دولة اسمها «قناة الجزيرة»

هل حقا يمكن أن ترتعد فرائص دول من قناة تلفزيونية فضائية؟ أهي قناة تلفزيونية أم دولة؟ وكيف لنا أن نُصدّق بأن دولة مثل مصر يشعر جنرالها الأول بأن كرسيه بات مترنحا بفعل التغطية الإعلامية لقناة الجزيرة؟ كيف لنا أن نتخيل دولة مثل الإمارات العربية المتحدة صاحبة حضارة أعلى برج في العالم، أن تخاف من تأثير قناة؟ بل كيف يمكن لنا أن نحلم مجرد حلم بأن السعودية زعيمة الامتين العربية والاسلامية، وصاحبة أكبر احتياط وتصدير نفطي، يشعر صاحب القرار السياسي فيها بأنها تهُز عرشه؟
ومن زاوية أخرى دعونا نسأل أيهما الأكثر أهمية، أن نتمسك بمجلس التعاون الخليجي، الذي لم يستطع خلال ستة وثلاثين عاما من أن يوحّد العملة الخليجية، أو يوحّد السياسة الخارجية لدوله، أو يُنشئ سوقا مشتركة على غرار السوق الاوروبية المشتركة، أو يُصدر هوية موحدة وجواز سفر واحد لمواطنيه؟ أم أن نتمسك بقناة فضائية أخبارية ساهمت على مدى عقدين من الزمن، من إعادة تشكيل الوعي العربي، والقضاء على أمية الوعي السياسي، ورفعت الغطاء عن أنظمة زائفة؟
هذه وتلك هي أسئلة الشارع العربي اليوم، الذي بات مصدوما من شروط أربع دول عربية لرفع الحصار عن شعبنا العربي في قطر، التي كان أولها وأهمها في أجنداتهم هو إغلاق شبكة قناة الجزيرة، وكل القنوات الأخرى والمنصات الإعلامية الإلكترونية التي تسير على خطى الجزيرة. لكن العجب الذي يستولي على الرأي العام العربي من طبيعة هذه الشروط، سرعان ما يذوي ويذوب، حين نتمعن في قراءة الدور الذي مارسته دول الحصار على مدى عقود من الزمن، فلقد ساهمت بعملية التفكك الذي تعرض له الوعي العربي، وكانت لها اليد الطولى في تراجع منسوب الحصانة الوطنية بشكل مخيف، التي هي أحد أعمدة المشروع السياسي الامريكي في المنطقة، بل هي نفسها من ساهمت بأموالها وقواها الناعمة والصلبة في إقفال كل الملاذات الآمنة لاي خطاب وطني، ولاية محاولة لخلق وعي عربي، واجتهدت في ملاحقة كل ذلك، ودفعت كل جهة تولت هذا الموضوع إلى مرحلة التلاشي والانقراض.
لقد أعمت الاجندات السياسية لدول الحصار وبشكل متعمد بصر وبصيرة الكثير من نخبنا العربية، ومن عامة الناس كذلك، وصرفت اهتماماتهم عن الجوهري من القضايا العربية والإسلامية، وأفقدتهم مبررات وجود الهوية العربية والأمن القومي العربي، بفعل قوة الابهار المزيف في مشاريعها الإعلامية المستندة إلى التمويل الكبير والتخطيط المدعوم بإرادات أجنبية، حيث حاولت احتكار الرأي ومارست حصارا معلوماتيا مهولا ضد حرية الرأي، وضد كل فكرة خلاقة مبدعة لخلق ذاكرة جديدة ووعي وإدراك مسؤول، وكان الهدف من وراء كل ذلك خلق إنسان عربي جديد بذاكرة مثقوبة، تتساقط منها كل القضايا المصيرية بسرعة فائقة، وبقيم مغايرة بعيدة عن القيم الرمزية الموروثة التي يعتز بها كل شعب، وزاوية نظر منحرفة لا ترى القضايا بأبعادها الحقيقية، ولا تهتم بالاساسيات، إلى حد العمى في الرؤية والرؤيا، حتى تغوّل الخراب في الوعي العربي، ووصل إلى جوهر وهيكل البناء الداخلي للوطن العربي بفعل هذه الممارسات.
