ارتبط صوت الشاعر العربي بالقبيلة في المرحلة الشفاهية، وكان الصوت الذي يجسد القيم الأصيلة للقبيلة، مدافعا عن هويتها. وكانت مكانته عالية في المجتمع القبلي. ما كانت هذه الحظوة سوى تعبير عن تميزه عن باقي أفراد القبيلة. فهو إلى جانب ملكته اللغوية ـ الإبداعية، التي تتمثل في إنتاجه خطابا متميزا، كان يمتلك ثقافة العصر الذي يعيش فيه ومحيطا بكل ما يعتمل فيه من أحداث ووقائع.
فإلى جانب حفظه لمدونة شعرية مهمة تؤهله لإنتاج خطاب قابل لأن يتحقق ضمن الخطاب الشعري الذي ينتجه شعراء آخرون من قبائل أخرى، كان على علم بالتاريخ والأخبار وخصوصيات كل مجتمع قبلي. إلى جانب إلمامه بخصوصيات الخطاب الشعري الذي ينتجه فارضا على الجميع التفاعل معه بما يمتلكون من ملكات التمييز والتقييم. ولقد ساهمت كل مقومات تكوينه الشعري والثقافي في قدرته على إنتاج خطابه بداهة وارتجالا في أي موقف من المواقف الذي كان يفرض عليه فيها إنتاج هذا الخطاب، معددا مناقب قومه، ومحيطا بمثالب أعداء قبيلته.
مع ظهور الكتابة، وانتقال المجتمع العربي من البداوة إلى الدولة، سيتقلص دور الشاعر، وإن ظل يحتفظ بجزء من رمزية حضوره التاريخي. لقد صار الكاتب، مع ظهور الكتابة والكتاب، يمثل ذلك الصوت الذي كان ينفرد به الشاعر في المجتمع القبلي. فكان بذلك يحتل مواقع مهمة في الدولة: كاتب إنشاء، وحاجبا، ومستشارا، وعالما في مختلف ضروب المعرفة. وبذلك تم الانتقال من ثقافة «الشعر»، إلى صناعة «الكتابة». وعلى غرار الشاعر لم تكن الملكة الإبداعية النثرية هي رأسمال الكاتب. فقد كان ملما بعلوم عصره الدينية والفلسفية والتاريخية، إلى جانب امتلاكه عدة «الكتابة» باعتبارها صناعة لا تتحقق فقط بمعرفة الكتابة والقراءة، وقواعد اللغة والبلاغة، ولكن أيضا بصناعة المداد ومعرفة الخطوط، ومقاييس الورق وصناعة الكِتاب. هذا طبعا إلى جانب القدرة على الكتابة في مختلف الموضوعات التي صارت لكل منها قواعدها وتقنياتها الخاصة.
في العصر الحديث ظل الكاتب يحتل مكانة خاصة مع ظهور الطباعة، غير أن جزءا أساسيا من ممارسته صار يقتصر على «التأليف»، بينما يضطلع الطابع والناشر بالجزء الأكبر من العملية ليصبح الكتاب قابلا للتداول.
ولم تبق له من مهمة غير «الكتابة»، وحتى بعد أن صارت الآلة الكاتبة متيسرة للعديد من الكتاب، ظل ما يقدمه الكاتب وإن كان مرقونا بواسطتها يعتبر «مخطوطا» حتى يعرف طريقه إلى المطبعة ليصبح بذلك «كتابا». ولذلك سنجد مفهوم «الكاتب» يطلق على كل من «يدبج» بواسطة اللغة أثرا قابلا لأن يضمه «كِتاب» مطبوع ليتداوله القراء بعد تدخل الطابع والناشر، أيا كان الاختصاص الذي يشتغل به، أو نوع الكتابة التي يخوض فيها، على الرغم من كون مصطلح «الكاتب» ظل مقترنا في الأساس بالـ«أديب» الذي ينتج خطابا أدبيا، أيا كان الجنس الذي يكتب في نطاقه.
من الشاعر إلى الكاتب مر زمان طويل تغيرت فيه المفاهيم والممارسات والوسائط. وكلما ظهر وسيط جديد تغيرت العلاقات والتقنيات. ونحن على أعتاب مرحلة الرقامة لا بد لنا أن نتساءل عن الصوت الذي يرتبط بالوسائط الرقمية الجديدة. هل هو الكاتب؟ وما معنى «الكاتب» في العصر الرقمي وهو الاستعمال الأكثر شيوعا إلى الآن؟ صار منظرو الرقميات في الغرب يتحدثون عن ممارسة جديدة يفرضها استعمال الوسيط الرقمي. فوظيفة «الكاتب» و«القارئ» لم تبق محافظة على الصور التي ظلت تحتفظ بها على مر الزمن. وبات من اللازم تحديد مسميات جديدة لهذا الصوت الجديد ليتلاءم مع الوسيط الرقمي.
