إلى أي مدى يمكن للكتابة أن تعكس شخصية الكاتب؟ حيّرني هذا السؤال كثيرا خلال مشواري التلفزيوني الذي جمعني بكتاب كبار من كل العالم العربي، و منح لي فرصة اللقاء المباشر بهم و معرفة و لو جزء بسيط من شخصياتهم التي تختفي خلف نصوصهم.
لقد تبين لي أن الكتابة أحيانا « قناع» يرتديه الكاتب ليعيش، و بهذا القناع يشيّد عالمه الوهمي الذي يستحيل على القارئ أن يخترقه ليعرف كاتبه على حقيقته.
فيما كتاب آخرون يعانون من أدبهم الذي ينتجونه بأيديهم و أفكارهم لأنّه يعطي صورة مناقضة تماما عنهم، و هذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على أن « الكتابة» مادّة عازلة تخفي شخصية الكاتب الحقيقية في كل الحالات، و لعلّه من النادر جدا أن يتطابق الإثنان .
كيف يحدث ذلك، إن كان الكاتب نفسه لا يمكنه عزل نفسه عن أدبه خلال عملية إنتاجه؟ فالأفكار أفكاره، و الآثار التي تحويها كلماته و شخصياته و فضاءاته الأدبية كلها نابعة من تجربته و رؤيته الخاصة للحياة، فلماذا حين يخرج النص من سلطته و يصبح كائنا خاضعا لسلطة القارئ يتمرّد على صاحبه؟
صحيح أن نظرية « موت الكاتب» نظرية محيرة، و هي صحيحة إلى حدٍّ ما إن حصرنا الكاتب و منتجه في موضع مقارنة ، و هي نظرية تشبه مقولة جبران خليل جبران :» أولادكم ليسوا لكم، أولادكم أولاد الحياة» و الأدب هكذا، إبن الكاتب إلى أن يحلّق بعيدا عنه لكن أين تذهب بصمات الكاتب؟ و هل يمارس الكاتب الكتابة كما يمارس المجرم جريمته مرتديا قفازات، فلا بصمات و لا آثار على أداة جريمته؟
يصعب تحديد الوجه الحقيقي للكاتب من خلال نصّه، فالقارئ مهما كان موضوعيا و ذكيا و حساسا، فإن قرون استشعاره لا تتحسس أقطاب شخصية المؤلف، لأنه و إن كان بارعا في قراءة النص، إلاّ أن المفهوم العام للكاتب يجرف مشاعر القارئ إلى رسم شخصية معينة لا علاقة لها في الغالب بالكاتب المقصود.
الكاتب في نظر العامة شخص متزن، و محترم، و نزيه، و هلُمّ جرا من كل الصفات الجميلة التي يفترض أنها لا تنبثق إلا ممن يشتغل في عالم الأدب و الإبداع و الفكر.
الصدمة تأتي حين يحدث بين الطرفين، فتنهار تلك الصورة المثالية التي رسمها القارئ لكاتبه.
و هو اللقاء الذي يندم عليه القارئ إلى الأبد، إذ قد يكسر علاقته الوطيدة بنتاج أحبه و أدمنه، و قد يستمر لكن بحرارة أخف و حماسة أقل. و قد يحدث العكس حين ينقلب اللقاء إلى عداء يولّده النص تجاه كاتبه أو إلى محبة و إعجاب، و كل هذه المشاعر عشتها كقارئة و محاورة، و لا أعتقد أني الوحيدة التي خبرت تلك التغيرات في الرؤية و طريقة التعاطي مع الكاتب بعد لقائه مباشرة.
في مجالسنا الخاصّة نعرّي كتابنا من عباءاتهم البهية، و نكشف تفصيلات خفيت علينا، و لا يمكن أن نتوقف عند مناقشة عمل ما دون أن نعرّج مطوّلا على صفات المؤلّف، و « جانب النّميمة» هذا هو المحبب لدى « لمّات» المقاهي و الصالونات الأدبية. و يبدو أن الثرثرة بشأن الحياة الشخصية للكُتَّاب أكثر متعة من تناول أعمالهم بالنقاش، فالغالب في تلك الأحاديث التي تُشَرِّح الكاتب تشريحا و تتفحص جيناته و امتداده البشري إلى جدّ جدّه و جمع أكبر قدر من المعلومات عنه و عن علاقاته و أموره الشخصية هي معرفة ما يخفيه الأدب عن صاحبه ، لكن هل نبحث عن الكاتب أم عن نصه؟
بروست في روايته « البحث عن الزمن المفقود» يكشف ذلك الإلتباس بين الكاتب و نصّه من خلال شخصية « بيرغوت « حيث تتوالى قراءة شخصه من عدة أطراف قبل أن يخرج السارد بحكمه الخاص عليه بعد الإحتكاك به، و ينتهي إلى أن الكاتب يجب أن يبقى في إطار نصه، و ألا يقرأ بعيدا عنه، و أن التعامل معه خارج نصه يخلخل رؤيتنا للنص حسب شخصية الكاتب.
في هذه الرواية الضخمة التي تضم سبعة أجزاء، نعيش حياة بأكملها، تعجُّ بالتجارب و الرؤى الثقافية، و السياسية و المعاني الإنسانية العميقة، رواية خرجت عن المألوف في كل ما تحويه، و أعتقد أن جانب مناقشة علاقة الكاتب بنصه و مدى صدقية هذا النص على عكس شخصية صاحبه فكرة طرحها بروست مبكرا في الجزء الأول من عمله ذاك، و لعلّه أول من شدّ الأكاديميين إلى هذا الموضوع قبل أن يبحروا في تفاصيله بتنظيراتهم.
لقد كشف بالضبط كيف أن اللقاء المباشر بكاتب كبير له وهجه يضع الأدب جانبا، و يفتح باب القراءات التأويلية التي تقيّد منتوجه داخل سجن ضيق.
في أدبنا العربي الكاتب مثل تحفة معروضة في متحف، جميلة و كاملة و تنتقد المجتمع و الأنظمة بلا هوادة، إذ هطلت سماء الناشرين بأعمال كثيرة، يروي فيها كُتَّابها حكاياتهم مع بعض التحوير، و التمويه، الإضافات، فتقرأ الكتاب و تقع في حيرة من تحديد هويته أهو رواية أم سيرة روائية أم سيرة مع تصحيح لهدف تجميل ماض لا يعجب صاحبه…!
تمسك بالنص و تشعر أن السارد هو نفسه الكاتب، خاصة حين تلتقي بمن يعرفه جيدا فيكشف لك أسرار العمل و خلفياته، تشعر بالغثيان و أنت تسمع التفاصيل التي لا تريد سماعها، و تأسف على مخيلة بروست التي أخذها الموت و قد أبدعت قرابة الألفي شخصية في تلك الرواية الضخمة، و أن بعض أسمائنا العظيمة تعجز حتى عن ابتكار عشر شخصيات متخيّلة لعمل لا يتجاوز المئتي صفحة، و الأسوأ حين تلتقي كاتبك المفضل و يتبجح بسرد غرامياته علنا بعد ثاني كأس يحتسيها و يترك لك حرية حبك مزيد من الشائعات حوله لأنها تغذي شهرته.
لا عجب أن يكون اللقاء المباشر لقاء حاسما للقارئ تجاه كاتبه، فهو لقاء يترك إنطباعا تقوم عليه استمرارية فعل القراءة، لكن ذلك مرتبط بمكان اللقاء أيضا، و نوع اللقاء، و نوع الحوار الدّائر بينهما.
تبقى هيبة الكاتب مكانها إن كان اللقاء في صرح الجامعة مثلا، لكنه يفقد الكثير من تلك الهيبة إن كان في حانة. كما أن ردة فعل كتاب كثيرين تختلف حسب جنس القارئ، فالأنثى لها تأثير و الذكر له تأثير مختلف، و إن غالطني البعض في هذه النقطة فلهم ذلك، لكني أذكر كتابا عرفتهم أستجمعوا كل مخزونهم المعرفي لإبهاري كسيدة تلفزيون، فيما اختلف الأمر بينهم و بين أصدقاء رجال في لقاءات مختلفة، فكثيرا ما اجتمعنا و تحدثنا عما نعرفه عن الكاتب الواحد فتبين أن ردات الفعل مختلفة جدا…و قلّةٌ أولئك الذين يتجاوزون هذه العقدة و يتصرفون بعفوية مع محبيهم دون تصنيفهم.
خلاصة القول دون مزيد من اللف و الدوران، إمّا أن نكتفي بقراءة النّص، و نقتنع بفكرة موت الكاتب، أو نتقبل الكاتب كما هو بحسناته و سيئاته و عيوبه و نزواته ، فحين يتمم إنجاز عمله تنتهي وظيفته، و هو في حقيقة الأمر ليس موظفا لدى القارئ حتى يسعى لإرضائه، و من المستحسن أن تبقى علاقته به علاقة فيها الكثير من المسافات، خاصة أمام القارئ العربي الذي لا يكل و لا يمل حتى من محاكمة شخصيات النص، فما بالك بمن ألّفها …
أمّا السؤال الذي يبقى عالقا لدي فهو لماذا نسعى لمعرفة الكاتب شخصيا ؟
٭ شاعرة و إعلامية من البحرين
بروين حبيب
ليس بالضرورة ان يكون النص الإبداعي مشابها او ملتصقا بصفات الكاتب، فهل كتابات موريس لوبلان في رواياته الشهيرة اللص الظريف ( ارسين لوبين ) تعني انه لص محترف، أو ان كاتب رواية دراكولا برام ستوكر مصاص دماء النساء. أعتقد شخصيا ان عالم الكتابة هو فضاء واسع تختلط فيه احاسيس وافكار الكاتب بواقع ربما يكون مختلفا عنه تماما، وهناك من يصور نفسه بأنه ملاك منزل في نصوصه، ومن يصور نفسه شيطانا قاتلا، وخاصة الشعراء الذين في كثير من الاحيان لا يعبر شعرهم عن شخصيتهم ولنا في قصة المتنبي ومقتله خير دليل على ذلك
السيدة العزيزة الا خت بروين حبيب عملتِ حوارات ومقابلات مع مشاهير وكتاب وشعراء واجمل حوار بلنسبة لي كان مع المرحوم الفنان القدير خالد تاجا واثناء الحوار تكلم الفنان خالد تاجا عن قصة حياته قبل ان يصبح فنان مشهور وحكى لكِ عن قصة كتاب في المكتبة اعجبه ولم يكن معه نقود ليشتري الكتاب وقبل ان يكمل القصة انتي بذكائك واحساسك المرهف عرفتي ماذا كانت النتيجة و قلتي له هل سرقت الكتاب؟ قال نعم.واعتقد كل كاتب او شاعر او اديب او فنان اراد ان يكتب سيرة حياته من الافضل ان يكون صادقاً ويتكلم عن هفواته و اخطائه مثل الفنان المرحوم خالد تاجا وتحياتنا للجميع و كل عام وانتم بخير.
عزيزتي الدكتورة بروين حبيب : كلّ عام وأنت بخيروعيد سعيد على الجميع ؛ رغم جراحات الأمة من المحيط إلى الخليج ؛ والتي يبدو أنها ستكون نزيفًا كالنيل والفرات.سؤلك المركزيّ : { أمّا السؤال الذي يبقى عالقا لدي فهو لماذا نسعى لمعرفة الكاتب شخصيا؟}.بتواضع أقولها : ( ربما كجواب ضمني لسؤلك ) منذ بداية الوعيّ الثقافيّ الذاتيّ قرأت كثيرًا كغيري من القراء ولا أزال…ورسمت في ذهنيّ صورًا لمنْ قرأت لهم ؛ وحينما ولجت السلك الدبلوماسيّ…سافرت من أقصى إلى أقصى ومن أدنى إلى أدنى…والتقيت بعدد غيرقليل من نخب الأسماء التي كانت يومًا لي ( حلمًا )… أسماء حينما أقرأ للبعض وهويُكتب بشأنهم ؛ أقف مستذكّرًا الكثيرمن الجوانب التي ربّما لا يعرفها القاريء البعيد…منهم مثلاً الشاعرالعربيّ…والشاعرة…والدكتور…والروائيّ… وأستاذ السيناريوالأمريكيّ في هوليوود الراحل : سيد فيلد ؛ وعشرات الأسماء من الفنانين ( الكبار) من غيرالمفكرين والقادة السياسيين ( من الصفّ الأول ) وصفوة المجتمع المخمليّ ؛ وغالبًا أتجاوز ما كتب منشورًا بشأنهم من دون تعليق لأنه بعيد عن الواقع الذي لمسته ورأيته.فعلًا هناك ( هوّة ) بين شخص الكاتب وموضوع كتاباته ؛ رغم المقولة الفرنسية : ( إنّ الكاتب هوالأسلوب أوبالعكس).إنما لديّ ( إنّ الكاتب هوتضاريس الواقع والمواقف والطموح).وأضيف لتعليقيّ هذا…لقد وجدت انّ أحد ( الكبار) ممنْ لا تزال بعض الأقلام تكيل له المديح والتدبيج ؛ كأنه عظيم المحيط والخليج كان ( يحبس ) زوجته ويوصد عليها الباب بالقفل والمفتاح بعد الضرب بالقبقاب.لكن النقاد يطلقون عليه ( الثائر).فهل الكتابة عملية ( خداع ) ؟ نعم أحد أصدقائي من علماء النفس قالها لي صراحة : ( إنّ الكتابة فيها تعبيرعن عدوانية الكاتب مكنونة اللاشعورفي الأعماق ؛ لتنقلب إلى تكييف إيجابيّ المخرجات ؛ مقبول على الـورق ).أليس إذن : أنْ تسمع وتقرأ خيرمن أنْ ترى؟ أم نكون كذاك ( القرد ) الذي لا يسمع ولا يتكلم ولا يرى خشية من القبقاب ؛ بل ولا يكتب ولا يردّ أصلًا على بروين حبيب ؟