلاع الصناعية الكبرى، والتحول بالاقتصاد المصري من الطابع الانتاجي إلى الطابع الريعي، وإغراق البلد في ديون خارجية وداخلية ثقيلة، والسيطرة على معدة المصريين بشحنات القمح الأمريكي، وتقسيم المجتمع إلى أغنى طبقة وأفقر شعب، وجعل مصر دائما في حالة لهاث، وعلى حافة هاوية، فلا هي تغرق ولا هي تطفو وتنجو .
وكان سر الرضا الأمريكي على حكم الإخوان ظاهرا، فقد تعهدت قيادة الإخوان البائسة بعدم المساس بالوضع الاحتلالي، وفي سياق من إعادة إنتاج منهجية لثلاثية الاختيارات الملعونة الموروثة عن حكم مبارك، وهي الولاء للأمريكيين وحفظ أمن إسرائيل ورعاية مصالح رأسمالية المحاسيب، كان ذلك مما يطمئن الأمريكيين، ويدفعهم لتقبل حكم جماعة تصف نفسها بالإسلامية، وعلى ظن أن ذلك يجلب شعبية مستديمة تسند المشروع الأمريكي في المنطقة، المرتكز على ضمان ولاء القاعدة المصرية، حتى لو استلزم ذلك نزع لافتة المشروع الأمريكي، وإعادة تسميته بالمشروع الإسلامي، لكن الكذبة سقطت سريعا، وكما توقع كاتب السطور في ما كتب خلال الخمس السنوات الأخيرة، وكان السقوط مفاجأة مذهلة للأمريكان، كما للإخوان، وفي فوضى الذهول تكشف المخبوء الظاهر، فقبل موعد ‘تمرد’ ـ في 30 يونيو 2013 ـ سارعت السفيرة الأمريكية آن باترسون إلى لقاء المليادير خيرت الشاطر، الرجل الأقوى في قيادة الإخوان، ووضعت بيض الأمريكيين كله في سلة الإخوان، وأكدت دعم واشنطن لرئاسة الإخواني محمد مرسي، بدعوى أنه الرئيس المنتخب عبر الصناديق، وتماما كما فعل جون ماكين، المرشح الجمهوري السابق للرئاسة الأمريكية، الذي وصف ما جرى في مصر مع إسقاط الإخوان، بأنه انقلاب عسكري، وكأنه لم يسمع عن ثورة شعبية أسطورية جرت في مصر، كانت تتويجا لموجات ثورية تتابعت منذ 25 يناير 2011، كما لم يكن لقيادة الجيش المصري من خيار في 2011 سوى أن تخلع مبارك، فلم يكن للجيش المصري سوى خيار عزل مرسي في 2013، فلا يملك الجيش المصري أن يتحرك خارج إرادة الشعب، وربما الفارق الظاهر، أن الجيش المصري فعلها في 2011 بالتشاور مع واشنطن، بينما أعرضت قيادة الجيش المصري الجديدة في 2013 عن رغبات واشنطن، وصدعت لأمر عشرات الملايين في الثلاثين من يونيو، التي كانت في مقام القائد الأعلى للقوات المسلحة، وأصدرت أمرها الذي نفذته القيادة العامة، وعزلت مرسي الذي فقد شرعيته الانتخابية منذ أصدر إعلانه الديكتاتوري المنكود في أواخر 2012، ولم يعد يؤيده سوى الإخوان والأمريكان .
وما من ضمانة لتثبيت الثورة وتأمينها بغير خلع النفوذ الأمريكي المتضخم في مصر، وحصر مشكلة الإخوان في السياق الداخلي المصري تماما، وإدماجهم في عملية ديمقراطية وطنية خالصة، فالاستقلال الوطني هو السند الجوهري لأي تحول ديمقراطي سليم، وبدون البدء بالاستغناء عن المعونة الأمريكية وحل هيئاتها، فلا مقدرة حقيقية على التقدم لتحقيق هدف استعادة الاستقلال الوطني، ولا مقدرة حقيقية على خلع ظواهر العنف والإرهاب من جذورها، واستعادة سيطرة الدولة عسكريا على سيناء حتى الحدود الدولية، ونظن أن ذلك هو جوهر التفويض الذي قدمه الشعب المصري للفريق أول عبد الفتاح السيسي في الخروج الأسطوري مساء الجمعة 26 يوليو 2013، الذي ارتفعت فيه صيحة ‘باي باي أمريكا’، وفي تاريخ مفعم بإيحاءات الوطنية الثورية، ففي 26 يوليو 1952، جرى طرد الملك فاروق من مصر، وفي 26 يوليو 1956، صدر قرار عبد الناصر بتأميم قناة السويس، ثم أن الخروج الكبير في 26 يوليو 2013 يذكر بالخروج الشعبي التلقائي في 9 و10 يونيو 1967، الذي فوض عبد الناصر وقتها بإعادة بناء الجيش، ونظن أن ذلك هو جوهر التفويض نفسه الذي حصل عليه عبد الفتاح