أسمي هذا الصوت «الراقم»، على وزن الشاعر والكاتب. وهذا الراقم في حاجة إلى جانب ثقافة الكاتب وملكته ومعرفته بالموضوعات التي يكتب فيها، أي كل المعارف الضرورية للكتابة، أن يكون ملما بقوانين «الرقامة» وقواعدها وتقنياتها ليتحقق له مصطلح «الراقم»، وإلا فهو كاتب غير رقمي وإن ادعى الرقمية.
والراقم بهذه الصورة التي نتحدث عنها هو ما تجسد في الإبداع الرقمي الغربي، فوجدنا مبدعي «الرواية المترابطة» راقمين أو رُقَّاما بالمعنى التام للكلمة، أي يمتلكون تقنيات الرقامة (لغات البرمجة) وقواعد الإبداع السردي التي تتلاءم مع متطلبات الرقامة. أمام الراقم العربي إمكانيتان ليكون الصوت الرمزي الحامل للقيم الثقافية العربية في العصر الرقمي الذي يعيش فيه. إما أن يتخذ موقع الكاتب إبان ظهور الطباعة، فيسلم «مخطوطته» للتقني الراقم ليحول نصه الإبداعي بما توفره له الرقامة من إمكانات تسمح له باستخدام الوسائط المترابطة. ولعل سؤالنا الأساس في هذا الصدد هو: هل تكويننا العربي في المعلوميات يسمح لنا بإعداد هذا النوع من التقنيين الرقميين؟ وجوابنا لا يحتاج إلى تصريح. وبالقياس إلى الطباعة العربية يمكننا طرح السؤال التالي: كم من زمان كنا في حاجة إليه لتتطور طباعتنا وتصل إلى المستوى الذي وصلت إليه اليوم؟
والخيار الثاني هو ان يضطلع الكاتب في تكوين نفسه رقميا إسوة بالكاتب العربي في العصر العباسي. بتحقق الراقم العربي ندخل العصر الرقمي، وإلا فإننا سنظل خارج هذا العصر.
كاتب مغربي
سعيد يقطين
لفتة ذكية جدا من أديبنا الكبير سعيد يقطين، فعالم الرقمية اليوم هو مستقبل البشرية جمعاء ( Digital ) وتطورها، وعلى كل انسان اليوم وليس فقط الكاتب ان يدخل الى هذا العالم الرقمي الذي سيصبح كالخبز والملح
عنوان ومحاور تحليل رائعة، ولكن هل هو راقم أم حرفي من حروف اللغة، فالراقم له علاقة بالأرقام كلغة للرياضيات، ولكن للآلة لغة، وللبرمجة اللغوية في علم اللغة هناك هو نوعين، الأول لتحويل الإنسان إلى آلة في طريقة أداء أي وظيفة في الدولة، بينما النوع الآخر لتحويل الآلة في محاكاة الإنسان لأداء أي وظيفة في الدولة ومن ضمنها الحكومة الإليكترونية.
وأظن ما فاتك هو أن الشاعر/الأديب للقبيلة لا يختلف عن المثقف/السياسي في دولة الحداثة، دخول الآلة كوسيلة لزيادة دخل واقتصاد الإنسان عند أداء أي وظيفة في الدولة.
هذه أوجدت حاجة إلى علم لغة الآلة، من أجل تطوير الآلة لزيادة الإنتاج ومن ثم الدخل والاقتصاد للإنسان والأسرة والشركة والدولة.
أنا لاحظت عند أهل الأدب ليس هناك فرق، بين علم الكلام (الفلسفة)، وبين علم اللغة (الحكمة)، فكانت من وجهة نظري على الأقل هي سبب لوجود شيء اسمه الضبابية اللغوية، وبالمناسبة نحن أسياد تدوين علم اللغة، وأقصد بنحن هو أهل ما بين دجلة والنيل، فنحن مهد الحضارات الإنسانية بسبب ميزة التدوين، تدوين أول لغة للإنسان (اللغة المسمارية) تدوين أول قانون كلغة دولة (مسلّة حمورابي)، وتدوين علم اللغة من خلال لغة كما تُنطق تُكتب بواسطة جمع كل ألسنة العرب في طريقة قراءة القرآن لتدوينها بطريقة عبقرية كلغة القرآن. وأخيرا في عصر العولمة وفي بث حي مباشر تدوين لغة الحذاء على الموظف الإنسان، الفاسد والمقصّر في أداء وظيفته في نظام الأمم المتحدة، ففي أجواء العولمة لا مكان للموظف الآلة، بل يجب أن يكون الموظف الإنسان، ويجب تطوير نظام الأمم المتحدة وبيان حقوق الإنسان ليتجاوز دور شاهد الزور كما حصل مع قضية فلسطين وكشمير وتايوان منذ عام 1947 خصوصا وأن لدينا الوسائل والتقنية التي فرضها البنك الدولي من خلال الرقم الوطني والحكومة الإليكترونية، أن يتم إصدار رقم موحد للإنسان في كل مكان في العالم، لرفع من يد موظف السلطة في أي دولة حق استعباد الإنسان من خلال شهادة الميلاد والجواز والجنسية، يتم رفعها بوجه أي معارض، لأي سياسة تسلب حقوقه كأنسان، له حق أن تكون لأسرته كرامة إنسانية يدافع عنها ضد الظلم، كما هو حاصل في الكيان الصهيوني واحة الديمقراطية التي عانى منها رائد صلاح وصحبه في فلسطين منذ إعطاء شهادة ميلاد للكيان الصهيوني وتم رفض إعطاء شهادة ميلاد لفلسطين بسبب الواسطة والمحسوبية والرشوة بلغة الجسد؟!
رمضان مبارك عليك دكتورسعيد يقطين : أستأذنك القول : لقد فهمت مضمون ورسالة المقال بشكل مغاير…ففيه رؤية صراع بين الأجيال..
بمعنى هناك جيل ( شاخ ) وأصبح خارج : راقم ( على وزن خارج كادر).وجيل صاعد جديد أصبح ضمن وصفك : ( الراقم ).لكن الأمرليس
فقط شاعروكاتب..فهناك الخطيب يختلف عن الشاعر( الموزون ) وعن الكاتب ( الساجع ).فأين تضعه.وعصرالخطابة لا يزال قائمًا في الشرق والغرب بل انتقل من النخبة والجامع إلى العامة في الشارع ؟ بشأن ( الراقم ) سأقول بين يديك أنّ للفظ معنى غيرمألوف في العربية ؛ وإنْ أصبح مألوفًا في أيامنا المعاصرة..وقد ورد في سورة الكهف بقوله : { أم حسبت أنّ أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبًـا}(9).
لاحظ بعض ألفاظها الدالة على المعنى الداخلي…{ حسبت } من الحساب…{ الرقيم } إضافة لمعناها المعروف في التفسير؛ يقال للرقم القياسي : رقيم.ينظر: معجم المنجد ؛ مادة : ( رقم ).ومحورآيات فتية الكهف والرقيم فيها الرقم القياسي للسنين وهم في الكهف حتى عبروا عصرهم إلى عصرآخر؛ فكانوا بين جيلين…ففي اختيارك للراقم شيء من المصداقية ؛ لكنه يحتاج إلى نقلة بين جيلين ؛ كي يتحقق له السيادة والتداول…ربما هنا الألف ميل بدأت بخطوة ؛ ونقول : إن شاء الله.من جهة أخرى فإنّ أول ( منزل ) احتضن المؤمنين المسلمين في مكة هي دارالأرقم بن أبي الأرقم ؛ ومعلوم أنّ الإسلام في مكة كان أيضًا استثنائيًا ؛ لذلك كان في طورالسريّة ؛ بعيدًا عن المشركين في هذه المنزل…وأزيدك أيضًا أنّ قبيلة بني تغلب العربية ؛ كانت أكبرالقبائل في الجزيرة العربية عددًا يومذاك ؛ فكانت تسمّى بالأراقم.وهم الذين قصدهم القرآن في سورة الكهف : { قال الذين غلبوا على أمرهم }(21).لاحظ أيضًا { غلبوا } من تغلب و: { أمرهم } من الأمر: الكثرة والزيادة والبركة والنماء.ينظر: لسان العرب ؛ مادة : ( غلب وأمر).مع تحياتي.
شكرا شكرا … انه يوم سعيد لقبيلة بني تغلب ان اسمها في سورة الكهف في القران . انها هدية كبرى من السماء في رمضان … كم نحن سعداء بفضلك يا دكتور جمال البدري … ونرفع لك العقال والقبعة تقديرا ، وهذه اول مرة نعرف ذلك .. شكرا شكرا
شكرا للسيد سعيد يقطين على مقاله الذي يندرج في سلسلة
–
مقالات تتعلق بالثقافة في العهد الرقمي دأب على نشرها
–
بين الفينة والأخرى اتساءل اين يمكن وضع تصنيف ما
–
بات يعرف ” بالمدون ” بين هذه التعريفات التي اشار اليها
–
الكاتب اعلاه ؟
–
تحياتي