بينما حرصت قناة «الجزيرة» ومنذ انطلاقتها على صياغة سياسة جديدة في تحصين الوعي العربي بمرحلة أرقى من غيرها، فكان أن أخذتها هذه الاستراتيجية بعيدا عن التواجد داخل الاطر والممارسات والبرامج التي سجنت قنوات كثيرة نفسها فيها، حيث كانت واعية جدا لحقيقة، أن تبني الرأي الواحد سيجبرها عاجلا أم أجلا إلى الاصطفاف في طابور القنوات العربية الاخرى، التي تأكل من عقل الانسان العربي، ثم تنعزل رويدا رويدا حتى تصبح طرفا مراقبا وليس صانعا للوعي ومشاركا في الاحداث، لذا كان استثمارها في الوعي طريقا سهلا لها للولوج إلى كل بيت وحارة ومدينة، كما قادها هذا الاستثمار أيضا إلى التعرف عن كثب على المعلن والمستور مما يجري في مجتمعاتنا العربية، وساعدها على قراءة التفاعلات الدولية والاقليمية المتداخلة في مشهدنا العربي.
نعم لقد أحرجت قناة «الجزيرة» الاخرين، دولا وأنظمة ومشاريع سياسية وجهات نافذة في السلطة وما تحت السلطة، بسبب مهنيتها وتقنيتها وعلميتها، وأسس الاسناد الثقافي والحضاري لديها، الذي اعتمدته في إعادة تشكيل الوعي العربي، فكان من الطبيعي لهذا التيار أن يحدث شرخا كبيرا بين كل هذه الاطر النمطية البالية والجمهور العربي، لان خط سيرها كان مدفوعا بالخوف، ليس على البناء المادي لمجتمعاتنا العربية وللانسان فيها، بل على بنى هذا الانسان وقيم المجتمع ومسلماته الروحية، والومضة المعنوية التي يمثلها الوطن في الضمير العربي. وهذه صياغة جديدة لم يسبقها اليها أحد من قبل، حيث قوانينها الخاصة وخطوط مساراتها، التي بلغت مرحلة راقية تحلم أن تصل اليها أية قناة أخبارية. كما رفضت سياسة عكس الوعي والرأي المعطوب، والاستخدام المتكرر لأدوات التحليل السياسي نفسها التي ساهمت في خلق حالة التخدير للعقل العربي. كما راهنت على حيوية القيم التي لا يمكن أن تموت في شعب عريق، وآمنت بالعقل الذي لا يمكن أن تسجنه أية قوة كونية، كما يقول غاندي.
كذلك ركز مشروعها على الكفاح من أجل أن تبقى القيم النبيلة حية في النفوس، وأن تبقى الدماء النقية تغذي العقول، وأن تستمر مقاومة الهيمنة على مفاهيمنا وقيمنا، بالايمان العميق بأن المحطات المضيئة في تاريخنا أساسية وليست طارئة.
لقد كانت قناة «الجزيرة» تيارا جارفا في منطقة ضغط واطئ، جاء بكل شيء مختلف عما سبقها من قنوات وأحزاب وحركات وأنظمة سياسية، كلها كانت في حلف واحد، لخلق حالة التلقي السلبي وليس التفاعلي لدى الانسان العربي. وقد رفضت الصمت والوقوف في طابور الانتظار لمعرفة مواقف الاخرين مما يجري في وطننا العربي، وآمنت بأن القلة قادرة على التصدي بطاقة الامة، وأن تصديها لابد أن يرفع صوت الحق بفعل الارادة الجمعية، وإذا كانت وسائل الاعلام الاخرى في الوطن العربي أو الموجه له، قد استخدمت النمط الاستفزازي للعواطف والغرائز في إيصال رسائلها، فإن مشروع قناة الجزيرة كان قد استخدم النمط الابتكاري القائم على تفعيل القيم والمبادئ العليا في المجتمع، من خلال رفع وتيرة التحدي الشعبي إلى الحد الذي يجعلها تبدأ بإدراك ما تحتاجه لتحصل عليه. وعلى الرغم من أن هذه المهمة ليست يسيرة، لكن صانع القرار في هذه المحطة كان على إدراك تام من أن التحدي غير المتكافئ يحمل شحنة بناءة لاحياء النفوس والعقول، ويضع حدا للمظالم ويجعل الكرامة خبزا يوميا. فكان إنجازها التاريخي هو مشروعها الذي مثل ثقافة النظرة الفاحصة وسط عمى الكثير من البصائر، وكان كلمة حضارية ارتقت إلى مستوى التحدي في زمن انبطاح الاعلام لاصحاب المال السياسي، كما كانت عقلا مدببا لحماية الوعي العربي، فتحققت بهذا المشروع هزيمة كبرى لمنصات إعلامية ذيلية، ولمشاريع أنظمة كبرى في المنطقة راحت تطالب بإغلاقها شرطا لرفع الحصار عن قطر، وكأنها تواجه دولة وليست قناة تلفزيونية.
باحث سياسي عراقي

دولة اسمها «قناة الجزيرة»

د. مثنى عبدالله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود:

    ولا تحتقر كيد الضعيف فربما – تموت الأفاعي من سموم العقارب
    وقد هد قدمًا عرش بلقيس هدهد – وخرب حفر الفأر سدًّا لمأرب
    – للشاعر أبي محمد اليمني الملقب بنجم الدين –
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول Someone:

    ALJAZEERA AND ALQUDS ARE THE ONLY FREE PRESS IN THE ARAB WORLD

  3. يقول منى-الجزيرك:

    انها الصورة استاذي مثنى عبدالله ؛الصورة التي هزت عروشهم ونغصّت عليهم رقادهم وايقضت الشعوب وحرّكت مواطن الوعي والنقد والتفكير في عقول الشعوب العربية….
    الجزيرة صنعت الفرق واثبتت مهنية وحرفية جعلت كبرايات المؤسسات الاعلامية تسعى للحاق بها..
    لكن في بيئة تراكم عليها الصدء تكون معركة الجزيرة مع الجوار البائس معركة حياة او موت..
    اتمنى ان لانحرم من هذا الصرح الاعلامي وان لانفيق يوما على اختفاء الجزيرة من الفضاء الاعلامي …
    اشكرك استاذنا مثنى..
    تحياتي….

  4. يقول Faroug:

    لست من عشاق الجزيره ولكنني ارفض طلب اغلاقها واعتبره لا اخلاقيا, هذا لا يعني بأن اقدس هذه القناه التي فقدت مع الزمن كثيرا من مصداقيتها واهم هذه الظاهره هي انخراط صحفيها اثناء البرامج كطرف في النزاعات ونسيان ادوارهم التي يجب ان تكون على الاقل حياديه في البرنامج. ويجب الا ننسى مواقف بعضهم المخزيه امام المدعوين الصهاينة.

  5. يقول .الحرحشي _المفرق -الاردن:

    الجزيرة ابداع فلتكن قطر ابداع لا فشل وهذا هو سمة النظام العربي

  6. يقول S.S.Abdullah:

    عنوان رائع، لأنّه من وجهة نظري لخص إشكالية المثقف والسياسي في دولة الحداثة، يجب أن يكون كل شيء محدد بحدود سايكس وبيكو حتى لو كانت قناة فضائية بلا قائد رمز؟!، لقد تبين لي أن ثقافة الـ أنا التي تقول لك حب نفسك أولا، حتى تستطيع حب الـ آخر، لا تعرف معنى الحب، لماذا؟ الحب = ثقافة الـ نحن = الأسرة، أي بدون أن تكون الأسرة أولا لن يكون هناك حب من الأساس، ومن لم يكن لديه خبرة له علاقة بالأسرة بالتأكيد سيجهل ذلك، فكيف لو كان لقيط أو ابن شوارع، كيف تتوقع منه أنّه سيفهم ما معنى الأسرة والحب؟ فالحب خارج إطار الأسرة، يختلف تماما عن الحب داخل إطار الأسرة، وتختصر الاختلاف كلمة المسؤولية من الـ أنا تجاه الـ آخر، بداية من المسؤولية الاقتصادية، فبدون اقتصاد لا يمكن بناء الأسرة أو الشركة أو الدولة، السؤال إذن لماذا تم تأسيس وزارة السعادة في دولة الإمارات العربية المتحدة عام 2016؟ أنا من وجهى نظري سبب هروب السعادة من دولة الإمارات العربية المتحدة، هو مفهوم المساواة الذي تكلم عنه الشيخ محمد بن زايد، لأن مفهوم الوظيفة داخل الأسرة، تختلف عن مفهوم الوظيفة داخل الشركة/الدولة، ولا يمكن إبدال الإنسان بالآلة، لا في الأسرة، ولا في الشركة/الدولة، ومن يظن ذلك سيكون هو سبب الإفلاس في كل المجالات في أجواء العولمة واقتصادها الإليكتروني، نحن لدينا حل، من خلال ابدال اقتصاد الفرد(رأسمالي/شيوعي أو مختلط مثل الصين) باقتصاد الأسرة (مشروع صالح التايواني)، الكثير لم ينتبه إلى أن لا مكان للغش وشهادة الزور في أجواء العولمة واقتصادها الإليكتروني، لأن بدون الشفافية واللامركزية لا يمكن إدارة أو حوكمة أي شيء خارج حدود الدولة، ومن هنا تظهر أهمية غرامة الاتحاد الأوربي ضد شركة غوغل أو مايكروسوفت وغيرها من عمالقة التقنية في أجواء العولمة واقتصادها الإليكتروني، لضمان حصول الإنسان في كل مكان على حقوقه، دون غش وشهادة زور لحساب فلان أو علان من أصحاب السلطة، كما يحصل على أرض الواقع في عقود دولة الحداثة، ومن هذه الزاوية تفهم سبب تكرار التشكيك في كيفية حصول قطر على حق إدارة دورة لعبة كرة القدم عام 2022، وأخيرا من خلال التسريبات الألمانية التي تلقفتها وسائل الإعلام الفرنسية والروسية التي سبحان الله تصادفت في نفس توقيت الحصار عليها في 5/6/2017 ولن استبعد أن يكون تمويل ذلك كان بأموال إسلامية أو عربية بل وحتى خليجية مع الأسف.

  7. يقول سعادة فلسطين الصين:

    ماذا عن تيارات الفكر العربي الاخرى مثل الليبيراليين او اليساريين ، لا اعتقد ان الاستاذ مثنى من المواظبين على مشاهدة قناة الجزيرة ، لم يكن ليكتب مثل هذا المقالة لو كان كذلك . مسألة الوعي لأي أمه لتاريخها وحاضرها اكثر تعقيدا وإشكالية من مجرد قناة فضائية تسعى في النهاية الى الحصول على اكبر قدر من المشاهدة والشهرة والتي هي بالذات هدف الممول الثري ، الشهرة والشعور بالأهمية ولو على حساب اعطاء الجنسية وأسماء عربية للاعبين افارقة لا يتحدثوا العربية وليسوا عرباً أصلا . كان المرحوم المفكر الجزائري الكبير والخطير محمد اركون تعرض الى قلة أدب ونقاش هابط من أحد مشايخ الأزهر من على قناة الجزيرة مرة ، قلت حينها لا علاقة كبيرة بين القناة والوعي العربي ، كل ما في الامر براعة وكفاءة مقارنة بالقنوات الاخرى لارضاء أحاسيس الشعور بالأهمية المفترضة للممول ، خاصة وان المقابل المادي سخي !

إشترك في قائمتنا البريدية