هوامش على موسم الرقص مع ترامب

حجم الخط
0

أحيانا لا بد أن تقف حائرا أمام ما يحدث في هذا الجزء البائس من العالم، المسمى بالشرق الأوسط، وفي القلب منه وبشكل أكثر تحديدا الدول العربية، باعتبار أن عبارات العالم العربي لا تختلف في السخرية المريرة التي يمكن أن تنتجها عن أغاني من نوعية وطني الأكبر، في خلفية الأحداث التي نتعايش معها، والتي تقدم المنطقة في أسوا ما يمكن أن تكون عليه الحسابات الضيقة للمصلحة.
حيرة لا ترتبط باستبعاد التطورات التي تحدث بالضرورة، ولكن تصور أن هناك حدودا للفشل وإمكانية التعلم من الأخطاء، وتذوق انتصار حضاري حقيقي يتجاوز محاولات تغييب المنطقة في تنافس رياضي تارة وغنائي تارة أخرى، لا يمر بدوره من دون أن ينتج جراحا جديدة، أو يعبر على جراح قديمة ويعيد للواجهة حديث الأفضل والأحسن، سواء بالعودة للماضى والاستناد إلى أمجاد تاريخية ما، أو لاعتبارات مادية تتعلق بمن يملك ويتصور أن الملكية، مثل التاريخ، ترتب أحقية أو طبقية مطلقة.
طبقية تتجاوز داخل الدول للعلاقات بينها، وعداء للذات والقريب، يتجاوز عداء الغريب والعدو، الذي غابت ملامحه وغيبت منذ سنوات، ليتحول إلى كائن هلامي يتم رسم ملامحه وفقا لحسابات كل سلطة، وضرورات خلق العدو الذي يجمع الجماهير حولها، أو يشتت الانتباه عنها وعن القضايا الأساسية.
يبدو حديث نظري على خلفية عداء عربي- عربي، ومقاطعة تدار من بعض الدول العربية ضد دولة عربية، في لحظة جاءت بعد الرقص مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والحديث عن صفقة القرن التي تعيد تشكيل المنطقة، من أجل حل ما للقضية الفلسطينية على حساب مصر وأطراف أخرى، لا يستبعد أن تكون القضية الفلسطينية ذاتها ضمنها. رقص يبدو مرحا، ويخرج منه ترامب سعيدا وهو يغادر مع اتفاقات وأموال تفيد المواطن الأمريكي، وتقدم الكثير للحليف الإسرائيلي، وتغازل ناخبا اقتنع أن إعلان العداء والتهديد أقصر طريق لتعظيم المصالح الأمريكية، من دون تقديم مقابل حقيقي. أما عن العرب، ومصالح المنطقة فتلك قضية أخرى، ونحن نشهد انعكاسات ترامب في المنطقة، بداية من التنازل المصري عن تيران وصنافير، للعداء المنسق ضد قطر، وتوسيعه ليشمل قناة «الجزيرة» وحماس والإخوان، وغيرها من التفاصيل التي تحاسب الربيع العربي، وتعيد رسم توازنات الإقليم لحساب من يملك اللحظة وكأنه رقص على بقايا حديث العروبة المعلب.
هل يفترض أن نبدأ بالتأكيد على أن مقولة أينشتاين عن حدود الغباء تسيطر على محاولة قراءه المشهد العربي الحالي وهو يؤكد: «شيئان فقط ليس لهما حدود، الكون وغبـاء الإنسان، وأنا لست متأكداً من الأول». وهل هي صدفة أن تلك التطورات تحدث مع ذكري مرور 50 عاما على هزيمة 1967 أو النكسة الممتدة؟ أم أنها مجرد تأكيد على أن أسباب السقوط داخلية، وأن احتمالات الصعود مؤجلة، مادامت الديمقراطية غائبة والمنطقة تدار بوصفها املاكا للنظم الحاكمة.
هل يفترض أن نشكر العالم خارج تلك المنطقة، لأنه لا يتعامل معنا بالمنطق نفسه ويرفضنا ويحاصرنا بالمطلق، لأن من نفذ وينفذ عمليات إرهابية ينتمي لتلك المنطقة، أو أن جزءا كبيرا منهم ينتمي للإسلام؟ ولأنه لم يحاسب دول المنطقة، حسب جنسية منفذي العمليات الإرهابية، أو عدد من يتعاطف مع التنظيمات الإرهابية عبر وسائل التواصل الاجتماعي. قد يقول البعض إنه النفط والغاز، وإن ما تملكه المنطقة من موارد يحتاجها العالم هي التي تحد من السلبيات وتجبر العالم على التعامل معنا. ولكن ألا يمكن أن يكرر البعض ما قيل عن إن المقاطعة التي تمارس ضد قطر لا تتيح لها الحق في قطع إمدادات الغاز التي تقدمها لدول تقاطعها لأنها – كما قيل- محكومة بقوانين واتفاقيات.
واقع كاشف للتناقض والمعايير المزدوجة التي تحكمنا، والتي تجعل الإتيان بخطوات غير مسبوقه مع الأعداء، إن كان هناك تعريف محدد للعدو في ظل السيولة العربية القائمة، وبعض ملامحها قد تكون غير قانونية على طرف وفي الطرف الآخر تتمسك بالقوانين والاتفاقيات، وترى أن الدولة – داعمة الإرهاب والخارجة عن الإجماع، والساعية إلى تهديد أمن الخليج وفقا للخطاب المستخدم- لن تتخذ خطوة تتجاوز الاتفاقيات، أو تهدد أمن الطاقة ومستوى الحياة العادية في دولة تقاطعها وتعاديها بشكل علني.
أتذكر تعليقات قديمة عن كيف نكرر الحديث دوما عن ازدواجية المعايير التي يتعامل بها الآخر معنا، وكيف نعيد تطبيقها. كيف نتحدث عن قدسية الحدود والاستقلالية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، ونطالب الآخر الغربي عادة، بأن يحترمنا ويحترم خصوصيتنا، ولا نلتزم بكل هذا في علاقاتنا العربية، التي تخضع لحسابات القوة ومن يملك المال والنفوذ المترتب عليه، ويريد إعادة رسم المنطقة كما يشاء.
لحظه يتحول فيها محمد حسني مبارك ومعمر القذافي وسيف الإسلام القذافي إلى شهود يتم استحضارهم للمشهد، ومعهم أشباه دول وكيانات غير معترف بها ودول تابعه لمن يملك المال، لمجرد أن مواقفهم تصب في حسابات اللحظة، وحسابات تصفية عداء واضح، لكل ما ارتبط بالربيع العربي، بوصفه لحظة إفاقة غير مقبولة من أصحاب السلطة، وفرصة لإعادة رسم النفوذ. لحظة تخرج فيها تسريبات وتعلن ما تسمى وثائق بشكل يومي، لابد أن يثير تساؤلات منطقية حول التوقيت والصدفة، وأين كانت كل تلك «الحقائق» قبل إعلان العداء، كيف تحول صديق وجار إلى عدو، وتحول شيخ تم تكريمه من فترة قصيرة في بعض الدول التي قادت المقاطعة، إلى عدو على قوائم الإرهاب؟ تدرك كيف لا ندير سياسة في هذه المنطقة، لأن لا أحد يحاسب، لا أصوات تسمع، لا كراسي تتغير وفقا لانتخابات حرة، ولا تنافس مع خطاب الدولة، إلا في حدود. كيف يمكن بسهولة أن تصبح عدوا مستهدفا، وإرهابيا على قوائم جماعية، ليس لأنك إرهابي بالضرورة، ولكن لأنك تعلن رأيا مخالفا للاتجاه الرسمي. لا أحد بريء حتى تثبت إدانته، فالإدانة سهلة بمجرد أن تعلن رفضك للتيار الرسمي السائد في اللحظة.
تكتشف مساوئ الديكتاتورية والقمع وغياب الديمقراطية في هذه المنطقة، من العالم الذي تسارع لتأكيد وجود أسانيد قانونية قائمة أو مستحدثة، تمكن ليس فقط من فرض غرامات مادية، ولكن السجن سنوات لمن يظهر تعاطفا مع قطر، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أو يشاهد «الجزيرة»، أو غيرها من صور التعبير عن الرأي المختلف عن السلطة، أو حتى محاولة الاطلاع على الرأي المختلف. تكتشف في لحظة كيف يتم التعامل معنا بوصفنا مجرد أشياء لا تملك حق التفكير أو التعبير عن الرأي، لأنها بالأساس لا يفترض أن يكون لها رأي أو كما قال عبد الفتاح السيسي بصور مختلفة، يمكن أن يكون لك رأي ولكن لا يحق أن تعبر عنه.
تكتشف كيف تقترب في المنطقة من لحظة ساخرة من مسرحية الزعيم وعادل أمام – المواطن زينهم المطحون شبيه الزعيم – لا يجد أمام بطش السلطة إلا أن يؤكد على ضرورة محاسبة من يكره الزعيم ومن يقف بجوار من يكره الزعيم، ومن يعلن أنه يحب الزعيم، ولكنه يكرهه من الداخل.. لا فارق كبير عن الواقع ولكن الكوميديا عندما تتحول لواقع لا تثير الضحك.
تكتشف أن لا حدود لغباء نشوة الانتصار، رغم أنها عابرة مهما طالت. وإن كان البعض يحتفي في اللحظة بالمال والعلاقات الخاصة مع ترامب وفشل مساعي التغيير في دول الموجة الأولى من الربيع العربي، فكلها اعتبارات متغيرة، وافتراض ثبات الأشياء من ملامح الفشل وما الربيع العربي – رغم انتكاسته- إلا دليل على عدم الثبات.
العداء كاشف عن الكثير في ما يخص الأوضاع البائسة لتلك المنطقة من العالم، كما هو كاشف عن حدود القوة والمكانة. وعندما تنتهي الأزمة، إن حدث وانتهت بدون خسائر أكبر وببعض الرشادة، لن تكون الأشياء كما كانت قبلها. سيكون على الجميع إدراك حدود القوة والنفوذ ضمن دروس أخرى، حتى قطر مؤكد أنها أدركت حدود الدور، والحاجة لإعاده تقييم علاقاتها الخارجية، والنظر في قائمة الدول التي قطعت العلاقات معها، سواء بشكل أساسي أو كتابع للمجموعه الأولى ومخاطب لود من يملك المال والقوة في اللحظة.
أما من يسأل وماذا عن قطر وكيف لا تستجيب لما يطلب منها؟ فهذا حديث آخر يظل في خلفية الصورة، لأن الإعلان والطريقة التي تم بها التصعيد والتطورات أخرجت الحدث من ساحة الدبلوماسية، وحفظ ماء الوجه والوصول لاتفاقات مباشرة، إلى ساحة تكسير العظام والمباراة الصفرية، التي يرغب طرف ما في تأكيد أنه انتصر، وأن الاخر رضخ له أو رضخ دون أن يلتزم بمطالبه. لحظة الخروج عن الدبلوماسية وسرعة التطورات العلنية، هي التي تثير التساؤلات هنا عن حقيقة ما يجري من أجل صفقة القرن، وما سيدفع من مقدرات دول المنطقة وشعوبها ولماذا؟
اذا أردت أن تيأس فهذا هو الوقت المثالي، أقول لنفسي أحيانا كثيرة، أو تمسك بأمل أن ينتهي الغباء يوما، أو تنمو الرشادة ضمن شجرة المحاسبة والديمقراطية. وأعيد التمسك بالأمل لأن الديمقراطية لابد أن تزدهر يوما مهما كانت التربة جافة في اللحظة، لأن معاناة الملايين كفيلة بأن تولد ما يكفي من قطرات العرق أو دموع الألم والمعاناة التي تغير الأشياء لصالح الإنسان وتزهر حياة كالحياة يملك فيها البشر الحق في الحكم والمحاسبة.
كاتبة مصرية

هوامش على موسم الرقص مع ترامب

عبير ياسين

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية