منذ بداية ما بات يعرف اليوم بالمسألة السورية يعيش لبنان على وقع حرب أهلية معلنة ومتوقعة لا تنشب. في كل اسبوع تنتقل الحرب الأهلية الى حي جديد أو منطقة جديدة او مدينة أو دسكرة. تشتعل محلياً ولمدة قصيرة ثم تخبو وكأن شيئا لم يكن. كل العناصر الضرورية لاشتعال الوضع الأمني متوافرة بكثرة ومع ذلك لا تريد هذه الحرب أن تشتعل.
المواضيع الخلافية اللبنانو- لبنانية اي اللبنانية الصرفة ليست قليلة بالطبع لكن الخطوط الخلافية الأساسية لا علاقة لها البتة بالداخل. فبعد ما يقرب من قرن على نشوء هذا ‘الوطن’ النهائي لا يزال اللبناني الى اي ‘طيف’ انتمى يشعر بالاصطفاف في الطيف الذي يشبهه في ‘الداخل’ ( إقرأ العربي).
لا يزال ‘اللبناني’ يحدد موقفه كل صباح من القضايا المطروحة إنطلاقاً من القضايا المطروحة على الداخل العربي لا على الداخل اللبناني. لم ينقسم ‘الشارع’ اللبناني أو يتوحد يوماً إلا على إيقاع خلافٍ أو إتفاقٍ بين أطياف الداخل العربي وامتداداته الدولية. لم ينجح اللبنان الحر المستقل السيد يوماً في تأليف حكومة واحدة بدون ‘مساعدة’ الأشقاء’ العرب.. وبضع سفارات.
انشطر هذا الوطن ‘النهائي’ في عام 1958 عندما قرر الموارنة الطيف الحاكم آنئذٍ الخروج على الإجماع الطيفي الداخلي. هذا الإجماع الذي لم يكن بالحقيقة إلا انعكاساً لإجماع عربي عام انكسر بالطبع إثر وصول الناصرية واتخاذها موقفا تحررياً من منظومة النهب الدولية ومن الأحلاف الغربية التي عملت على تطويق الناصرية والحد من تمددها. وفي عام 1968 لم يكن الأمر مغايراً. وفي العام 1975 لم ينقسم اللبنانيون حول مشروع خط سير الاوتوستراد الجنوبي ولا حتى الشمالي. انقسموا أطيافاً حول الصراع ‘العربي- الإسرائيلي’. في العام 2000 وبعد سنتين او ثلاث او اربع أو ست او اليوم لم ينقسم اللبنانيون إلا وفق انقسام أطيافهم في الداخل العربي.
وطالما ان الأطياف العربية لم تعرف انقساما منذ قرنين إلا حول الموقف من الغرب المستعمر ووقوعنا في قبضة هيمنته الإقتصادية والسياسية فإن الصراع لم يكن يدور فعليا في اي ‘داخل’ إلا حول هذا الموقف. نعم يتستر هذا الموقف أحياناً بمواضيع أخرى. تارة براية الدفاع عن الإسلام ضد الشيوعية وطوراً براية الدفاع عن الإسلام ضد الاستبداد. مرة ضد الشيوعية بواسطة الارهاب الاسلامي ومرة بالارهاب الاسلامي ضد كل من لا يريد ان يخضع.
لبنان بدوره لم يشذ عن هذه القاعدة العامة وإن اتخذ فيه الخلاف شكلاً مختلفاً بسبب وجود هذا التنوع ‘الغني’ بين طوائفه (الكريمة دائماً) . الحقيقة ان هذا التنوع ليس خاصية لبنانية ولا استثناءً. هذا وهم لبناني صافٍ. فكل دول المشرق تشاركه هذا ‘الغنى’ الثقافي والحضاري. كل ما يميّز لبنان فعلاً لم يتعد وجود طيف ماروني مسيحي على رأسه فُرض يوما بقوة الحراب الفرنسية ممثلا له ولمصالحه كاستعمار جديد يومها.
في لبنان ارتدى الصراع حول الموقف من منظومة النهب شكلاً لبنانياً . الطيف الماروني حمل طيلة عقود شعار ‘قوة لبنان في ضعفه’ متظاهراً بالحياد فيما كانت الأطياف الأخرى تجابه هذا الطرح بمزيد من التعلق بالناصرية في مرحلة أولى ثم بالمقاومة الفلسطينية في مرحلة ثانية وصولاً إلى دعم المقاومة اللبنانية. شعار الحياد لم يكن واقعاً إلا انحيازاً لأحد معسكرات العرب، المعسكر ‘المعتدل’.
لم ينقسم اللبنانيون يوماً حول السلطة في الداخل التي من المفروض وفق المقاييس والمعايير الدولية المرعية الإجراء ان تتولى إدارة البلاد إقتصادياً وسياسياً. لم ينقسم اللبنانيون يوماً حول شكل الإقتصاد والملكية وانواع الصناعات المختارة أو حول السياسة المالية او الضريبية. أبداً. فكل ما يشكل مادة الإدارة الدولتية لم يكن يوماً مادة للخلاف الفعلي. وحده الموقف من منظومة النهب الدولية شكل على الدوام مادة الصراع الرئيسة. وهذا إن دل على شيء فهو يدل أولا على ترابط المشاكل العربية ووحدتها. كما يشير ثانيا الى هشاشة الكيانات ‘النهائية’ التي خلقت بنيوياً كسيحةً لا تدار إلا من الخارج. وهو يدل ثالثاً على أن مشكلة العرب الكيرى لا تزال هي هي وتتمحور حول التحرر من الهيمنة على سيادة الموارد والثروات.
كل انقسامات العرب كانت تنعكس انقسامات حادة في لبنان. وكل انقسامات العرب لم تكن الا حول عملية النهب والهيمنة الغربية ومنظومتها. ولو تركنا اللغة الخشبية لحظة واعملنا العقل النقدي لاتضح لنا بيسر وسهولة ان العرب لم يختلفوا في القرنين الأخيرين إلا حول الجواب على سؤال الإحتلال الجديد لأوطانهم. ولا نزال في الجواب على السؤال نفسه.
لبنان اليوم لا يشذ في شيء عن محيطه. فالخلاف في لبنان اليوم ليس على شكل الرأسمالية صناعية أم خدماتية ليبرالية ام إنسانوية . وهو ليس على سياسة توزيع المداخيل والسياسة الضريبية, وليس على حرية السوق او حول دور الدولة فيه. الخلاف ليس على السياسة الإقتصادية او على برنامج حماية المتقاعدين أو حول إيجاد عمل للعاطلين. ليس على خطط الإسكان ووسائل النقل العام ولا على الكهرباء وكلفتها ولا على مسألة المياه التي تشكل وسوف تكون مستقبلا مادة صراع كبرى مع ‘جيراننا’ بحسب اللغة المعتدلة. الخلاف اللبناني بكل المظاهر العنفية الجوّالة التي تشهدها بلدات ومدن ليس اليوم اكثر من التموضع في احد المعسكرين العربيين المتصارعين حول الموقف من الناهب الدولي ومنظومته. حتى الموقف من السلاح ومن المقاومة ليس إلا مظهراً بسيطاً وواضحاً من مظاهر هذا الإنقسام حول ضرورة أم عدم ضرورة مواجهة منظومة النهب الدولية.
المواضيع الأخرى مساحيق لا أكثر. لكنها مساحيق لم تعد تستطيع أن تخفي شيئاً.
لا فض فوك، ولكن نحن العرب امة لا تقرأ ، وإذا قرأت لا تعقل ، وإذا عقلت تنسى.