تقول السياسة إنه يجب منع الدين من التدخل في شؤونها، على أساس أن الدين يتدخل في أمورها، ويفسد عليها حياتها، وكأنها لم تفسد الدين والدنيا معاً!
من يتدخل في من: الدين يتدخل في السياسة أم السياسة تتدخل في الدين؟ وأيهما أولى: «فصل الدين عن السياسة» أم «فصل السياسة عن الدين»؟ دعونا نبحر معاً:
في بريطانيا كان الملك هنري الثامن في القرن السادس عشر يعتقد أن النساء لا يصلحن للملك، وكان يرغب في مولود ذكر يرث العرش البريطاني، وهو ما لم تقدر عليه- حسب تصوره- زوجته الملكة كاثرين. كانت بريطانيا كاثوليكية المذهب حينها، فأرسل الملك إلى البابا (المرجعية الدينية) في روما يطلب منه أن يجيز له طلاق كاثرين ليتزوج من غيرها على أمل أن تنجب له وريث عرشه. رفض البابا الفتوى، معلناً حرمة ذلك حسب التقاليد الكاثوليكية. غضب هنري الثامن من رفض البابا، وطلق زوجته مخالفاً للتعاليم، وتزوج من الملكة «آن» التي لم تنجب بدورها المولود الذكر، وظل الملك يتزوج ويطلق ويعدم زوجاته إلى أن تزوج من الملكة «جين» التي أنجبت له إدوارد السادس في ما بعد.
أعلن البابا أن طلاق هنري وكاثرين غير شرعي، وأن زواجه من الملكة آن ومن بعدها يعد زنا حسب تعاليم المسيح، ورد هنري بإعلان الانفصال عن روما والمذهب الكاثوليكي، والتأسيس للكنيسة البروتستانية الأنجليكانية التي نصَّب هنري نفسه رأساً لها وللدولة معاً، وهو التقليد الذي لا يزال سارياً في بريطانيا حتى اللحظة، حيث تعد الملكة اليوم رأس الكنيسة البروتستانية ورأس الدولة البريطانية.
ومن هنا، فإن السياسي (هنري الثامن) هدّم الكاثوليكية مذهب بريطانيا الرسمي، وأنشأ كنيسة جديدة أحلت له الزواج والطلاق على هواه، ثم ذهب يتهم البابا بالتدخل في شؤونه السياسية، معلناً رفضه لتدخل الديني/البابوي/الكاثوليكي في السياسي/الملكي/البريطاني. من تدخل في من إذن؟
من الواضح أن هنري الثامن هو من وظف الدين لصالح العرش، الأمر الذي أرخ لتحول بريطانيا من مذهبها الرسمي الكاثوليكي إلى المذهب البروتستاني الأنجليكاني، الذي يعد المذهب الرسمي للدولة.
وفي إيران -على الجانب الإسلامي- كان المذهب الغالب هو «السني» الذي يعد التيار العام في الإسلام، غير أن شاه إسماعيل الصفوي الذي سيطر على إيران في القرن السادس عشر، أرغم بالقوة شعبها على اتباع مذهبه الشيعي الإمامي، واستقدم علماء شيعة من «جبل عامل» في لبنان لسد العجز الكبير في المراجع الدينية الشيعية في إيران، حيث لم يكن للشيعة وجود كبير في أول عهد الشاه الصفوي، عدا في بعض المدن، ومنها مدينة قم. كان إسماعيل الصفوي يرى أن التشيع- بفعل قوة الولاء التي يحتمها المذهب على أتباعه لولي أمرهم- هو الأنسب لجعل إيران تدين له بالولاء، على اختلاف شعوبها وثقافاتها، خاصة وقد ادعى، حسب روايات، نسباً إلى أهل بيت النبوة لمزيد من إعطاء نفسه وأسرته مكانة دينية تمكنه من بسط سلطانه على الأرض، حيث بدأ يتدخل في توجهات الناس الدينية إلى أن حول الإيرانيين من التسنن إلى التشيع، كما فعل هنري الثامن عندما حول البريطانيين من الكاثوليكية إلى البروتستانية، لأغراض لها علاقة بالعرش والسلطان. ومرة أخرى: من يتدخل في من؟
وفي العصور الحديثة، وعلى الرغم من تحول الفكر السياسي إلى «الحداثة العلمانية» بعد انتشار مبادئ الثورة الفرنسية، إلا أن السياسي لا يزال هو الممسك بشؤون الديني لتحقيق المزيد من الأغراض السياسية. ويمكن هنا إعادة السؤال: من يوظف من؟ هل يتحكم رجال الدين في رجال السياسة أم العكس؟ هل توظف أنظمة الحكم المؤسسات الدينية توظيفاً سياسياً، أم أن المؤسسات الدينية توظف هذه الأنظمة توظيفاً دينياً؟ الأعم الأغلب أن السياسي هو من يتحكم في الديني، وليس العكس، لأن السياسي هو الذي يملك قوة السلطة والمال، ولذلك يستطيع التحكم في الديني وتوظيفه لخدمة الأجندات السياسية التي يحملها. إن من يقول اليوم بأن الدين يتدخل في السياسة، كمن يقول بأن هنري الثامن كان ضحية تدخلات البابا في القرن السادس عشر لتخريب عرش بريطانيا، وهي حجة لجأ إليها هنري الثامن ليخفي الداوفع الحقيقية لانفصاله عن روما، وإنشاء مذهب جديد، تلك الدوافع التي تدور حول رغبته في أن يطلق كاثرين ويتزوج من غيرها (مخالفاً تعاليم المسيح) لينجب مولوداً ذكراً يرث عرش البريطانيين من بعده.
وفي عالمنا العربي هناك اتهامات متبادلة بين الأنظمة الحاكمة والحركات الإسلامية حول «التوظيف السياسي» للدين. الأنظمة ترى أن الحركات الإسلامية توظف الدين للوصول إلى السلطة، وهذا صحيح، لكن الصحيح كذلك أن الأنظمة لا تخاصم الحركات لمجرد أنها توظف الدين توظيفاً سياسياً، ولكنها تحاربها لأنها ترى فيها خطراً على سلطة تلك الأنظمة. وفي المقابل فإن الحركات الإسلامية تأخذ على الأنظمة توظيف المؤسسات الدينية الرسمية في الدولة لخدمة السلطة، وهذا صحيح، لكن الصحيح كذلك أن تلك الحركات لا تخاصم الأنظمة لمجرد أنها توظف المؤسسة الدينية لخدمة السلطة، ولكن لأن الحركات الإسلامية تريد أن تحل محل تلك الأنظمة. وقد يقول قائل إن توظيف الحركات الإسلامية للدين دليل على تدخل الدين في السياسة، وهو ما ينقض ما ذكرناه من أن السياسة هي التي تتدخل في الدين. والواقع أن توظيف الحركات الإسلامية للدين صحيح، غير أن ما ليس بصحيح هو اعتبار تلك الحركات السياسية حركات دينية، إذ أنها حركات سياسية تسعى للوصول إلى السلطة لتنفيذ مشاريعها. وعلى ذلك فإن الأنظمة السياسية والحركات الإسلامية التي تعد مكونات وبنى سياسية لا دينية، تعمل على توظيف الديني لصالح السياسي، وليس العكس.
ما هو الحل؟
الحل يبدأ حين تكف السياسة بمكونيها (السلطة السياسية والمعارضة الإسلامية) عن تزييف وعي الجمهور، بزعم أن الدين يتدخل في السياسة، فيما الحقيقة التي تدعمها شواهد التاريخ والحاضر تقول إن السياسة هي التي تتدخل في الدين وتوظفه لصالحها. وإذا ما وصلنا إلى هذه القناعة فإن رجال السياسة من حكام وإسلاميين سيبحثون عن وسيلة أخرى – غير الدعاية الدينية- لتثبيت مشروعية سلطاتهم التي حصلوا عليها، أو التي يسعون للحصول عليها. هذه المشروعية ستكون مشروعية تنموية وقيمية، تترجم في برامج عمل سياسية تركز على كم من الخدمات، وليس على كم من الشعارات. وعندما تتنافس السلطة والمعارضة الإسلامية على أساس برامج عمل سياسية: تنموية وخدمية، فإنها هنا ستكون قد حققت مقاصد الدين بالسعي لتعمير الدنيا. ومن هنا يمكن القول إن وقف التوظيف السياسي للدين، والتركيز على برامج العمل التنموية والاقتصادية يحقق مقاصد الدين ويقوي أسس السياسة.
نقطة البدء- إذن- تكمن في وقف العمل على تكريس مقولات من مثل أن «الدين يتدخل في السياسية»، وتثبيت المقولة الأصح وهو أن «السياسة تتدخل في الدين»، كما تتدخل في الاقتصاد والقيم والثقافة والتاريخ، وهذا ما يحتم فصلها عن هذه المنظومات لكي لا يستمر التوظيف والتزييف. وعندما نصل إلى هذه الحد فإن الحاكم سيمتنع عن التواصل مع «فضيلة المفتي» ليصوغ له من الفتاوى ما يبرر تصرفاته السياسية، ويعطيها مشروعية دينية، كما أن المرشح الإسلامي سيُمنع من كتابة الآية القرآنية «إن خير من استأجرت القوي الأمين» إلى جوار صورته في الدعايات الانتخابية. وبذا نحفظ للإسلام نقاءه مع بقائه رافعة القيم الروحية، وحاضنة لأوجه الحياة الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والشخصية، وباعثاً للتراث الحضاري للمسلمين.
كاتب يمني من أسرة «القدس العربي»
د. محمد جميح
الامر ليس كما اراد السيد كاتب المقال توصيله بهذه الصورة البسيطة وخاصة بين المسيحية من جهة والاسلام واليهودية كذلك من جهة ففي المسيحية لا يوجد دولة اما في الاسلام فهناك دولة كان الرسول قائدها ثم جاءت دولة الخلافة بعده وفي تاريخ اليهودية نشات دول كان كان الانبياء او رجال الله هم قادتها كما في داود وسليمان.
الطلاق بين الدين والسياسه ضرورى ربما يسمح ان يكون بينهما علاقه مصالح ولاكن فى حدود ضيقه ومتناسقه بحيث لا يطغى احداهما على الاخر. اما ان يتدخل الدين فى السياسه (ايران) وتتدخل السيايه فى الدين (الامارات+مصر) كمثل وليس حصرا فعليك ان تستنتج المخاطر والمشكل المترتبه من قبل الأنظمة الاستبدادية التى توظف كل منهما على الاخر. وما عليك الا ان تنظر الى الدول العربيه ولاسلاميه وتخرج بنتيجه واحده وهى ان احدى معضم مشاكلنا كعرب ومسلمين هو الخلط بين الدين والسياسه او توضيف احدهما على الاخر.
كلام منطقى فالسياسة تطالب بتجديد الخطاب الدينى لحاجة فى نفس يعقوب ورجال الدين يطالبون بتطبيق الشرع بمفهومهم ليصبحوا هم المرجعية ولا حول ولا قوة الا باللــه واذا كان المرشح الإسلامي سيُمنع من كتابة الآية القرآنية «إن خير من استأجرت القوي الأمين» إلى جوار صورته في الدعايات الانتخابية فهل سنمنع بائع العصير من كتابة (وسقاهم ربهم شرابا طهورا)..كما ان رجال السياسة من حكام وإسلاميين لن يجدوا سيلة أخرى – غير الدعاية الدينية- لتثبيت مشروعية سلطاتهم التي حصلوا عليها، أو التي يسعون للحصول عليها بنفس البساطة والتكلفه ..السلوك القويم هو الفيصل لمعرفة الرجال ..
كلامك يا دكتور كلام منطقي وعقلاني. فاتهام الدين بالتدخل في السياسة هو تجني على هذا الدين وهو بالطبع ديننا الإسلامي الحنيف.ولنا تجارب عديدة تاريخيا دفعت حكام لأغراض سياسية إلى حد إبادة ملايين البشر بما فيهم علمائهم كما هي حالة إسماعيل الصفوي الذي حول إيران من المذهب السني إلى المذهب الشيعي الصفوي الفاسد.ولنا في حكامنا العرب تجارب كذلك طيلة حكم علماني قومجي لأزيد من ستين سنة طوعوا كل شيء في أيديهم حتى هذا الدين استغلوه لصالحهم ليبقى محصورا في المساجد وتلغى نصوص القرآن الكريم إلا في قرائته على الأموات وإقامة الشعائر الدينية بدون أن يبدي الدين رأيه في الإقتصاد والسياسة ليبقى محصورا في خدمة الحاكم بفتاوي ما أنزل الله بها من سلطان لتجميل وجهه القبيح وتبرير أعماله المخالفة لشرائع السماوات والأرض إلى درجة وضعه في مرتبة الأنبياء كحالة السيسي فرعون مصر.بل أن رجال هذا الدين كثيرا ما عانوا من اضطهاد وقمع على أيدي هؤلاء الساسة بدون أي مبرر وحالة الإخوان المسلمين تدل على ما عانوه من اضطهاد قاسي منذ جمال عبد الناصر إلى اليوم رغم نبذهم للعنف ولم يسجل طيلة تاريخهم وبحكم المحاكم المصرية ان اقترفوا جريمة أو خيانة اتجاه بلدهم بغض النضر عن الإنتقادات المخالفة معهم إذ هم في الأخير بشر يخطئون ويصيبون.والحل يا أستاذنا الكريم واضح وبين إذا خلصت النيات في النهوض ببلداننا وهي الإتفاق على أرضية مشتركة لا يختلف عليها إثنان وهي تطبيق العدالة الإجتماعية وترك الحريات بما يناسب ثقافتنا الإسلامية والشروع في التنمية واحترام الآخر ومحاربة الجهل ونشر العلم ومحاربة الفساد والمفسدين ولعل تجربة حزب العدالة والتنمية بتركيا جديرة بالإقتداء بها حيث التزم بأنه سيحافظ على علمانية تركيا وبدأ في العمل والجد بعيدا عن الشعارات الجوفاء حتى كسب ثقة شعبه وأصبحت تركيا في مصاف البلدان المتقدمة على الصعيد الأوروبي وعادت الصحوة الإسلامية لها.
تعرف السياسة وفق التعريفات المعاصرة ، تعريفاً هيناً لطيفاً بأنها فن الممكن !
و كأنها قماشة حريرية او لفظة من لفظات الاتيكيت !
.
السياسة من السائس وهو مروض الخيل ، و هو ان تسوس الناس و تروضهم
و السياسة هي كيف تقود المجتمعات بمناهج و برامج يتوافق عليها الناس.
الدين ، هو الطريق و هو المنهج ، و في الاسلام ، إن الدين عند الله الإسلام ، اي ان الطريق و المنهج هو هذا الذي قرره الله في كتابه ، منهجاً و طريقاً مباشراً للأخذ بسعادة الدنيا و الفوز بنعيم الاخرة من خلال اتباع هذا الكتالوك و الوصفة الربانية
الا يعلم من خلق و هو اللطيف الخبير.
.
بالتالي ، كما اشار الدكتور جميح ، اعمار الارض و المجتمعات غاية الدين و السياسة كما يفترض.
.
و بالتالي الدين سياسة ، و السياسة دين
.
لكن استغلال الدين و شعاراته من اجل المتاجرة به لاغراض شخصية دنيئة او حتى لتحقيق اغراض لفئة او طائفة دون اخرى ـو استغلال السياسة للدين نفسه من اجل تحقيق نفس تلك الاغراض الدنيئة ، انما هو ما يجب ان يرفض و يحارب وهو ما اشار اليه و وضحه الدكتور محمد بمنتهى الروعة و استشهد بوقائع و شواهد تأريخية .و معاصرة غاية في الروعة و الابداع.
.
محمد انور السادات في احدى خطبه “العصماء” قال … لا سياسة في الدين , و لا دين في السياسة !!
.
الغريب انه هو شخصياً ربما يعتبر اكبر المخالفين لشعاره هذا !!
مرة اخرى مقال غاية في الروعة
–
تحياتي