الألماني هادم الجدران

لم يشهد العالم منذ بداية هذا القرن سياسيا واحدا في الشرق أو الغرب يمكن أن تنطبق عليه صفة الزعيم الأصيل. بل إن بداية القرن قد اقترنت بتسلق رجل محدود القدرات الذهنية، ناهيك عن المهارات القيادية، إلى قمة السلطة في أهم دولة في العالم.
وكان الظن أن ظهور جورج بوش الأصغر على ساحة السياسة الأمريكية والدولية هو انحدار إلى أسفل قاع السياسة، وأن ذلك هو أقصى ما يمكن أن يتفتق عنه الخيال الديمقراطي الأمريكي السقيم من سوء وخبال. فإذا بهذا الخيال يجنح مجددا ويحلق ثم يهوي سحيقا ليستخرج رجلا هو من الجهالة بحيث لا يزال أمر رئاسته برمّته يبدو حتى اليوم كأنه نكتة سخيفة. «نكتة عملية»، كما يقولون، من النوع الذي يعمد فيه بعض الناس إلى مخادعة أصدقائهم، من باب التفنن في المزاح الثقيل، بالزج بهم في مواقف محرجة أو مزعجة. رجل هو من الجهالة الجهلاء بحيث يبدو أن ليس هناك لانتخابه من غاية سوى رد الاعتبار لبوش. إذ يكفي النظر لأبي جهل الأمريكي هذا أو سماعه أو رؤية تغريداته التويترية التي ما ينفك يمطر بها البشرية حتى يقتنع المرء أن بوش قد كان رجل حكمة ورصانة وفصاحة وصاحب مذهب في فن السياسة!
ومعروف أن سفاهات القرن الحادي والعشرين بدأت بإتحاف البشرية بحكام من طينة برلوسكوني وساركوزي قبل أن تتوج بأبي جهل الأمريكي. بحيث أن التباين صارخ بين الفترة التاريخية الحالية المتسمة بانعدام خصال الزعامة وبين القرن العشرين الذي كانت كل عهوده زاخرة بكبار الزعماء. فإذا كان روزفلت وتشرشل وستالين أكبر زعماء السياسة في ثلاثينيات القرن العشرين وأربعينياته، وإذا كان كونراد أدناور وديغول ونهرو وتيتو أكبر الزعماء في الخمسينيات والستينيات، فقد كان فرانسوا ميتران وهلموت كول ومارغريت تاتشر أكبر زعماء الثمانينات والتسعينات (مع وجود خلاف في الرأي بشأن رونالد ريغان وميخائيل غورباتشوف).
لم يكن المستشار الديمقراطي المسيحي هلموت كول، الذي وافاه الأجل الأسبوع الماضي، في ألمعية سلفه الديمقراطي الاشتراكي هلموت شميدت. ولكن خصاله الشخصية، من تصميم ومثابرة وقدرة على اغتنام الفرص، يسرت له أسباب تحقيق أفضل استثمار، من منظور المصلحة القومية الألمانية، للظرف الاستثنائي الذي جاد به التاريخ الأوروبي أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات. إذ ما كان انهيار جدار برلين ليؤدي بالضرورة إلى إعادة توحيد ألمانيا لو أن كول لم يقرر بعد ثلاثة أسابيع من انهيار الجدار تقديم مشروع للبوندستاغ بتجاوز الانقسام في ألمانيا وفي أوروبا. وقد بلغ من حذره أنه لم يخبر وزير خارجيته هانس ديتريش غنشر بالمشروع. كما أنه لم يخبر صديقه ميتران أثناء اجتماعه به في باريس قبل ذلك بأيام. هذا مع أن الانسجام بينه وبين ميتران كان قويا، حتى أن صورة الرئيس الفرنسي وهو يأخذ بيد كول بودّ حميم عام 1984 قد صارت من كلاسيكيات التاريخ المعاصر.
ومع ذلك نجح كول في إقناع الأعضاء الاثني عشر في المجموعة الأوروبية في اجتماع سترازبورغ في نهاية عام 1989 بدعم حق الشعب الألماني في تقرير مصيره، لا سيما أن المطالبة بإعادة التوحيد قد عوضت، في هتافات المتظاهرين، شعارات المطالبة بنظام ديمقراطي في ألمانيا الشرقية. وتمكن كول، بفضل مساعدات مالية لبرنامج البريسترويكا، من ضمان عدم اعتراض غورباتشوف على الوحدة الألمانية. وبعد فوز الحزب الديمقراطي المسيحي في مارس/آذار 1990 بأول انتخابات حرة تعقد في شرق ألمانيا منذ عام 1933، دخلت الوحدة الاقتصادية والمالية والاجتماعية بين شطري ألمانيا حيز التنفيذ في يوليو/تموز. ومن أقوى الأدلة على جسارة كول أنه فرض التكافؤ في سعر الصرف بين الدويتش مارك، علامة المعجزة الاقتصادية في ألمانيا الغربية، وبين المارك الألماني الشرقي.
كانت تلك مجازفة كبرى، ضدا على المنطق الاقتصادي، ولكن الحدس السياسي عند كول جرّأه على تسويغها بمنطق المصلحة الوطنية العليا. ومع أن كول صار يعرف، مثل بيسمارك، بلقب «مستشار الوحدة» فإنه في المقابل حرص – وهذا هو ثاني أهم قراراته التاريخية – على إطلاق مسار الاندماج الاقتصادي والمالي الأوروبي الذي سيفضي إلى إنشاء العملة الموحدة. وهكذا إذا كان المتظاهرون في برلين الشرقية هدموا جدارا واحدا، فإن موحد الألمان قد هدم جميع جدارن الحدود الاقتصادية بين الدول الأوروبية.

٭ كاتب تونسي

الألماني هادم الجدران

مالك التريكي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية