العمل المؤسساتي والمجتمع المدني

حجم الخط
2

منظمات المجتمع المدني هي معيار حيوية المجتمعات والشعوب، فتعددها ووصولها إلى مجالات مختلقة، يُعطي المجتمع نوعا من الحصانة ضد أطماع مجموعات المصالح الضيقة أو الأحزاب السياسية، والتي بطبيعتها تُحاول الوصول إلى السلطة وتوجيه العمل المجتمعي نحو اتجاهات تناسب أهدافها.
أعيد الاهتمام بالمجتمع المدني، ووصل إلى العالم أجمع، خصوصاً إلى الدول التي كانت تحت سيطرة الاتحاد السوفييتي في أوروبا الشرقية، بعد انهيار ذلك الأخير، ووصول دول عدة إلى الحرية والديمقراطية، وقد حل هذا الخطاب المجتمعي المدني، بدل الخطاب السابق والذي كان «مسيساً» وذا توجهات يسارية.
كتب فاكلاف هافل الأديب وأول رئيس لتشيكوسلوفاكيا ألديمقراطية، كتابه الشهير (السلطة لمن لا سلطة لهم) عندما كان مُنشقاً عن الشيوعية ويُناضل من أجل الديمقراطية لبلاده في بداية السبعينيات، داعياً لتطور العمل الاجتماعي المدني حتى ولو تحت الأرض وفي الخفاء، رافضاً استعمال العنف.
المجتمع المدني هو مجموعة العلاقات الفردية والتركيبات العائلية والاجتماعية، والاقتصادية والثقافية والدينية، المتواجدة داخل مجتمع مُعين، خارج أُطر وتدخل الدولة، كما عرفها الحقوقي الفرنسي جان لوي كيرمون. ويختلفُ عن الأحزاب السياسية، بكونه متعدد المشارب والانتماءات، ولا يسعى للوصول إلى السلطة كهدف نهائي، بل إلى مراقبة تلك الأخيرة، والدفع باتجاه ربط المصالح بالقيم.
الأحزاب السياسية في الدول الديمقراطية تدافع عن مصالح طبقة اجتماعية، ولا تضع القيم الإنسانية كأساس لعملها، وهي عندما تصل إلى السلطة تعمل للدفاع عن مصلحة بلادها أولاً وأخيرا، بدون الاكتراث كثيراً بالقيم الأخلاقية رغم اعلان العكس، هذا هو فرق جوهري بين مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الحزبية.
تسعى الديمقراطيات لتأمين مساواة الفرص لأبناء ألوطن، وكذلك الحد الأدنى من الاحتياجات (الأمن، الحياة الكريمة، الصحة، العمل والبطالة….. الخ). قد يُؤدي الدفع في اتجاه المساواة إلى الإخلال بالحرية، وقد يدفع تأمين شروط الحياة الأساسية، إلى تفسيخ النسيج الاجتماعي، كما يقول الفيلسوف الفرنسي توكفيل الذي عاش في القرن التاسع عشر، عبر نقده البناء للنظام الديمقراطي.
تكمن في هذه البقعة، وبالتحديد الدور الأساسي للمجتمع ألمدني، والذي يعمل للدفاع عن الحرية (العمل، التنظيم، التعبير…. الخ)، وإلى ربط أبناء المجتمع بعضهم ببعض من خلال منظماته، وهو ما يُعيد ترميم النسيج الاجتماعي، ويسمح بتجنب استبداد الاغلبية واستمرار سماع صوت الاقليات، وعدم اغلاق النقاش الاجتماعي، كما استدرك توكفيل.
النظام الديمقراطي وحده لا يكفي إذن، لإيجاد هذا المجتمع المثالي الذي ندعو إليه، بل هو في حاجة ملحة إلى المُراقب والطرف ألفاعل لتصحيح المظاهر السلبية للديمقراطية.
في المجتمعات الحديثة تقوم منظمات المجتمع ألمدني باستكمال العمل الحكومي في مجالات عدة (الصحة، مقاومة الفقر، السكن…. الخ)، أو الدفع الدائم بالضغط على أصحاب ألقرار للوصول إلى تحقيق المصلحة العامة (مظاهرات، احتجاجات…. ألخ).
في المجتمعات غير الديمقراطية، حيث يُعشش الفساد وانعدام الدراية والخبرة لأصحاب ألقرار، فإن منظمات المجتمع المدني تضطر في بعض الأحيان، إن استطاعت أصلاً، التوجه إلى العمل بشكل علني، إلى الحل محل العمل الرسمي (حملات تطعيم الأطفال، توزيع المواد الغذائية على الفقراء…. الخ). ولكن هذه الأنظمة الفاسدة تجابه المؤسسات المدنية دائماً عن طريق حلها ومنعها، وكذلك عن طريق ملء ألفراغ بمؤسسات مجتمع مدني وهمية، هي في الحقيقة بوق للسلطة ليس إلا، ولا تحمل من المدني إلا الاسم، حتى اننا نرى في هذه الدول، «منظمات حقوق إنسان» تُدافع عن الحاكم الظالم لقمعه للحريات العامة!.
بالإضافة لمنظمات المجتمع المدني التقليدية، فإننا نجد الآن وبشكل يزداد توسعاً، منظمات مجتمع مدني عابرة للحدود، تهدف في أكثر الأحيان للقيام بالدور الذي لا تقوم به الدول في العالم ألثالث، مثال ذلك منظمة «أطباء بلا حدود» في مجال الصحة أو الصليب الأحمر الدولي ….الخ.
انتشار وتوسع المنظمات الدولية، يطرح إشكالية جديدة، وهي ولوج الفساد المالي والإداري فيها، ولكننا هنا قد نطمئن إلى مقدرة أعضاء هذه الهيئات وداعميها من اجل مراقبتها، فمعظمهم يعملون بشكل تطوعي، وللدفاع عن قيم يؤمنون بها. الوجه السلبي الآخر هو ظهور منظمات ضغط ، تدافع عن مصالح خاصة، من دون الاهتمام بالمصلحة العامة (الضغط ألاقتصادي… الخ).
على أن تطور المجتمع المدني في بلادنا السائرة باتجاه التعددية والتخلص من الطغيان والاستبداد، هي الوسيلة الأمثل للوصول إلى أهدافنا وحقوقنا، وخصوصاً في أجواء أحزاب سياسية ومفكرين غلب عليهم الطابع الفكري الشمولي، والذين قد لا يكونون على مستوى آمال الأمة بالانعتاق.
في الوقت نفسه يجب علينا أن ننتبه إلى خصوصية المجتمع المدني، وخصوصاً في الغرب، فالعمل معه سيدفع في اتجاه الضغط على الحكومات الغربية للتضامن مع حقوقنا، ونتذكر أن المجتمعات المدنية هي دائماً متضامنة فيما بينها، لأنها تضع القيم العالمية الإنسانية في صميم اهتمامها، وذلك عكس الحكومات والتي في أغلب الأحيان متنافرة، ولا تضع إلا مصالح دولها في صُلب اهتماماتها.
وأقرب مثل لنا لإثبات ذلك، هو حملة المقاطعة لإسرائيل BDS والتي ابتدأت بالمجتمع المدني ألفلسطيني، لتنتشر عبر العالم أجمع، وصولا إلى الولايات المتحدة ودول الغرب بعامة، والتي أُجبر جزء منها على اتخاذ خطوات رسمية حكومية لصالح الحملة.

دور مؤسسات المجتمع المدني في المشروع الوطني الفلسطيني

ما هي الاسس التي نستطيع ان نبني عليها لتفعيل دور المجتمع المدني للنهوض بمشروعنا الوطني المشترك؟. البعد الحقوقي وارتباطه بلائحة حقوق الإنسان، هو أول نقطة ارتكاز للدور المُناط بمؤسسات المجتمع المدني في إطار المشروع الوطني ألفلسطيني والذي هو من منظار القانون الدولي بمثابة مشروع حقوقي بامتياز، ويذكرنا ذلك بمشروع نيلسون مانديلا بجنوب أفريقيا، ونجاحه الباهر بالتحرر.
الُبعد السياسي هو الوجه الثاني لدور هذه المؤسسات ويعني الدفع باتجاه احترام الثوابت ألفلسطينية من كافة القوى والأحزاب ألسياسية، وخصوصاً حق العودة كاملاً غير منقوص.
البُعد التاريخي هو البعد الثالث لهذا الدور، وهو التأكيد أيضاً أن فلسطين ليست فقط ملك الجيل الحالي، لكنها أيضاً ملك الأجيال السابقة، وخصوصاً الأجيال القادمة، ولا يملك أيا كان حق التنازل عن أي جزء منها لصالح أي كان. فأبناؤنا الذين وُلدوا بالمهجر، لهم نفس الحق التاريخي بأرض فلسطين، ولا يستطيع أحد حرمانهم منه. حق السيادة على فلسطين، هو ملك الشعب ألفلسطيني، ماضياً وحاضراً ومستقبلا، وليس مرتبطاً بمفهوم المُلكية الخاصة للأفراد.
البعد الرابع لدور المجتمع المدني بالمشروع الوطني هو البُعد الاجتماعي، فمؤسسات هذا المجتمع بتنوع أعضائها وحيويتهم وتجددهم الدائم، الفكري والجيلي، هو منبع لا ينضب لكفاءات سياسية واجتماعيه أنبتتهم أرض الواقع المبنية على القيم، وتستطيع المشاركة بجدارة بالعمل السياسي وتطوير المشروع الوطني.
هي إذا الوسيلة لتجديد العمل السياسي عن طريق فتح المجال للأجيال الجديدة للمشاركة خارج أُطر الولاءات التقليدية أو الانغلاق الفكري والتكلُس ألشيخوخي. ونموذج مؤسسات المجتمع المدني في تونس بالتوافق الاجتماعي الناجح، او نموذج نقابة العمال «سوليدارنوش» برئاسة ليش فاليسا في بولونيا، هذان النموذجان فتحا الباب واسعا للديمقراطيات في أوروبا الشرقية، الأمر الذي جعل لهما المكانة المعتبرة، والتعبير الأوضح لأهمية العمل المدني.
لكل هذه الأسباب علينا أن نُركز في عملنا لفلسطين على مؤسسات المجتمع المدني، قبل الارتهان للتيارات السياسية، والتي بدون استثناء لم تستطع أن تنجز الكثير على درب تحقق وتقدم المشـروع الوطني الكـبير.

كاتب فلسطيني يقيم في باريس

العمل المؤسساتي والمجتمع المدني

د. نزار بدران

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول فوزي حساينية -ولاية قالمة - الجزائر-:

    قرأت هذا المقال وأعدتُ قراءته، شكرا لك دكتور نزار بدران على هذه الأفكار وعلى هذا التحليل النافذ.

  2. يقول خليل ابورزق:

    منظمات المجتمع المدني في بلادنا العربية كلها قليلة جدا و ضعيفة جدا مقارنة مع الدول الحرة و شبه الحرة في العالم. و السبب هو تغول السلطات الرسمية عليها و تضييق الافق امامها لخشيتها الدائمة من اي تنظيم للمواطنين. ومن الملاحظ ان معدل نشاط منظمات المجتمع المدني في فلسطين المحتلة هو اعلى بكثير من الدول العربية الاخرى نظرا لضعف السلطة الوطنية الرسمية او وجود المواطنين تحت الاحتلال المباشر.
    و على سبيل المثال فانه يمكن لاي مراقب ان يلحظ ضآلة او انعدام منظمات المجتمع المدني العربية في القمم العالمية التي نظمتها الامم المتحدة للمعلومات أو السكان أو المناخ الخ…فبينما كان عدد منظمات المجتمع المدني المشاركة في هذه المؤتمرات يترواح ما بين 15000 الى 25000 منظمة تجد ان مجموع المنظمات العربية من كل العالم العربي يتراوح من 16 الى 30 منظمة بنسبة 1 من 1000 علما بان عدد السكان العرب هو 5% من العالم و عدد الدول العربية هو 11% من عدد دول العالم. يعني ان نشاط المجتمع المدني العربي اقل ب 50 الى 100 مرة من المتوسط العالمي

إشترك في قائمتنا البريدية