على مدار الصفحات الثلاثمئة لا يخلو مشهد واحد، أو فكرة واحدة، من نزول المطر الذي يصل بلَلُه إلى ما تحت الثياب السميكة، ولا من طين الطريق الذي تغوص فيه الأرجل. لذلك يبقى الناس، بشر تلك المزرعة، مقعين وراء نوافذهم منتظرين أي ظهور قد يلتقطونه من وراء نوافذ البيوت القريبة المتقابلة. وهم لذلك يعرفون عن بعضهم بعضا ما هو أكثر بكثير مما تتيحه لقاءاتهم، سواء التقوا اثنين اثنين، أو التقوا ثلاثة معا تجمع بينهم الريبة والخيانة، أو اجتمعوا كلهم، هناك في تلك الخمارة التي يديرها أحدهم.
المطر المستمر يحول دون خروجهم إذن. كل يقبع في بيته المتداعي، المتهالك من سقفه إلى جدرانه إلى أرضيته. الاختان فقط، تترددان إلى الخارج، مستظلتين ببناء الطاحون، المتداعي هو أيضا، منتظرتين أن يأتي زبون لإحداهما أو لهما معا. لكن من هو هذا، قد يسأل قارئ الرواية، طالما أن لا أحد غريبا قد يعبر من هناك، وطالما أن ساكني المزرعة قليلون ويقضون أيامهم حبيسي البيوت، أو نتساءل عن جدوى تلصّص هؤلاء من وراء نوافذهم، باحثين عما يشبع فضولهم النهم لانكشاف تفشيه حركة ما تظهر من وراء الزجاج المقابل، المغبّر المغبّش برطوبة الماء والريح، وإلى ماذا سيوصل الانكشاف أو الافتضاح حين تكون الاختان ابنتا السيدة هورغوس، مومستين بمعرفة الجميع، بل واتفاق الجميع على هذا الذي يعرفونه. فإذ يصير ما تفعله الأختان شيئا من يوميات حياة المزرعة، ومن عادياتها العلنية، هل يعود مجال لشيء يتلصّص عليه أو يُنمّ به؟
ثم هناك السيدة شميت التي تبدأ الرواية أوائل صفحاتها بوجودها مع زوجها وعشيقها في تلك المساحة الضيقة، هكذا من دون ريبة تشغل الزوج. فهو، في اجتماع مسائي عقدوه في الحانة، لم يكن يأبه لتلصّص الرجال جميعهم على كل تفصيل ينكشف من جسم زوجته. وإذ يبدأ أحدهم بالتحرش بها، فينبري حاسده إلى ردعه، يردّ زوجها، السيد شميت، قائلا: ماذا يحصل إن وَجَد، هذا المتحرّش المستوحد، ما يسليه. كل منهم، ومن دون استثناء ربما، كان قد حظي بليلة منها دافئة، قضاها في سريره أو في سريرها. لكنهم مع ذلك يبقون ماكثين خلف النوافذ. ربما ليعرفوا ماذا يفعل الطبيب الآن، الجالس إلى نافذته هو أيضا، الذي خصّصت له الرواية فصلا كاما من فصولها، من دون أن تسعى للوصول به إلا إلى وصف وجوده الحيادي بينهم؛ أو ليروا إن كان أحد خرج إلى الطريق، ولا شيء أكثر. ذاك أنهم، إضافة إلى أنه حتى ما يمكن أن يعتبر فضيحة، لم يعد يعني لهم شيئا. لا شيء يتقاتلون من أجله، طالما أنهم، جميعا، لا يملكون مالا ولا ينتظرون أن يأتيهم شيء يؤدي بهم إلى أن يختلف واحدهم عن الآخرين. لا مجال للتحاسد إذن، ولا للغيرة طالما أن واحدهم يحظى بما يحظى به الآخر، سواء من الاختين أو من السيدة شميت. ثم أن بيوتهم على القدر ذاته من التداعي والخراب، ولنضف إلى ذلك أن الأعمار المتأخرة التي يشتركون فيها تجعلهم، واقفين على مسافة متساوية من اضمحلال الأمل.
كانوا قد احتسوا كؤوسا كثيرة في الحانة، نساء ورجالا. وإذ لن توصل الشجارات بينهم إلى العراك، يكتفون بإطلاق الأصوات العالية، وربما رفع القبضات في وجوه بعضهم بعضا. لكن ذلك لن يلبث أن يمضي «على خير» فسريعا ما يعود كل منهم إلى كأسه أو إلى استغراقه بما كان يفكّر فيه. وهم، في تلك الليلة، ذهبوا إلى أبعد من ذلك، إلى أن يراقصوا بعضم بعضا، «تانغو» بحسب عنوان الرواية، «تانغو الخراب» حيث ما يجري على تلك الحلبة الضيقة بين الطاولات هو الرثاثة التي لا ملمح مبهجا فيها، حتى السيدة شميت التي تخبّئ كنوزا حارة تحت معطفها البالي الثقيل، تفوح منها تلك الرائحة التي لا تزيلها كميات العطور.
مشهد الحفلة الراقصة هو الأطول، وهو الذي تقوم عليه الرواية أو تلتقي عنده فصولها وأطرافها. وهو، على بؤسه ورثاثته، أثمر، فانتهى بأن ظهر لهم مخلّصهم، إرمياس، الذي كان قد غاب عنهم سنتين. كانوا ينتظرونه، آملين بأن يذهب بهم إلى مكان آخر يعيشون فيه. وهو، من فور وصوله إليهم، ألقى عليهم خطبة، هناك في الحانة، خطبة بليغة احتوت الكثير من إلقاء اللوم عليهم لما هم فيه، لكن من دون أن يصل بهم إلى الشعور بالذنب، أو حتى أن يكون في ذلك تجريحا لهم أو مسّا بمشاعرهم، بل إنهم راحوا يطرون طيبة قلبه واضعين ثقتهم فيه، هكذا بلا تردّد. هو مخلّصهم الذي سيخرجهم من هذا المكان، وقد استجابوا لخطة خروجهم التي كما قال، تلك التي أطال التفكير فيها مقلّبا إياها على كافة وجوهها، فأخذوا يخرجون من جيوبهم كل ما كانوا قد جمّعوه طوال عام كامل، واحدا وراء واحد، ووضعوه أمامه على الطاولة لتغذية مشروعهم المشترك. وفي صباح اليوم التالي، قبل أن يغادروا إلى القرية القريبة ليلتقوا إرمياس، أضرموا النيران في بيوتهم بعد أن تخلّصوا من متاعها القليل، وانطلقوا في رحلتهم، مخوّضين في الطين الزلق المنهِك، إلى حيث سينتظرون مخلّصهم.
أزاحت السطور أعلاه من الرواية حوادث وشخصيات كان لبعضها ثقل في بؤس أولئك البشر، بل إن فصلا كاملا منها، هو ذلك الذي يجري على لسان فتاة معوّقة أنهت حياتها بتناول جرعة من سمّ الفئران، كان يستحقّ أن يكون رواية مكتملة في ذاتها، وإن قصيرة، لكن رغم هذا الحذف تظل الرواية على قدر هائل من تصوير البؤس البشري، حتى إن تجنبنا ذلك الميل الشائع إلى الترميز، أو إلى سعينا لينطبق ما نقرأه على جماعات من البشر، أو إلى ميول متأصّلة فيهم (كالبحث الغريزي عن قائد يسوقهم)، أو أن يكون هؤلاء، ساكنو تلك المزرعة، صورة حية عن الفقر، أو عن الخنوع أو عن سطوة «الأخ الأكبر» …إلخ.
*رواية «تانغو الخراب» للهنغاري لاسلو كراسناهور كاي لقيت ترحيبا واسعا من النقاد في اللغات العديدة التي نقلّت إليها، وألهمت المخرج بيلا تار لإخراجها فيلما سينمائيا حاز جوائز عالمية عدة. الرواية نقلها إلى العربية الحارث النبهان في 303 صفحات، وصدرت في 2016 عن دار التنوير.
٭ روائي لبناني
حسن داوود