جينات أنانية

«سأقتل كل المسلمين» قالها الإرهابي وهو يحاول دهس مجموعة من المسلمين الخارجين من المسجد بعد أدائهم لصلاة التراويح بضعة أيام مضت. جملة غريبة ترن ببشاعة في الأذن ليس فقط من واقع أنها لكائن حي يحاول قتل آخرين من بني جنسه، ولكن لأن هذا الكائن لم يبقِ حتى على بدائيته، لم تدفع به للقتل حاجة لطعام أو مأوى أو دفاع عن النفس، هو قتل حديث «متحضر»، قتل صنعته أزمان وأيديولوجيات وأفكار وفلسفات حتى استوى واجباً بل وأحياناً شرفاً للقائم عليه، يقتنص به حقه ويقتص من خلاله ممن أذاه ويعلن عن طريقه احتجاجه على ظلم أو إيمانه برسالة. خلطة فكرية غريبة لبدائية جسدية لم يعرف الإنسان من خلالها سوى العنف والقتل معجونة بتحضر فكري حديث يبرر ويمنطق ويفلسف هذا القتل صانعاً منه فعلاً مقبولاً بل ومطلباً شريفاً. وهكذا جررنا معنا بدائيتنا وصولاً إلى القرن الواحد والعشرين، حيث تخلينا عن الكثير من البشاعة خلال هذه الرحلة إلا أشدها، فلا يزال القتل المبرر بتبريرات أيديولوجية ودينية، مضافاً اليه القتل بإسم المفهوم الحديث للوطنية، فعلاً مستمراً قوياً بين البشر، تزهق باسمه أقل الأرواح تورطاً وأكثرها براءة والتي عادة ما تكون للأطفال أو المدنيين العزل الذين يعاملهم القتلة على أنهم خسائر جانبية لا مفر منها.
منذ سنة تقريباً دخل مسلح فلسطيني الى مركز تسوق تجاري في قلب المدينة المسمّاة تل أبيب فاتحاً النار على المتسوقين، حيث إنتهى الأمر الى مقتل عدد من الموجودين بالإضافة الى الشاب المسلح بحد ذاته. وقتها كتبت على تويتر أن «فتح النار على مدنيين في مجمع تجاري، هذا هو النضال ضد الغزاة؟» حيث جاءت ردة الفعل في معظمها عنيفة تجاه تغريدتي تلك. وكانت لبعض المعلقين ردود منطقية في الواقع، منها مثلاً أن أرض فلسطين كلها تعتبر أرض حرب طالما يطأها غزاة، وأنه لا خيارات كثيرة أمام الفلسطينيين في نضالهم سوى اللجوء لهذه الأساليب لاستحضار إنتباه العالم ولصنع خروق في الجدار الصهيوني الصلب البشع، وأن المدنيين مدانون بقبولهم العيش في منطقة مسروقة، وغيرها من الحجج التي تبدو ذات بعد منطقي لو أننا نقرأها في كتاب تاريخ، الا أنها تبدو مغموسة في الدماء ونحن نتداولها حجة في لحظة الحدث لنبرر بها مقتل مدنيين أبرياء ولدوا ليجدوا أنفسهم على أرض مسلوبة، لم يختاروها عمداً ولم يعرفوا غيرها وطناً، بعضهم يستنكر وجوده الدخيل عليها وبعضهم مشبع بحقه الديني فيها، الا أن أياً منهم لم يختر هذه السرقة العلنية، لربما لم يرفع سلاحاً مطلقاً ولا يحمل سوى الحب لأرض ورثها له أسلافه نهباً.
ومع فارق الموقعين والحالتين، هؤلاء مواطنون ومقيمون مسلمون على الأراضي البريطانية يخرجون من مسجد قابلوا فيه وجه رب كريم في ليلة رمضان، وهؤلاء أحفاد سلاّب أرض ولدوا ليجدوا أنفسهم لها وعليها من دون اختيار، يتبضعون في سوق تجارية مع صغارهم من دون نية شر أو أذى لآخرين، هؤلاء يتعايشون مع البريطانيين أحياناً حباً وأحياناً بغضاً، وهؤلاء يتعايشون وأصحاب الأرض من الفلسطينيين أحياناً إحتراماً وأحياناً جهلاً وتجاهلاً، مع كل هذه الفوارق، تبقى المتشابهات كثيرة، أهمها أن هؤلاء وأولئك بشر مدنيون لا ذنب لهم في الصراع الدائر بغض النظر عن تواريخهم وبغض النظر عن أفكارهم الدفينة في نفوسهم. فكما يقول البعض بأن كل من يعيش من اليهود على الأراضي المحتلة متشبع بفكرة الأحقية اليهودية للأرض ولذا يستباح دمه. يمكن إستخدام ذات الحجة بأن كل المسلمين مشبعون بفكرة سيادة دينهم على الأرض ولو جهاداً مسلحاً ولذا تستباح دماؤهم، وفي الحالتين قراءة للنوايا وإصدار أحكام على أشخاص ولدوا في منظومات لم يختاروا تطرفاتها، فلا كل المسلمين يفكرون بهذه الطريقة ويؤمنون بهذا المبدأ ولا كل اليهود قابلون بالوضع البشع الراهن. الحالة السياسية والمعطيات الخارجية مختلفة تماماً بين مقتل المسلمين الخارجين من المسجد ومقتل الإسرائيليين في مول تجاري، لكن الحالة الإنسانية واحدة، البشاعة واحدة، والعنف واحد مهما حاولت الأطراف المختلفة فلسفته وتبريره.
علّق البعض أن تلك بضاعة المسلمين ردت إليهم، ونقول لهؤلاء عار عليكم تشمتوا في أبرياء فرغوا للتو من لقاء ربهم الروحاني من دون أن يؤذوا أحداً، عار عليكم أن تقبلوا رد البشاعة ببشاعة وغسل الدماء بمزيد من الدماء، كما علّق البعض أن تلك بضاعة الصهاينة ردت اليهم، ونقول لهؤلاء مخجل أن تشمتوا في مقتل مدنيين بينهم أطفال أبرياء لم يؤذوا أحداً ولم يختاروا الظلم الذي فرضه أسلافهم على أصحاب الأرض، مخجل أن تقبلوا رد البشاعة ببشاعة وغسل الدماء بدماء الأبرياء. أعلم طبعاً أن من يده في الماء غير من يده في النار، وأن الفلسطينيين يعيشون صراعاً طويلاً ممتداً ويعانون صلافة وبشاعة العدو الصهيوني بشكل يومي مما يجعل خياراتهم محدودة وأفعالهم مضغوطة بفعل التاريخ والمعاناة والظلم الطويل، ومع ذلك يبقى المبدأ أن دوماً ما يجب البحث عن خيار أفضل، عن وسيلة أقل بشاعة وأكثر إنسانية (لربما في اختيار الموقع والهدف البعيد عن المدنيين على سبيل المثال) حتى في الدفاع عن الوجود والمعتقد والنفس والأرض. دائرة الدم مغلقة، لا يجففها سوى قطع مسارها، سوى الإمتناع عن رد الروح بالروح وثأر الجسد بالجسد. نختار بإنسانية لا بداروينية وإن كنا قد تكونا من خلال مسارها، أن نكون قد جئنا من خلال التطور الدارويني لا يعني بالضرورة أن نحيا من خلال مفاهيم الجينات الأنانية*، نمتلك اليوم من الوعي والضمير والتطور العقلي ما يمكننا من أن نسمو ونختار الأفضل، فلنفعل.

٭ نسبة لكتاب ريتشارد دوكنز The Selfish Gene

جينات أنانية

د. ابتهال الخطيب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول رياض- المانيا:

    ويستمر مسلسل خلط المفاهيم، ليس في الدين فقط، بل في كل شيء. باسم الضحايا من الاطفال والنساء والشيوخ، باسم شعب شرد وطرد من ارضه ارسل رسالة فورية مشفرة لتهز كيان من ظلمهم واساء الى محنتهم : حسبي الله ونعم الوكيل.

  2. يقول الوهيبي:

    عبث….عبث…المقال يتحدث عن العلاقة الانسانية التي تجمع البشر….ولكن نحن للاسف لدينا قناعات عتيقة…و مفاهيم قديمة خاصة بنا…حلال لنا..و حرام على غيرنا…بالنهاية…لايوجد اي فارق بين قتل المدنيين أيا كانوا…و اينما كانوا…سواء في سوق او مسجد او مدرسة…

  3. يقول Ossama Kulliah أسامة كليَّة سوريا/المانيا:

    معك حق أختي ابتهال وكل وأنواع القتل هذه مرفوضة! ولايوجد لها أي مبرر هذا رأيي أيضاَ. ولكن عليَّ أن أضيف, هل نمتلك بالفعل! اليوم من الوعي والضمير والتطور العقلي ما يمكننا من أن نسمو ونختار الأفضل, كيف؟ أليس مايفعلة بشار الاسد من إجرام بشع يتم تحت غطاء من الخداع بأنه متفوق حضارياً وصوره مع زوجته “العصرية” كانت تملأ صفحات المجلات! ومازالت تدفع عن إجرامه الفظيع. وكذلك مافعله ويفعله قادة الصهاينة على مدى تاريخ إسرائيل منذ تأسيسها كشارون وبيغين وشامير ورابين وبيريز ونتنياهو ….. وتحت غطاء من الخداع بأنهم متفوقون حضارياً مع أنهم مجرمين يمارسون القتل البشع وهدفهم القضاء على الشعب الفلسطيني !. وما يفعله الأمريكان وما فعلوه في عمليات يكون فيها الضحايا مدنيين يتم تحت غطاء من الخداع بأنه الأمريكان متفوقين حضارياً! وكلنا يعلم كيف أن بوتين وكذلك القذافي …. كانوا يعملون بنفس المنطق لتبرير عمليات القتل والإجرام الجماعية. وللتذكير فقط النازيون فعلوا أبشع أنواع القتل الجماعي تحت خديعة التفوق الحضاري أيضاً. يا إلهي أصبح التفوق الحضاري ليس إلا عنواناً وغطاء براق لتبرير أبشع أنواع القتل والإجرام. وطبعاًً داعش وأمثالها ليست بعيدة عن هذا المنطق فمن يملك الحق الإلهي فهو متفوق على الآخرين. الأعمال الإجرامية التي يقوم بها هؤلاء الذين فقدوا رشدهم أو مايسمى عمليات القتل الإرهابية ليست إلا جزء من هذا الضلال البشري في عصرنا والعودة إلى الضمير الإنساني يجب أن تبدأ من الأعلى حيث يتم ترويج خديعة التفوق الحضاري! من أجل تبرير عمليات القتل والإجرام الجماعية. في النهاية أذكر أنني التقيت بقسيس عندما كنت طالبا في لقاء مع الطلاب في الجامعة هنا في ألمانيا وعندما عرف أنني عربي ومسلم أراد أن يقول شيئا يُذكّر فيه بالضمير الإنساني فقال ولا أنسى بالفعل كلماته: للأسف من يقتل فراداً يحاسب على أنه مجرم ومن يقتل بشكل جماعي فهو “بطل” أتذكر كلماته كل يوم اسمع فيه خبر قتل عن “عملية إرهابية” أو قصف بالطيران أو البراميل لمتفجرة أو النبالم أو الصواريخ والغازات السامة أو تصريحات المسؤولين العسكريين أو تصريحات قادة إسرائيل الصهاينة أو عمليات داعش وأمثالها أو أو ..! متى نصبح متفوقين حضارياً بضميرنا الإنساني بعد كل هذا التطور العقلي الذي وصلنا إليه لا شك أن لدي أمل بذلك.

  4. يقول د. اثير الشيخلي - العراق:

    بعض الأخوة المعلقين ، عبروا عن خشيتهم من حصول خلط في المفاهيم ! و قالوا انه حصل فعلأً !!
    .
    لكن و كما عبّر اخي العزيز رياض ، هذا الخلط في المفاهيم ، هو حاصل و مستمر ، بل هو الخط العام الثابت في هذه المقالات و ليس في هذا المقال حصراً
    .
    لكن يبدو ان بعض الاخوة لاحظوا ذلك الآن فقط لكونه تعارض مع قضية بعينها يؤمنون بها ، فوجدوا تعارضاً و خلطاً بين ماهو مطروح و بين ما يؤمنون به !!
    .
    لفة طويلة و عريضة و تبريرات حاولت الاستاذة الكاتبة طرحها ، لكن ما بين السطور كان ينضح و بوضوح بعدم اقتناعها هي نفسها بما تطرح !
    .
    بل ان ما يمكن ان يقرأ من السطور نفسها ، أن هناك سوًق لحادث لندن و استغلال طرحه من أجل وضع الضحية و الجلاد ، و وضع الارهاب و المقاومة في سلة رفض واحدة!
    .
    أخيراً ، و كتسجيل لنقطة نظام ، المسلمون يسمون الههم و اله العالمين جميعاً ، “الله ” و ليس ربهم الروحاني !!
    .
    هذه اول مرة اسمع بمثل هذا المصطلح : ” رب روحاني” !!

  5. يقول رؤوف بدران- فلسطين:

    للاستاذ Ossama Kulliah أسامة كليَّة سوريا/المانيا
    لقد اشرت في ردك لي وتسائلت هل استطاعت العمليات الاستشهادية تحرير شبر واحد من فلسطين هل أطاحت بالفكر الصهيوني وأيدلوجيته القائمة على إبادة الشعب الفلسطيني,
    وتساؤلك عن كيفية حصولنا على حقوقنا ممن يغتصبها بشكل؟
    كيف نحصل على حقوقنا ممن يغتصبها لا أن نفكر كيف نقتل كتعبير على أن حقوقنا مغتصبة.
    وانا بدوري اخي اسامة اسألك كيف يمكن ان نحصل على حقوقنا ؟؟!! مع تحياتي والسلام

    1. يقول Ossama Kulliah أسامة كليَّة سوريا/المانيا:

      أخي رؤوف يبدو انك نسيت أن مقاومة الاحتلال شيء والعمليات التي تحصل ضد المدنيين شيء أخر. وهنا من الوضح أن المقصود هو العمليات التي تحصل بشكل مباشر أو مايسمى العميات الانتحارية لقتل المدنيين بشكل متعمد. مع العلم أنك لم تجبني على السؤال وأثرت الرد بسؤال أخر ربما لأن الإجابة ستضعك في موقف صعب, حيث أني لا أرى أن العمليات التي تحصل ضد المدنيين كان لها أثر واضح في مقاومة الاحتلال! وحصل شيء مشابه في سوريا حتى أنه من المعروف أن النظام كان يوم بعمليات من هذا النوع في مدينة حمص ويتهم بها المعارضة من أجل شيطنة الثورة.

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية