معاقل الرأسمالية والعولمة الاقتصادية

يُسمح لحفنة من أصحاب المصالح الخاصّة ذوي الصلة بالتحكّم قدر الإمكان بالحياة الاجتماعية، بزيادة أرباحهم الشخصية في ظلّ النموذج السياسي الاقتصادي النيوليبرالي. ومثل هذا النظام المُحدّد لملامح عصرنا، أدّى إلى ارتفاع ملحوظ في الفقر والحرمان لدى أمم وشعوب العالم الأكثر فقرا بطبعها.
وهي سياقات كشفت عن بيئة عالمية مُفزعة ومُفجعة، ولم يعد الاقتصاد العالمي يشهد توازنا وإنّما سمته التقلّب، وهي موجة عارمة، أكسبت الثروة الطائلة للأغنياء، الذين ينشرون الدعاية الكاذبة بأنّ ثمار النيوليبرالية، وتحرير الأسواق سوف تعود بالنفع على الفقراء، وسيعُمّ الخير الجميع تدريجيا.
وفي الحقيقة ضاعفت السياسات النيوليبرالية المشكلات الاقتصادية وفاقمتها، وعمّقت تفقير الفقراء، وزادت في حجم التفاوت بين الشمال والجنوب، خاصّة في غياب البديل المنافس للنموذج الليبرالي.
في ظلّ الأزمنة السياسية اللاأخلاقية لسياسات الاقتصاد النيوليبرالي المتوحّش، تجاهلت الحكومات الفقراء والمعدومين، وغيّبت العدالة الاجتماعية، وتوجّه اهتمامها صوب فئات «البزنس» والشركات التجارية التي غالبا ما تتهرّب ضريبيّا، وتطلُب دعم الدولة من جميع النواحي لتوسيع سوقها الحرة. وهي في كلّ ذلك لا تتحمّل عبء أية التزامات تجاه شعوبها. ومثل هذا التحالف السياسي المالي أفسد المسارات الاجتماعية والسياسية، وغيّب الديمقراطية الحقيقية التي ترتكز على حقّ المشاركة العامّة والتفاعلية والمساواة الحقيقية بين الناس.
وتواصل الحكومات تفاعلها مع أصحاب رأس المال، وتحمي الأقلية الغنية ولا تلتفت للأكثرية الفقيرة إلّا عند جمع الضرائب، وإثقال كاهل الفئات الوسطى والمعدمة من حين إلى آخر.
مثل هذه المناخات الاقتصادية مكّنت رجال أعمال من التنفّذ وكسب الثروة بطرق غير مشروعة، قائمة على الرشاوى وشراء الذمم، ليتغلغل الفساد شيئا فشيئا في أجهزة الدولة، التي سمح بعض الأشخاص لأنفسهم أن يشاركوا في الكسب غير المشروع، ضمن أطرها الرسمية. مثل هذه الحقائق بدأت تنكشف للرأي العام التونسي على سبيل المثال، مع الخطوات الجريئة لمحاربة الفساد، مع علمنا أنّ المهمّة صعبة، لكنّنا نأمل أن تُفكك منظومة الفساد من جذورها، لأنّ مثل هذه الإجراءات ستكون في صالح الدولة، خاصّة اذا ما تمّت مصادرة الأموال المهرّبة في البنوك الأجنبية، الأمر الذي سيوفّر سيولة مهمّة، من شأنها تغيير ملامح الوضع الاقتصادي والاجتماعي في البلاد. وهي بداية يجب أن تتبعها خطوات اصلاحية في كلّ القطاعات الفلاحية والصناعية وغيرها، إضافة إلى أهمية التفكير في تغيير مخطط التنمية بحثا عن التخلّص من مكبّلات المديونية وتبعية البنوك الدولية المُقرضة. فصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ليسا سوى معاقل الرأسمالية والعولمة الاقتصادية، وهما أدوات لإمبريالية متوحّشة، تحت إشراف الولايات المتحدة الأمريكية. وهي مؤسسات فرضت الرأسمالية الكونية ودعّمت الحكومات الفاسدة بعد أن سيطرت على الاقتصادات الوطنية، وشجّعت دول العالم للاندماج في الاقتصاد العالمي غير المتوازن. ويذهب نيري وودز إلى أنّ صندوق النقد الدولي والبنك الدولي مؤسّستان سياسيتان، أنشأتهما حكومات لتحقيق أهداف معيّنة تغيّرت بمرور الوقت، وهو في مؤلّفه « قلاع العولمة» بحث في العلاقة بين القوى السياسية ورجال الاقتصاد والحكومات المقترضة، في إطار عمل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. ومثل هذه المؤسسات تقودها وتُرشدها الحكومات المتعاقبة في واشنطن، وهي تسهر على دوام وجود أزمات اقتصادية لدى غالبية الدول التي تُغرقها المديونية وحالات الركود والفقر.
لقد عكست سياسة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي مصالح الولايات المتحدة الاقتصادية والاستراتيجية، منذ أن تمّ انشاؤهما داخل نطاق القوّة العالمية، التي تنادي بالتسلّط على العالم، وهي اليوم مبعث قلق دائم، جرّاء نتائج السياسات التي اتّبعتها وخدمت في سياقها مشاريع الهيمنة الأمريكية، التي خلّفت دمارا في العديد من دول العالم، خاصة الشرق الأوسط، ويبدو أنّ من شأن هذه الأفعال والممارسات أن تضع الالتزام بالديمقراطية وحقوق الإنسان محلّ تساؤل كبير، ضمن أطر زيف الادّعاء بتبنّي مثل هذه المفاهيم، في غياب مبادئ التعاون الإنساني والمساواة الحقيقية.
والمؤسف أنّ العالم لا يتجاوب نحو الأفضل ولا تبحث قواه الحية عن النشاط السياسي الانساني والاقتصاد العادل اجتماعيا، مع أن الأمل يبقى قائما ومفاده البحث عن التغيير الإيجابي نحو تحسين أوضاع البشر وإقامة معالم نظام انساني يتجاوز التسويغ الأيديولوجي المتهافت.
كاتب تونسي

معاقل الرأسمالية والعولمة الاقتصادية
 
لطفي العبيدي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية