رماد اليمن

حرب التحالف السعودي تواصل عامها الثالث في اليمن، ودون أن تبدو لها من نهاية مريحة، وكل يوم، يحدثونك عن انتصارات، وعن انحسار رقعة الأرض التي يسيطر عليها تحالف الحوثي وعبد الله صالح، ولكن دون تغيير جوهري في المعادلة، فالحوثيون وصالح لايزالون على قوتهم في صنعاء وما حولها، وفي تعز والحديدة وغيرها. والمفاصل الحيوية في الشمال اليمني لاتزال في أيديهم، ولا يزال بوسعهم أن يحاربوا ربما لأعوام طويلة مقبلة.
وما من شيء حاسم تغير، فلم يجر إلى الآن تثبيت الشرعية المفترضة للرئيس عبد ربه منصور هادي، ولايزال الرئيس الافتراضي مقيما خارج اليمن كله، وحكوماته التي يغير ويبدل كثيرا في شخوصها، لاتزال تفضل سكنى الفنادق الفخمة في الرياض وغيرها، بينما لا تنقطع إغارات جماعة الحوثيين وصالح على الحدود السعودية، وتدفع السعودية من دمها مقابل دمار اليمن اللانهائي، وتدفع من مالها عشرات المليارات من الدولارات، مرشحة للتزايد إلى مئات المليارات، عرضت السعودية دفعها إلى إدارة ترامب الأمريكية، مقابل صفقات سلاح فوق طاقة الاستيعاب الذاتي، وما من فرصة لاستخدامها ضد إيران نفسها بالطبع، بل ضد جماعة الحوثي الموالية لإيران في اليمن، ودون أن يسلم الحوثيون بالهزيمة، ولا أن يرفعوا رايات الاستسلام البيضاء، فليس لهم من مهنة سوى الحرب، وفي بيئة يمنية زادت فقرا وإنهاكا وهلاكا بالأوبئة الفتاكة، تتحول فيها بنادق القبائل إلى عكس الاتجاه، إذا توقف الممولون أو عجزوا عن استمرار الدفع السخي، وهو ما يراهن عليه صالح والحوثيون.
وليس سرا وجود خلافات في التحالف المحارب باليمن، فالإمارات تكره جماعة الإخوان، ولا تطيق وجود عناصر حزب الإخوان اليمني (المسمى بالإصلاح) في حكومة هادي، بينما السعودية تعتمد جوهريا على إخوان اليمن، والأخيرون بدورهم يريدون المزيد من المال السعودي، ويقومون بأدوار الوساطة، وإيصال المعونات المالية للقبائل، على أمل استمالتها إلى حروب صحراوية لا تنتهى مع الحوثيين، وتحويل الحرب كلها إلى صدام طائفي دموي، لم يظهر فيه الإخوان مقدرة تذكر على مجاراة الحوثيين في حروب السلاح، ويهرب قادتهم إلى فنادق العواصم الرديفة، وإلى لعب أدوار مريحة مخملية في وسائل إعلام خليجية، بينما مجموعاتهم المسلحة يجري دحرها في اطراد، وتخيب مراهنات رجلهم ـ علي محسن الأحمر ـ على السقوط السهل لصنعاء، التي صدقها التحالف السعودي، وكافأ الأحمر بتعيينه نائبا للرئيس هادي، وهي العقبة التي سعى ولد الشيخ مبعوث الأمم المتحدة لإزالتها، وكشرط لا غنى عنه لإجراء أي مصالحة قد تهدئ الأوضاع في اليمن.
قنبلة أخرى أخطر تحت سرير التحالف في اليمن، هي الحراك الجنوبي، ونزعة الانفصال المتنامية عن الشمال اليمني، وإنشاء دولة جنوبية على الأراضي التي جلت عنها قوات صالح والحوثيين، وقد كان الشقاق موجودا دائما، ومنذ بداية الحرب اللعينة الجارية، وإلى أن تفجر أخيرا بإعلان تشكيل مجلس «عيداروس» الانتقالي، وتداعي مظاهرات الانفصال بمشاركة مئات الآلاف، وفي قلب «عدن» التي يتصورها هادى عاصمة مؤقتة لحكومته، مع أن هادي هو الآخر من الجنوب، لكنه لا يحظى سوى بتأييد محدود ومدفوع الأجر غالبا، فقد كان هادي هو رجل علي عبد الله صالح في حرب أواسط التسعينيات من القرن العشرين، التي اعتبرها الجنوبيون غزوا شماليا لمحافظاتهم، كان صالح فيها صنوا وحليفا للإخوان والجنرال عبد ربه، والمعنى ببساطة، أن رغبة الانفصال عند الجنوبيين تبدو عارمة، خصوصا مع استطالة أمد الحرب، ووضوح صعوبة ـ ربما استحالة ـ حسمها لصالح هادي المدعوم من الرياض، بينما لا تبدو الإمارات عند الموقف نفسه بالضبط، ولا تداري تفهمها النسبي لمطالب الجنوبيين، وتواصل دعم قوات يمنية بعيدة عن نفوذ الإخوان، وإن كانت تفضل بقاء الخلافات الأخوية مع السعوديين مكتومة، وتشارك في إصدار بيانات عمومية باسم مجلس التعاون الخليجي، تؤكد على ألفاظ ـ لا معان ـ الشرعية والوحدة والسلام في اليمن.
والخلاصة تبدو ظاهرة وصادمة، فقد تحولت حرب اليمن إلى جولات استنزاف مريع للقدرات السعودية، بينما يجري تدمير اليمن بشرا وحجرا في الوقت نفسه، وتحويله إلى منطقة ملتهبة على الدوام، تزيد فيها المخاطر على أمن دول الخليج المجاورة، وتنتعش فيها نزعات الانفصال والإرهاب من كل لون، وتكسب فيها «القاعدة» و»داعش» أرضا جديدة كل يوم، وتفتك «الكوليرا» بالسكان على نحو جارف، ودون أن يبدو من شاطئ نجاة في الأفق المنظور، فلا شيء يبقى من اليمن سوى رماده.

إذا سقط بشار:

ليس الذين يحاربون بشار الأسد بأفضل منه، وكلهم سواء في ارتكاب أبشع الجرائم ضد الإنسانية، فلم تستمر الثورة السلمية في سوريا سوى بضعة شهور إلى نهاية 2011، بعدها تحولت القصة إلى حرب أهلية كافرة، أهلكت البشر والحجر، وقفزت بعدد القتلى والمعاقين إلى ما يزيد عن المليون، ودفعت ملايين السوريين إلى الهرب خارج الحدود، وانتهت بملايين آخرين إلى التهجير والفرز الطائفي الداخلي، وحولت سوريا كلها إلى أشلاء بلد كان.
وقد لا يصح تجاهل جرائم بشار، وكان يمكنه التنحي من أول لحظة طلب شعبي للتغيير، وكانت سوريا وقتها في تمام عافيتها كدولة، وكانت أرضها موحدة تحت سلطة واحدة، لكن جماعة الحكم فضلت تحطيم سوريا على استبدال بشار، وهربت إلى الأمام بحرب أهلية طائفية، اختفت فيها صور الثورة السلمية، وصار الاحتكام إلى القتل وحده عنوانا لمرحلة دامية، لم تكن فيها المعارضة المسلحة بأفضل من جماعة بشار، بل نافسته في ارتكاب الجرائم نفسها، وسرعان ما اختفى معنى المعارضة من أصله، وانفسح المجال لجماعات إرهاب وحشي لا تبقي ولا تذر، وصارت مراكز الثقل المسلح المعارض لجماعات من نوع «داعش» و»النصرة»، وقد غيرت الأخيرة اسمها مرات، وتحمل الآن اسم «هيئة تحرير الشام».
وصارت القسمة السورية المسلحة ثلاثية، بين ما تبقى من الجيش العربي السوري، إضافة لثنائية جماعات الأكراد المسلحة و»هيئة تحرير الشام»، هذا بافتراض التداعي المتوقع لنفوذ «داعش» في الشرق السوري، وعاصمته «الرقة»، مع الفراغ من حرب الموصل.
وأفترض جدلا أن بشار سقط أو اختفى، فلمن يكون الحكم في دمشق؟ غالبا لن يكون هناك حكم ولا حكومة واحدة، بل عدة حكومات، أبرزها حكومة «جبهة النصرة» المتخفية وراء اسم «تحرير الشام»، وهؤلاء لا يعترفون أصلا بوجود سوريا، ولا بالدولة الوطنية، ولا بالعروبة، ولا بالديمقراطية طبعا، وليس لهم من وظيفة في الحياة سوى قتل المخالفين في الملة أو في المذهب، والتصفية الجسدية المباشرة للسنة المخالفين والعلويين والدروز والشيعة والمسيحيين، وإدراك هذه الحقيقة، هو ما يدعم بشار على بؤس ووحشية حكمه، ويدفع الخائفين من الذبح للتمسك بوجود بشار، حتى لو كان حكمه مجرد خط على الرمل، لا يستطيع الصمود بغير إسناد مباشر من روسيا وقوات إيران وحزب الله، فلم يعد بشار حاكما بالمعنى الفعلي، بل مجرد عنوان بريد، تريد روسيا وإيران تثبيته، وتريد أمريكا محوه من الخريطة، وإكمال عملية تحطيم سوريا إلى النهاية.
لم تعد القصة ـ إذن ـ أن يبقى حكم بشار أو أن يذهب، بل القصة في بقاء سوريا من عدمه، أو ـ بالدقة ـ كم سيبقى من سوريا التي نعرفها؟ فخرائط التقسيم صارت مرسومة على الأرض، غرب سوريا بمدنه الكبرى مسجل صوريا باسم بشار، وفعليا في يد الشراكة الروسية الإيرانية، ويطلقون عليه صفة «سوريا المفيدة»، بينما شرق سوريا الصحراوي قليل السكان في يد الأمريكيين، ومسجل صوريا باسم «قوات سوريا الديمقراطية» ذات الغالبية الكردية، وإن دخلت إيران على الخط في الأسابيع الأخيرة، بتحريك قوات الحشد الشعبي العراقي إلى خط الحدود السورية، وتحرك جماعاتها مع جماعة النظام تحت غطاء الطيران الروسي إلى خط الحدود نفسه، والتنافس مع «قوات سوريا الديمقراطية» في عملية تخليص الرقة من «داعش»، مع ترك أجزاء من شمال سوريا تحت التصرف التركي، والإبقاء على ورقة «جبهة النصرة» في «إدلب» للتصرف بها عند اللزوم، وهو ما لا تمانع فيه روسيا وإيران وجماعة بشار، وتقذف إلى «إدلب» بجماعات السنة المهجرين قسرا من غوطة دمشق، وعلى أمل الاتفاق مع الأمريكيين على تدبير محرقة لاحقة لإدلب و»النصرة»، وبعد أن تكون واشنطن قد فرغت من عملية طرد «داعش» من «الرقة»، والمعنى ببساطة، أن الحروب في سوريا قد تستمر لسنوات لاحقة، وإلى أن تنتهي عمليات الاستنزاف والإفناء المتبادل.
ولا تسأل من فضلك أين العرب؟ ولا أين السوريين؟ فلم تعد قصة سوريا سورية، ولا عادت قضية عربية، والحكام العرب بين واحد من اثنين، فريق ينأى بنفسه عجزا أو انشغالا بمشكلاته الداخلية، وفريق آخر، ويضع مئات مليارات الدولارات من ثروات بلاده في خدمة الأمريكيين وجماعات الإرهاب، ويخبئون ذقونهم وراء ستار الحرب ضد إيران والشيعة، ويقدمون لإسرائيل خدمة عمرها بإفناء سوريا، ومحو كيانها، تماما كما فعلوا قبلها في العراق، وجعلوا من أراضيهم قواعد إبرار للغزو الأمريكي، وبدعوى التخلص من صدام حسين، ثم انتهت القصة إلى التخلص من العراق نفسه، وإفناء ملايين العراقيين، ودفع البلد إلى نفق التقسيم والتمزيق النهائي، وهو ما يراد لسوريا الآن من وراء لافتة إسقاط بشار.
كاتب مصري

رماد اليمن

عبد الحليم قنديل

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول اليمانى المملكه المتحده:

    يا استاذ عبد الحليم اليمنيون انخدعو بعاصفه الحزم بمباركه الحكومه الشرعيه وتفوظهم للتدخل ولكن بعد هذه الفتره الطويله انكشف لنا ان عصمه الحزم تحولت الى عصفه (خرم) خراب ودمار وتفرقه بين اليمنين من اقصى الجنوب الى الى كل ربوع اليمن.
    تقسيم اليمن الى منطق نفوذ وسيطره لكل من السعوديه ولامارات يبدو فلم مرعب يشغل بال كل يمنى ويمنيه كان جنوبى او شمالى، شافعى او زيدى . كلنا نعرف ان الجيران امتربصين بنا ليس همهم سوى مصالحهم وتحقيق ماربهم ليس حديثا ونما من بديه الثوره على الملكيه فى الشمال ولى لاستقلال من بريطانيا فى الجنوب.
    يبدو ان حكام الامارات والسعوديه مقتنعين ان ليمن تركت لهم يعبثو بها كما يريدون وان ايران تركت لها كل من العراق وسوريا تنهش منها ما تستطيع وربما هذا تقاسم مشترك بين القطبين المتنازعين ولكن ايرن عندما تنتهى من ترتيبها فى العراق وسوريا رايحه تدخل بكل ثقلها فى كل من اليمن والبحرين والمنطقه الشرقيه من المملكه وبهذا تكون بدايه النهايه الجزيره العربيه كما نعرفها.

  2. يقول أبو عمر. اسبانيا:

    متفق معك اليوم في هذا التحليل الكامل.
    ألم يقدم السيسي أيضا خدمة العمر لإسرائيل ببيعه لنيران. و صنافير؟ ألا يتيح ذلك لإسرائيل بكل سهولة لفتح قناة موازية لقناة السويس؟

  3. يقول عبد القادر الجزائر:

    رماد اليمن .. الاسبوع المقبل ربما الازمة الخليجية..تيران و صنافير اعمل نفسك مشواخد بالك

  4. يقول ابو محمد من الشابورة:

    والحمد لله ان ظني في مكانه حيث انني قلت ان ما يسمي بالنخبة و الناصريين في مصر لن يكتبوا عن بيع جزء من ام الدنيا ولن يتحدثوا عن الاعتقالات الهمجية للشباب المعترض علي بيع وطنه. المنطق يقول ان الكاتب يجب ان يكتب عما يدور في بيته قبل بيت الجيران. ولا ازيد.

إشترك في قائمتنا البريدية