زواج الهند وإسرائيل: اقتصاد بطعم التعصب القومي

حجم الخط
3

 

على نقيض ما رسخ في الأذهان، بصفة عامة، استناداً إلى معظم التقارير الإخبارية التي غطت الحدث؛ لم تكن هذه أوّل زيارة يقوم بها نارندرا مودي، زعيم «حزب الشعب» الهندي إلى إسرائيل، إذْ سبق له أن زارها في سنة 2006، بصفته الحزبية هذه. الصحيح، في المقابل، أنه أوّل رئيس وزراء هندي يهبط في مطار بن غوريون بهذه الصفة الرسمية الحكومية، وذلك منذ إنشاء دولة إسرائيل. والصحيح، استطراداً، أنّ للزيارة من الأبعاد الاقتصادية والعسكرية أكثر بكثير مما لها في البعد السياسي؛ خاصة وأنّ ملفات التجارة والتسلّح ليست، البتة، جديدة على العلاقات الهندية ـ الإسرائيلية، بل يجوز القول إنها المدماك الأكبر في تراث التبادل بين نيودلهي وتل أبيب.
المعطيات الإحصائية تشير إلى حجم تبادل بين البلدين بلغ 4.13 مليار دولار أمريكي، خلال السنة الماضية، وإسرائيل تتطلع أن تسفر زيارة مودي عن زيادة في صادراتها إلى الهند، لا تقلّ عن 25%؛ خاصة في ميادين الأجهزة الطبية والتكنولوجيا العالية وأنظمة المياه. أمّا السلاح، فإنّ جنرالات الهند لا يخفون إعجابهم الشديد بصناعة السلاح الإسرائيلية، ويلحون على تنشيط تعاون في هذا المضمار يتواصل فعلياً منذ ستينيات القرن الماضي؛ وترسّخ مع تفكك الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي، كما يترسخ أكثر فأكثر مع ازدياد التنافس، العلني أو المضمَر، بين الهند والصين. واليوم تُعتبر إسرائيل ثالث بلد، بعد الولايات المتحدة وروسيا، في تصدير السلاح إلى الهند؛ وفي نيسان (أبريل) الماضي، حصدت شركة رافايل للتصنيع العسكري الجوي على عقد بقيمة 2 مليار دولار أمريكي، وعُدّ الأكبر في تاريخ الصناعة الحربية الإسرائيلية.
لكنّ بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، شاء أن يسبغ على زيارة مودي صفات أخرى، سياسية وثقافية وإيديولوجية، بل «عاطفية» أيضاً (قال إنّ الزيارة «زواج عُقد في السماء، ونتممه هنا على الأرض»، بين «ديمقراطيتين شقيقتين»). ولعله استغلّ حقيقة إحجام مودي عن زيارة رام الله، والاجتماع مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، جرياً على عادة غالبية زعماء العالم عند زيارة إسرائيل. والأرجح أنّ نتنياهو كان يفكّر في زيارة عباس الأخيرة إلى الهند، في أيار (مايو) الماضي، حيث لم يكن استقباله حافلاً كالمعتاد، أو كما استقبلته من قبل حكومات هندية أخرى. ولعله استذكر، أيضاً، حقيقة أنّ البيان المشترك الذي أعقب زيارة عباس شدّد على حلّ الدولتين، ولكنه لم يأت على ذكر القدس الشرقية بوصفها عاصمة فلسطين.
والحال أنّ فوز «حزب الشعب» الهندي في الانتخابات التشريعية الأخيرة، وصعود نجم مودي زعيم الجناح المتشدد، وصديق إسرائيل التاريخي، كان قد جدد المخاوف القديمة حول العلاقات الهندية ـ الإسرائيلية؛ التي تكفّلت سياسات «حزب المؤتمر»، وزعامة جواهر لال نهرو شخصياً، فضلاً عن ضغوطات جالية مسلمة في الهند تبلغ 180 مليون نسمة، بإبقائها في حال متقدمة من التعاطف مع القضية الفلسطينية. الأمور تبدلت، وكان منتظراً أن تتبدل في الواقع، لأنّ «حزب الشعب» الهندوسي لم يعزز نزعاته القومية مؤخراً، فحسب؛ بل توطد في صفوفه، وفي الهرم من قيادته العليا، تيار متطرف معاد للإسلام والمسلمين، وقريب إيديولوجياً من العقيدة الصهيونية.
لكنّ العلاقات الهندية ـ الإسرائيلية ليست مسألة طارئة، كما يتوجب التذكير، بل تعود إلى عقود طويلة، وتشمل ميادين السياسة والاقتصاد والأمن والتسليح، فضلاً عن السياحة والثقافة والتعاون التكنولوجي، كما سلف القول. ففي عام 1962، غداة اشتعال الحرب الهندية ـ الصينية، كان نهرو قد طلب مساعدة دافيد بن غوريون، رئيس وزراء إسرائيل، للحصول على أسلحة متطورة. وبعد ثلاث سنوات، عند اندلاع الحرب الهندية ـ الباكستانية، قدّمت إسرائيل شحنات ضخمة من الأسلحة إلى الهند (غنيّ عن القول إنّ الهند ردّت الهدية إلى إسرائيل في عام 1967، أثناء حرب الأيام الستة!). هي علاقات قامت على المصالح المتبادلة إذن، منذ البدء، في العام 1950، حين اعترفت الهند بدولة إسرائيل؛ مروراً بالعام 1991، حين أقيمت علاقات دبلوماسية بين البلدين، والزيارة النوعية التي قام بها شمعون بيريس بعد سنة (حين شهدت العلاقات قفزة نوعية في التعاون الاقتصادي والتكنولوجي تحديداً)
غير أنّ على المرء، والمراقب العربي بصفة خاصة، أن يتذكّر أربع حقائق أساسية، ضمن معطيات أخرى أقلّ شأناً، بصدد العلاقات الهندية ـ الإسرائيلية. الحقيقة الأولى تقول إنّ الهند كانت على الدوام، وهي ما تزال اليوم أيضاً، رغم متغيرات حكومة مودي، صديقة القضية الفلسطينية. وثمة سجلّ حافل يقول إنّ الهند صوّتت إلى جانب الفلسطينيين (وبالتالي ضدّ إسرائيل) في عشرات القرارات التي تخصّ حقوق الفلسطينيين بصفة شاملة، وانتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان.
الحقيقة الثانية تشير إلى أنّ معظم النقلات الكبرى في تطوّر وتطوير العلاقات الهندية ـ الإسرائيلية تمّت خلال فترات حكم «حزب المؤتمر»، وحين كان كبار رجالاته في سدّة الحكم (نهرو وأنديرا وراجيف غاندي)؛ وليس، فقط، في فترات حكم الأحزاب ذات التوجّه القومي الهندوسي. في عبارة أخرى، وعلى النقيض ممّا يزعم الكثير من المعلّقين العرب، ليس ثمة معنى في التركيز على العداء الهندوسي للإسلام، لاستقراء معدلات الدفء أو البرودة بين نيو دلهي وتل أبيب. ومن الخير، في هذا المثال كما في سواه بالطبع، التركيز على طبيعة المصالح المشتركة التي تكيّف سياسات الدول وتتحكم بخياراتها في المشهد العريض والتاريخي ـ التقليدي للعلاقات الدولية.
الحقيقة الثالثة تخصّ الترجيحات حول محور ثلاثي، أمريكي ـ إسرائيلي ـ هندي، تُلقى على عاتق أطرافه مهامّ كبرى؛ مثل تطويق القوس الإسلامي القديم الشهير، والذي يشمل إسلام جنوبي آسيا والباكستان وإيران، فضلاً عن تطويق الهند وضبط الحركات الأصولية. والحال أنّ تأسيس أي حلف جديد يفترض وجود حلف موازٍ خصم له، من جهة؛ ويفترض، من جهة أخرى، تمتّع الخصوم بقوّة كافية وتكاتف عالٍ، وهذا ما لا يتوفر اليوم، ولا في أي يوم قريب!
الحقيقة الرابعة هي أنّ الهند ديمقراطية راسخة، باتت عميقة الجذور في الحياة السياسية اليومية، خاصة من حيث التبادل السلمي للسلطة على مستوى الأحزاب. وهذا يعني أنّ علاقات نيودلهي مع العالم لا تحكمها مصالح الهند الحيوية وأمنها القومي أولاً، فحسب؛ بل تتحكم بها، أيضاً، الجهة السياسية التي تتولى الحكم، وكيف تقيس ميزان السياسات الخارجية، وما المعايير المعتمدة في ذلك القياس. وما يُفرح نتنياهو اليوم في «زواج السماء» مع مودي، قد يحزنه في أيّ سياق مقبل يشهد أفول نجم «حزب الشعب» لصالح تحالفات حزبية أقلّ حماساً ـ سياسياً، على الأقلّ ـ للذهاب أبعد في العلاقات الهندية ـ الإسرائيلية.
ملفّ الإرهاب لم يكن غائباً، بالطبع، وحضر من قبيل ذرّ الرماد في العيون، أوّلاً: «لقد عانت الهند مما ينشره الإرهاب من عنف وكراهية، مثلما عانت إسرائيل»، قال مودي؛ مشدداً على أنّ التعاون الهندي ـ الإسرائيلي سوف يشمل، أيضاً، «مكافحة التجذّر الديني المتزايد». غير أنّ جوهر هذه «الزيارة التاريخية» انطلق من حاجة الهند إلى تطوير حجم التبادل التجاري والتكنولوجي والعسكري مع إسرائيل؛ وتلك مصلحة قومية حيوية، خاصة إذا استذكر المرء عشرات العقود، الكبرى والصغرى، التي وقعتها الهند مع قطاعات شتى في إسرائيل. اقتصاد، إذن، حتى إذا كان بطعم التعصب القومي، الهندوسي والصهيوني لمَنْ يشاء. وأمّا «زواج السماء»، فهو رَهْن بمخيّلة نتنياهو، ولسانه الذرب!

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

زواج الهند وإسرائيل: اقتصاد بطعم التعصب القومي

صبحي حديدي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول حسين/لندن:

    ((الأمور تبدلت، وكان منتظراً أن تتبدل في الواقع، لأنّ «حزب الشعب» الهندوسي لم يعزز نزعاته القومية مؤخراً، فحسب؛ بل توطد في صفوفه، وفي الهرم من قيادته العليا، تيار متطرف معاد للإسلام والمسلمين، وقريب إيديولوجياً من العقيدة الصهيونية.)ا ه
    أعتقد أن تنامي ظاهره (الإسلاموفوبيا) مرتبطه بوصول حزب الشعب للحكم،،نقرأ بشكل شبه يومي بالاعتداءات ألدمويه التي يتعرض لها المسلمون وتحت ذرائع متخلفه (أكل لحم البق رمثلا) وبشكل متصاعد،،
    أما بالنسبه لقولك أستاذ صبحي (( ليس ثمة معنى في التركيز على العداء الهندوسي للإسلام، ))ا ه ،، بل أعتقد أن هناك ثمه معنى،،
    هذا العداء له قاعده راسخه، إذا كانت اسرائيل صديق (حقيقي) حسب مودي فعدو صديقه عدوه أي (الإسلام والمسلمين)،،،لذلك عندما نقول بائن (مله الكفر واحده)،،،لا يشترط أصلا أن يكون الطرفان على قلب رجل واحد، أو حتى من جنسيه أو ديانه واحده، ويكفي وحده الهدف وما يجمعهم من عداء للإسلام والمسلمين.
    فائق الاحترام

    1. يقول تونسي ابن الجمهورية:

      @حسن : أنت تعتبرهم ملة كفر !!!… المسلمين فى الهند لهم حقوق أكثر من المسلمين فى دول إسلامية…على الأقل الهند دولة ديمقراطية و ليست ديكتاتورية دينية تعيسة مثلما نشاهد فى العديد من الدول المسلمة …عندما نحترم الديانات الأخرى فهم حتما سيحترموننا…البعض يعتبر نفسه انه هنا لاسلمة العالم و أنه يمتلك الحقيقة المطلقة …تحيا تونس تحيا الجمهورية

  2. يقول تونسي ابن الجمهورية:

    الى الهند در …السيد مودى منتخب ديمقراطيا …ويعمل لمصلحة الشعب الهندى …اين المشكل ؟…تحيا تونس تحيا الجمهورية

إشترك في قائمتنا البريدية