كتب الزميل عبد الله إبراهيم: «آن الأوان لكي يحل مصطلح «التخيل التاريخي» محل مصطلح «الرواية التاريخية». فهذا الإحلال سوف يدفع بالكتابة السردية إلى تخطي مشكلة الأنواع الأدبية وحدودها ووظائفها». هذه القولة ملخص كتابه «التخيل التاريخي».
ولعل مناقشتها تكشف لنا بجلاء أن بعض الأفكار حين لا تكون مؤسسة على خلفية معرفية سردية لا تسهم في تطوير النظرية، وتظل بذلك لا تخدم التطور السردي، وإن كان صاحبها يرى عكس ذلك.
أرى بدءا أن «الرواية التاريخية» مفهوم نوعي لاتصاله بتحقق سردي له تاريخ في الإنجاز الروائي العربي والغربي. ولا يمكن لأي كان أن يدعي أنه، سيلغيه من التاريخ، ويحل محله مفهوما آخر. لنفرض من سيأتي ويقول لنا على غراره: إن «الرواية الواقعية» مصطلح غير دقيق، وعلينا أن نعوضها بـ«التخييل الواقعي». إن هذا الاقتراح يقضي باستبدال مفهوم نوعي بآخر. فهل هذا الاستبدال، أو الإحلال، يدخل في نطاق تطوير الأنواع السردية؟ وهل هو تفكير من داخل نظرية الأنواع السردية، أو من خارجها؟ يأتي مبرر الجواب للذهاب إلى أن هذا الإحلال سيدفع في اتجاه تخطي مشكلة «الأنواع الأدبية» وحدودها ووظائفها. إنه يقول بإحلال «نوع» جديد محل «نوع» قديم. ومعنى ذلك، استلزاما، أنه يفكر داخل نظرية الأجناس الأدبية، والأنواع السردية. لكن مقصوده يتعدى نظرية الأنواع وحدودها ووظائفها؟ أي أنه دعوة إلى إلغائها، وهنا مكمن تناقض واضح.
لكن السؤال الذي يمكن طرحه هو: أليس ما هو قائم، في الكتابات الروائية العربية التي تمتح من التاريخ، وترفض الانخراط في «الرواية التاريخية» أقرب إلى الصواب لأنه رفض لـ«التجنيس» في نطاق نوع معروف هو «الرواية التاريخية»؟ وأن استخدام «التخيل التاريخي» هو فقط تأكيد لـ«نوع» ما على حساب آخر؟ وهل فعلا يمكن لهذا الاستخدام أن يحل مشكلة نظرية الأنواع السردية؟ أم أنه يعرضها للالتباس أكثر؟ لقد طرحت قضية علاقة الرواية بالتاريخ في مناسبات كثيرة. وأذكر هنا أنه في سنة 2007 أقيمت ندوتان حول الموضوع نفسه، شاركت فيهما معا. كانت أولاهما في القاهرة، والثانية في قطر، التي أشرف عليها عبد الله إبراهيم. في الندوة الثانية تساءلت: ماذا يفعل الروائي حين يستقي مكونات مادته الحكائية من غير الزمان الذي يعيش فيه؟ هل يكتب «رواية تاريخية»؟ أم مجرد «رواية» بصرف النظر عن نوعها؟ أكدت في تلك المداخلة، في نطاق التمييز بين التاريخ والرواية على، أنّ التاريخ يقوم على «المطابقة» مع الواقع، بينما تذهب الرواية نحو «التخييل» وهو جوهر السرد الحكائي. ومعنى ذلك أننا ما إن نذكر «رواية» حتى نكون دخلنا باب التخيل أو التخييل، وهذا هو التعريف المقدم للرواية بالمعنى الأوروبي، أو الأمريكي، حتى إن كانت «واقعية».
عندما نقول «رواية تاريخية» فمعنى ذلك أننا خرجنا من التاريخ باعتباره «علما»، إلى الرواية بصفتها «تخييلا»، أو «تخيلا». إن هذا الإحلال لا يقدم شيئا جديدا. وما يعلنه ليس غير التباس «النوع» السردي في الرؤية. إنه ينطلق في ذلك من تصور لا تاريخي لتشكل نوع وتطوره. فالأنواع السردية متحولة، تظهر وتختفي لدواع موضوعية. لقد تشكلت «الرواية التاريخية» في الغرب في زمن تشكل القوميات، وهو العامل نفسه الذي أدى إلى تكون الرواية التاريخية، في شروط أخرى، في الوطن العربي، حيث كان الروائي يسعى إلى إعادة تشكيل التاريخ العربي، روائيا، لإثبات الهوية والثقافة. وما عودة الرواية التاريخية، في صيغة جديدة بعد هزيمة 1967 سوى تجل لرؤية جديدة للتاريخ في علاقته بالواقع، لذلك فجمال الغيطاني في «الزيني بركات» كتب «رواية تاريخية جديدة»، قوامها التجريب تقنية جديدة في الكتابة السردية. وما رفضه اعتبار روايته تاريخية، هو وكل من اعتمد المادة التاريخية العربية في صياغة عوالمه الروائية، سوى إعلان ضمني على أنه يكتب «رواية تاريخية أخرى»، من خلال رؤية سردية مختلفة عن الرواية التاريخية «التقليدية».
لقد تطورت الرواية التاريخية، كما تطورت الرواية الواقعية، وهو التطور نفسه الذي عرفه «السرد الذاتي». وما دمج التاريخي والواقعي والذاتي في الرواية العربية الجديدة، من خلال هيمنة أحد «الموضوعات» الذاتية، أو الواقعية، أو التاريخية، سوى دليل على تطور الرواية العربية، من خلال أنواعها، وإن لم يتجسد ذلك من خلال «وعي» نوعي بالكتابة الروائية، عكس ما نجد في الرواية الأجنبية، حيث الميثاق النوعي ماثل بجلاء. وما هيمنة المادة التاريخية في الرواية العربية المعاصرة، من خلال الحضور الطاغي للعثمانيين والأندلس، سوى حافز للنظر في تطور الرواية التاريخية العربية، وهي «تنوع» طرائق الكتابة، من جهة، و»نوعية» المادة التاريخية من جهة أخرى.
يضاف إلى ما ذكرنا عن تطور الرواية التاريخية العربية، وبروز الرواية التاريخية الجديدة في مرحلة التجريب، يمكننا الحديث عن نوع آخر، هو ما اعتبرته في المداخلة المشار إليها، «التخييل التاريخي»، وهو النوع الروائي الذي يستقي مادته من «التاريخ» بكيفية مختلفة. ولا نعدم النصوص الدالة على ذلك. فكما أن أي كتابة مقيدة بنوع، يظل جزء من التحليل مرتبطا بالنوع.
٭ كاتب مغربي
سعيد يقطين
في ظنّي أنّ مصطلح ( التخيُّل التاريخيّ ) أكثر شمولا في دلالته من مصطلح ( الرواية التاريخية )، ويمكن أن تنضوي تحته أجناس أدبية وفنية متعددة مثل ( القصة التاريخية ) أو (المسرحية التاريخية ) أو (الشعر التاريخي) أو (الفن التشكيلي التاريخي)، هذا إذا فهمنا من المصطلحات السابقة قدرتها على أن تجعل من ( المادة التاريخية ) متناً لها، مع القدرة على إعادة تشكيل هذه (المادة ) تشكيلا جديداً تُطوََّع من خلاله لحمل دلالة مغايرة لدلالتها التاريخية التي تحيل إلى سياق زمني محدد، أما مصطلح (الرواية التاريخية) فيدل على جنس أدبي محدد يستثمر الوثيقة التاريخية، ويعتمدها متناً له، ولكنه يعيد تشكيلها وقولبتها بما يقتضيه مفهوم ( التخيل ) من إعادة بناء، ويبعده عن المطابقة مع هذه الوثيقة، وينزاح عنها في الوقت نفسه ليغدو ( تخيُّلا ) لا تاريخاً.
وقد أتيح لنا الاطلاع على روايات وقصص وأشعار ومسرحيات ( وحتى لوحات تشكيلية عربية ) تستثمر المتن التاريخي لبناء أشكالها الفنية، فتغدو أعمالا فنية تدخل ضمن خانة ( التخيل التاريخي ) في مفهومه العريض الذي تنضوي تحته مجموعة أجناس أدبية وفنية لا جنسا أدبيا محددا.
وأنا بلاشك مع طرح مصطلح التخيل التاريخي الأكثر شمولا من مصطلح الرواية التاريخية، على ألا يغدو طرحه اقتراحاً للحلول محل ( الرواية التاريخية ) ؛ إذ لكل منهما مفهوم محدد مختلف عن الآخر، ولا يمكن لأحدهما أن يحل محل الآخر، أو يكون بديلا له .
كان شعراء العصرالجاهلي ؛ الذين نظموا المعلقات الشعرية الرائعة ؛ وهي لا تزال رائعة بل متفوقة على كلّ قصائد الشعراء حتى اليوم ؛ لم يكونوا يعرفون أوزان الشعر بل بالسليقة وعفوية القول الطويل والعريض…ولم تظهر جدولة الأوزان الشعرية إلا على يد الشاعرصفي الدين الحليّ…المتوفى في منتصف القرن الثامن الهجري ( القرن الرابع عشرالميلادي ) فسواء سميت رواية تاريخية أو تخييل تاريخي ؛ سيان ؛ إنْ توفرفي النصّ الإبداع ومستلزمات فنّ الإنسان.وتحياتي للدكتورسعيد يقطين.