السيسي، الذي ترافقت صوره مع صور عبد الناصر في هبة الشارع الأسطورية بعشرات ملايينها، فالمطلوب هو إعادة بناء الجيش حجر الزاوية في التكوين المصري، وبعيدا عن المعونة العسكرية الأمريكية بالذات. والمعروف أن المعونة الأمريكية قد تحولت في غالبها إلى معونة عسكرية، فمن بين ما يزيد قليلا على المليار ونصف المليار دولار، هي إجمالي المعونة الأمريكية السنوية حاليا، هناك ألف وثلاثمئة مليون دولار في صورة معونة عسكرية، يضيع ثلثها تقريبا في صورة أجور لخبراء أمريكيين من العاملين عليها، بينما لا تملك مصر حرية التصرف في الثلثين الباقيين، فلا بد من الاتفاق مع الأمريكيين على كيفية انفاق المبلغ التافه، وبعضه يوجه للتدريب وربط العسكريين المصريين بتقاليد الجيش الأمريكي، وأغلبه يوجه لشراء أسلحة متقادمة، مما تسمح به واشنطن، التي تحرص ـ بطبيعة الأمور ـ على هوة واسعة عميقة تفصل تسليحها للجيش الإسرائيلي عن تسليحها للجيش المصري، وهذه هي المصيبة الأولى الناتجة عما يسمى بالمعونة، فهي تضمن للأمريكيين إضعاف الجيش المصري دائما مقارنة بالجيش الإسرائيلي، أضف إلى ذلك ما هو أخطر، وهو تدمير الصناعة الحربية المصرية، فلدى مصر بنية تحتية مميزة للصناعات الحربية، ولديها خبرات بشرية هائلة، ولديها كيان بدأ طموحا في أواسط سبعينيات القرن العشرين، وهو ‘الهيئة العربية للتصنيع’، وكانت فكرتها الجوهرية هي استثمار فوائض مال خليجي مع خبرة بشرية مصرية، وبهدف تطوير صناعة السلاح العربي، وقد تعرض ذلك كله للتجريف مع عقد ما يسمى معاهدة السلام، ومع التزامات المعونة الأمريكية، وتحول غالب جهد المصانع الحربية المصرية إلى صناعة الثلاجات والغسالات والبوتاجازات، وكان ذلك تحريف للكلم عن مواضعه الحربية إلى مواضع مدنية، وهو ما أراده الأمريكيون، الذين وضعوا الصناعات الحربية المصرية تحت رقابة لصيقة، ولم يسمحوا بغير صناعات تجميع بسيطة لبعض دباباتهم المتقادمة، وقد ترافق ذلك كله مع تجريف الصناعة المدنية الثقيلة ببرامج الخصخصة وروشتات صندوق النقد والبنك الدوليين، ومع وقف المشروع الفضائي والمشروع النووي المصري، وجرى تحويل مصر إلى خرابة ينعق فيها بوم الأمريكان وغراب الإخوان .
ولاحظوا ـ مع ذلك ـ أنني لم أذكر الفوائد العينية المباشرة لواشنطن مقابل مبلغ المعونة الذي صار تافها، فقد جرت أمركة كل مواقف السياسة المصرية من قضايا المنطقة، وجرت أمركة نخبة موالية في ميادين السياسة والثقافة والسلاح، وحصلت واشنطن على تسهيلات عسكرية مباشرة في الأراضي والمياه والأجواء المصرية، بينها مثلا ـ وحسب تقرير لمكتب المحاسبات الأمريكي ـ السماح بعبور 36 ألفا و553 طلعة جوية لطائرات أمريكية مقاتلة ذاهبة بالدمار إلى أفغانستان والعراق بين عامى 2000 و2004 .
وما خفي كان أفدح في .
‘ كاتب مصري
التحية والتقدير على هذا التحليل.
السيد عبد الحليم قنديل لقد ذهب عن ذاكرتك أن الخضوع المصري لل الصهيو أمريكي لم يتواجد منذ أن حكم الإخوان المسلمين في مصر. وإنما هو ابتدأ بالاتفاقية المهينه الذي وقعها المرحوم السادات في سنة 1979.الرئيس المصري الأول الذي فعلا انتخب من الشعب ، وهذا الحدث لم يحصل من قبل في التاريخ العربي النادر. الإخوان يستحقون الوقت الكافي لكي يبرهنو انه بإمكانهم إعادة مصر إلى الحضن العربي. في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك أي شخص كان يتجرأ في انتقاده دون أن يتعرض للضرب أو إلى المحاكمة؟ في عهد الرئيس مرسى وصل النقد المصري،الدولي، العربي والعالمي إلى الشتيمة من فترة غير طويلة نسيتم النقد والتهم الدولي و الصهيو امريكي إلى الرئيس بمعداته للسامية؟