شكلت السيرة الذاتية، في الثقافة العربية إشكالية التحقق الإبداعي، كما استمرت موضوعا للجدل في الوعي الاستقبالي للكتابات التي انتصرت على الإشكالية، وتحررت منها، بحكي الذات إبداعا.
ولعل إشكالية الموضوع، تعود إلى وضعية الفرد العربي في مجتمعه، ووضعية الحرية الاجتماعية والسياسية والثقافية، التي تحول دون التعبير المفتوح على الذات. انتقلت الإشكالية إلى التعبير الروائي، فوجدنا مجموعة من الروائيين- خاصة في التجارب الأولى- يُحذرون القارئ، من الخلط بين الشخصيات المُتخيلة في الرواية، وشخصية الكاتب الواقعية. تزامن ذلك، مع خضوع النماذج السيرذاتية إلى مظهرين اثنين: من جهة، تركيز المؤلف على حكي ذاته – الإيجابية، تلك التي انتصرت على إكراهات الحياة، ونجحت في تدبير الذات، فقدمت بذلك حكمة للقراء، مثلما نجد في «الأيام» لطه حسين، ومن جهة ثانية، عندما يتحرر المؤلف في الحياة الاجتماعية والواقعية، وينجح في الانتقال بهذا التحرر من المجتمع إلى الكتابة، فيحكي تحرره الاجتماعي، ويعري تناقضات المجتمع، ويقدم للقارئ سيرة ذاتٍ، خارج تعاليم المجتمع، وتعاقداته المألوفة، مثلما حدث مع «الخبز الحافي» لمحمد شكري. مع ذلك، بقيت السيرة الذاتية، تُلازم التعبير الإبداعي، بدون التصريح، أو التلميح، فتأتي ممتزجة بوضعيات روائية، أو قصصية. وكلما انفتحت المجتمعات على الحرية والتعبير، تقدمت السيرة الذاتية بجرأة، نحو التعبير الإبداعي. فجاءت تحت مواصفات عديدة مثل: الرواية السيرذاتية، والسيرة الروائية والمحكيات والمحكي الذاتي والتخييل الذاتي. وقلما بدأنا نجد نصوصا ترد تحت تعيين « السيرة الذاتية». ولعل الأمر، يعود إلى الوعي النظري بمفهوم السيرة الذاتية، وصعوبة كتابة الذات، خارج منطق التخييل. يبقى أن الحديث عن السيرة الذاتية، يُرافقه الوعي بالتفكير في علاقة الفرد بالحرية والتعبير في المجتمعات العربية. تأسيسا، على علاقة السيرة بمناخ الحرية، يأتي كتاب الباحثة السعودية أمل التميمي «تحولات السيرة الذاتية وممارساتها الجماهيرية بعد ثورات الربيع العربي» (2017)، من خلال «الصفحات الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي ودورها في تحولات الأدب الذاتي». لا تعود أهمية الكتاب، إلى معالجته لموضوع السيرة الذاتية، ومواقع التواصل الاجتماعي، وإنما الكتاب يتميز، بكونه اشتغل على التحول الذي عرفه الحكي الذاتي، مع الوسائط التكنولوجية، بدعمٍ من مؤشر تاريخي، ساهم في تحويل الوسائط إلى مجالات مفتوحة على التعبير المفتوح على الذات، بكل جرأة وحرية. يتعلق الأمر بما سمي بثورات الربيع العربي.
وإذا كان هذا المؤشر ما يزال في مرحلة التحليل التاريخي والسياسي، وما يزال الموقف منهُ مُتضاربا، والتساؤل مستمرا حول مدى تحققه – فعلا- باعتباره ربيعا سياسيا وحقوقيا واجتماعيا واقتصاديا في التجربة العربية، فإن شيئا ما قد حدث، بفعل هذا المُؤشر، أو بتعبير آخر، هناك تحولٌ ما قد حدث، في علاقة الإنسان العربي بعلاقته بالحرية والتعبير عن ذاته.
تُلفت الباحثة السعودية أمل التميمي الانتباه إلى هذا التحول، وتبحث في العلاقة المُنتجة بين مواقع التواصل الاجتماعي والسيرة الذاتية في التجربة العربية الحديثة، وما نتج عن هذه العلاقة من وعي جديد بالسيرة الذاتية في الاستعمال الاجتماعي العربي، وأهمية الوسيط التكنولوجي في تحرير «ذات» الفرد العربي، من وصايا المجتمع، والذاكرة الجماعية، مع جرأة اقتسام سيرة الذات مع الآخرين، وقبول تحويلها إلى موضوع للتفاعل، والسماح لوجهات نظر مختلفة، قد تُعارض السيرة وتنتقدها، وقد تصدر حُكما سلبيا، كما قد تسجل إعجابا ودهشة بالسيرة. وقد تأثر حكي الذات بطبيعة وسائط مواقع التواصل الاجتماعي.
يُناقش الكتاب التحولات التي تعرفها السيرة الذاتية العربية على مواقع التواصل الاجتماعي، باعتبارها فضاءات جذب وانبهار، ومساحات افتراضية، لا تُلزم المُستعمل العربي قيدا أو شرطا، باستثناء احترام شرط حجم الكلمات في بعض الوسائط، وليس كلها. ولعل من أهم التحولات التي طرأت على السيرة الذاتية في علاقتها بالمواقع الاجتماعية، نلتقي بهيمنة حكي الذات بكل جرأة، من خلال الصفحات والحسابات الشخصية عبر الفيسبوك وتويتر وسناب شات وانستغرام، ثم البوح والمُكاشفة والتوثيق عند عموم الجماهير. كما أن كتابة الذات لم تعد مرتبطة بكُتاب وأدباء ومؤلفين لهم وضع اعتباري في ثقافة الكتابة، إنما انفتحت مواقع التواصل الاجتماعي على سير الناس العاديين، والذوات القادمة من المجتمع، بآلامها وأحلامها، بطموحاتها وانكساراتها، وبمفهومها لحرية التعبير الذاتي، إضافة إلى ذلك، أصبحت السيرة مرتبطة- أكثر- بتوثيق اليومي والجزئي والبسيط، واقتسامه مع الآخرين، بل تحولت السيرة إلى شبه يوميات مُتحركة بتحرك صاحبها (صور، فيديوهات، مباشر) في سياقاته الاجتماعية واليومية، ومعه يتحرك المتفاعلون.
يعتبر كتاب «تحولات السيرة الذاتية وممارساتها الجماهيرية بعد ثورات الربيع العربي» مُنطلقا معرفيا، للتفكير بجدية، في دور الوسائط التكنولوجية، ومواقع التواصل الاجتماعي في حياة الأشكال التعبيرية، ودورها في تطوير هذه الأشكال من جهة، ثم أهمية هذه الوسائط في إتاحة الفرصة، أمام الفرد العربي، لكي يُعيد مُشاهدة ذاته، من خلال عرضها أمام الآخرين- المُتفاعلين، وإعادة كتابتها والتعبير عنها، أي إعادة اكتشاف الذات من جديد، وبطريقة مختلفة وجديدة، ما يُساهم في الاقتراب -أكثر- من شكل تفكير الفرد العربي في ذاته، إنه اقتراب مفاهيمي، أكثر منه، اقترابا لمجرى حياة عادية.
بالنظر النقدي إلى مختلف الأشكال السردية، خاصة الروائية التي تصدر منذ العقد الأخير من القرن العشرين، نلاحظ دخولا مُباشرا ملحوظا للمؤلف، باعتباره ذاتا ساردة ومسرودة في النص الروائي، يتم ذلك، إما بإعلان الاسم الواقعي للمؤلف، وتحويله إلى مكون نصي، وجعله عنصرا متخيلا، أو يرد من خلال إشارات وعلامات ذات علاقة بالمؤلف في السياق الواقعي، مثلما نجد في نصوص الكاتب المغربي محمد برادة، في نصوصه «لعبة النسيان» و»امرأة النسيان» وغيرهما، وفي أعمال عربية كثيرة، ما جعلنا أمام مجموعة من الأسئلة مثل: الهوية الأجناسية لهذه الأعمال، وطبيعة حضور المؤلف، هل هو حضور لسيرة حياة أم أفكار. بمعنى، هل تتحول الرواية إلى معبر للسيرة الذاتية؟ وهل يستثمر المؤلف التخييل الروائي، لتمرير سيرته الذاتية؟ تلك مجموعة من الأسئلة، التي يطرحها نظام هذه الأعمال السردية، مع إضافة أسئلة جديدة: إلى أي حد ستطور المواقع الاجتماعية وعلاقتها بالحكي الذاتي، هذا النوع من الأعمال الروائية؟ وهل ساهمت/ تُساهم الوسائط التكنولوجية، والمواقع الاجتماعية في تحرير السيرة الذاتية العربية، وتحرير الفرد العربي من مراقبة المجتمع، ورعب السياسة والرقيب الذاتي، الذي يحضر عائقا أمام البوح وحكي الذات؟ وهل يمكن انتظار ازدهار السيرة الذاتية باعتبارها جنسا أدبيا مكتفيا بذاته؟
لكن، عندما نتحدث عن علاقة السيرة الذاتية بمواقع التواصل الاجتماعي، لا يعني هذا أن كل ما يُنشر من حكي الذات، ينتمي إلى المنطق الأدبي وأن أصحابه ينطلقون من وعي الكتابة. قد نلتقي بنماذج تتحقق فيها نسبية الأدبية، خاصة مع الشذرات النصية، التي قد تشكل بداية لنص سيرذاتي، غير أن كتابة الذات، والتفاعل معها، من شأنه أن يُحرر التعبير في الحياة الواقعية، وهذا ما بتنا نلاحظه من حرية التعبير الاجتماعي والسياسي في كثير من السياقات العربية. لذلك، فإن علاقة الوسائط بالتعبير عن الذات، يعتبر موضوعا جديرا بالانتباه، وتحليل عناصره، وإذا كانت الباحثة أمل التميمي قد تناولت العلاقة من خلال الصفحات الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، ووقفت عند التحولات التي طرأت على الأدب الذاتي، فإن مشاريع بحثية أخرى، تستطيع أن تُطور النقاش حول هذه العلاقة، من خلال موضوع «تحليل الخطاب الذاتي في مواقع التواصل الاجتماعي». لا شك، أن مقاربة هذا الخطاب، ستمكننا من تصورات جديدة بواقع الفرد العربي، ووعيه بذاته.
٭ روائية وناقدة مغربية
زهور كرام