تنظيم «الدولة» يعود إلى جذور التمرد والمقاومة وعوّض خسائره بالتمدد عالميا وبخلافة «افتراضية»

حجم الخط
0

لندن – «القدس العربي»: قبل ثلاثة أعوام ويزيد صعد رجل يلبس عباءة سوداء على منبر جامع تاريخي في مدينة الموصل، اسم الرجل أبو بكر البغدادي والجامع هو النوري الذي بناه القائد المسلم نور الدين زنكي قبل 900 عام. وبعد ثلاثة أيام أصبح أبو بكر البغدادي هارباً أو قتيلاً أو مفقوداً لا يعرف مصيره. أما الخلافة التي أعلنها فتحولت أنقاضاً والفاتحون الجدد هم الجنود أنفسهم الذين حاول البغدادي تخليص المدينة من «شرورهم». وهم اليوم يحتفلون على بقايا الجامع الذي كان رمزاً للخلافة وتحدث للعالم منه. فقد كان إعلان «الخلافة» نقطة مهمة في تاريخ التنظيم الذي صعد سريعاً واجتاح ولدهشة المراقبين والساحة معظم شرقي سوريا وشمالها وامتد في شمال العراق من الحدود السورية إلى الإيرانية وهدد إقليم كردستان واحتل أكبر سد في الشرق الأوسط لتوليد الطاقة الكهربائية «سد الموصل».
هذا تاريخ كله تاريخ. لكن البغدادي استطاع بخطبته الشهيرة أن يعبئ الكثير من الشباب في العالم الإسلامي خاصة المحبطين منهم والمهمشين. وهم من شكل عصب حكمه وقواته ومن بقي من يقاتل حتى اللحظة الأخيرة في الموصل وفي الرقة التي تقوم قوات تدعمها الولايات المتحدة بالقتال فيها.

ليست النهاية

ولكن خسارة التنظيم عاصمتيه لا تعني حسب المراقبين نهايته حسب المحللين. فقد عاد إلى جذوره الأولى قبل أن يتحول إلى قوة تحكم مناطق وتدير ملايين السكان. ولم تعد مشكلته حسب صحيفة «نيويورك تايمز» محصورة بسوريا والعراق بل أصبحت الخلافة حركة تمرد ذات بعد عالمي وآيديولوجية تلهم الكثيرين حول العالم. ويرى الخبير حسن حسن من مركز التحرير في واشنطن أن خسارة التنظيم مناطقه يعتبر «بالتأكيد ضربة لمشروع بناء الدولة فلم تعد الخلافة موجودة وستقلص الدعم والتجنيد» إلا أن «تنظيم الدولة يعتبر اليوم منظمة دولية ويحتفظ بقدراته على النمو». وتفوق تنظيم الدولة (داعش) على الجماعات الأخرى مثل القاعدة.
وسمحت تجربة التنظيم في بناء إدارة المدن والمؤسسات أن يبني له مصداقية في العالم الجهادي بحيث تفوق على التنظيمات التي خرج من تحت عباءتها. ومع بدء تراجع سيطرته على المناطق فإن كادرها من الفنيين والدعائيين والناشطين سيستثمرون في تجربة الجماعة ويطبقونها على العمليات في المستقبل. ورغم خسارته الموصل التي تعد ثاني أكبر تجمع سكاني في العراق وكان عدد سكانها يصل إلى مليوني نسمة قبل سيطرته عليها إلا أنه لا يزال يحتفظ بمناطق نفوذ في الحويجة وتلعفر ومناطق أخرى في الأنـبار.
أما في سوريا فتقلص وجوده في الرقة التي تتعرض لهجوم الآن ولا يزال يقاتل في مدينة دير الزور التي يسيطرعلى معظمها. ومثل الموصل يتوقع المراقبون أن تكون المعركة الحاسمة في وادي الفرات. وهناك الكثير من قادة التنظيم الذين كانوا في الرقة ممن انتقلوا إلى بلدة الميادين التي تبعد 110 أميال عن جنوب – شرق الرقة. ويقول المسؤولون الأمريكيون إن قادة التنظيم أخذوا معهم أحسن الخبرات والمسؤولين عن التجنيد والتمويل. وتم نقل بعض القادة من الرقة إلى البلدات التي لا تزال تحت سيطرتهم وتمتد من دير الزور إلى البوكمال. وتقوم قوات العمليات الخاصة الأمريكية باستهداف هذه المناطق إلا أن الحرب على ما يطلق عليها عاصمة الخلافة قد تستمر لأشهر. وتقول الصحيفة إن العملية على الرقة والموصل كانت نهاية لفصل وبداية آخر في تاريخ الجماعة التي تعود بجذورها إلى الغزو الأمريكي للعراق عام 2003.
وقاتل عناصرها تحت أكثر من راية ضد القوات الأمريكية أولاً ومن ثم ضد القوات العراقية والجماعات الشيعية قبل أن يبدأوا بالعمل تحت الأرض حتى عام 2011 وهو تاريخ انسحاب القوات الأمريكية من العراق. ولكن الحرب الأهلية السورية عام 2011 قدمت للتنظيم فرصاً عدة وقام الفرع العراقي بإرسال الناشطين التابعين له من أجل بناء قواعد جديدة له بما في ذلك الرقة التي أصبحت عاصمة التنظيم الإدارية. ومن هنا حول التنظيم نظره نحو العراق حيث انطلق منها عام2014 لاحتلال الموصل. وأكد البغدادي على أهمية الفرق بين جماعته والقاعدة حيث خاض نقاشاً أيديولوجياً مع زعيمها الدكتور أيمن الظواهري. فبحسب رؤية البغدادي فإن جنود تنظيم «الدولة» ليسوا متمردين/محاربين بقدر ما هم بناة للدولة التي أطلق عليها اسم الخلافة.
ويقول المسؤولون الأمريكيون إن حرب السنوات الثلاث التي شنت عليه أدت لمقتل حوالي 60 ألف مقاتل بمن فيهم قادة بارزون وكوادر من صف الوسط. إلا أن المسؤولين بمن فيهم أحد كبار قادة القوات الخاصة الجنرال مايكل ناغاتا يعترفون بأن التنظيم احتفظ بقدرات جذب وتجنيد وتخطيط لعمليات آتية. وقال الجنرال ناغاتا إن الضرر الذي أصاب التنظيم لم يجرده من قدراته والتي شاهدنا بعضاً منها في الهجمات الدولية التي شنها في الآونة الأخيرة. واستطاع التنظيم شن حوالي 1.500 عملية في 16 مدينة في سوريا والعراق بعدما تم تحريرها من سلطته حسب دراسة نشرتها أكاديمية ويست بوينت العريقة.

فروع جديدة

واستطاع التنظيم تخفيف خسائره وتعويضها في كل من سوريا والعراق من خلال إنشاء مراكز دعم له في الخارج من ليبيا ومصر ونيجيريا واليمن وأفغانستان والفيليبين. ويقال إن هناك ما بين 250-300 من الناشطين وصلوا تهريباً إلى أوروبا وهم جاهزون للقيام بعمليات إرهابية في مدنها. وهم ليسوا السبب الوحيد الذي لا يزال يثير مخاوف الأوروبيين بل الأيديولوجية التي لا تزال تلهم الشباب المحروم في التجمعات المسلمة حول أوروبا. وفي دراسة أجراها مركز التطرف بجامعة جورج واشنطن ومركز مواجهة التطرف قام بتحليل 51 هجوما في أوروبا وشمال أمريكا من حزيران (يونيو) 2014 إلى حزيران (يونيو) 2017 فإن نسبة 18% من المهاجمين كانت لهم علاقة أو قاتلوا في كل من العراق وسوريا، فمعظم هؤلاء اختاروا القيام بها من عند أنفسهم.

من يبني؟

وركزت الولايات المتحدة ودول التحالف معها على قتال تنظيم «الدولة» وهزيمته لكنها لم تهتم كثيرا بالمجتمعات التي تأثرت بحكمهم في كل من العراق وسوريا. بل على العكس هناك القليل مما تم عمله لمساعدة المجتمعات المدمرة بل وعلى العكس فاحتمالات بداية حروب جديدة لا تزال قائمة. فقوات سوريا الديمقراطية التي صعدت على الساحة بدعم من الولايات المتحدة تظل في مركز النزاعات المقبلة خاصة أنها تلقت الدعم الأمريكي على حساب القوى المحلية ورغماً عن المعارضة التركية التي ترى في المكون الأساسي فيها وهي قوات حماية الشعب الكردية التي تعتبرها أنقرة فرعا لحزب العمال الكردستاني، «بي كا كا».
ولم تظهر الولايات المتحدة أي اهتمام بإجراءات البناء لأنها تعتبرها جزءًا من بناء الدول التي ترى أن أمريكا فشلت فيها وتحاول إدارة دونالد ترامب تجنبها وتحقيق النصر بأقل الخسائر المادية والبشرية. وبحسب المحلل نوح بونسي، من جماعة الأزمات الدولية في بروكسل «هناك توتر في المدخل الأمريكي، فمن أجل تجنب التزامات بناء الأمم على الواحد أيضاً أن يمنع إمكانية عودة الجهاديين في المسـتقبل».
وفي العراق فالساحة جاهزة لحرب مقبلة بين الأكراد والحكومة العراقية حول الاستفتاء وتقرير مصير الأكراد وكذا مدينة كركوك النفطية. وأدى القتال ضد التنظيم لنشوء قطاع من الميليشيات الشيعية التي دعمتها إيران وهي الآن في قلب المناطق السنية وقد تجد نفسها أمام خيار البحث عن مستقبل سياسي وحرب مع الدولة في مرحلة ما بعد تنظيم «الدولة». كما ستتحول لعنصر حنق للمجتمعات السنية التي تراها جماعات تحتل مناطقها.
كل هذا سيظل وصفة للحروب المقبلة في ظل استمرار الطائفية والفساد وسوء الحكم. ويرى حسن أبو هنية الباحث الأردني في شؤون الجماعات الجهادية «كل هذا يشكل الظروف المناسبة للجماعة» كي تعيد ترتيب نفسها. كما لم يتم التخلص من التنظيم على العالم الافتراضي وتظل موادها المشفرة والمتوفرة على مواقع التواصل الاجتماعي مادة دعائية مهمة للشباب الباحث عن بديل لحياته المملة التي يعيشها. ومن هنا يتعامل التنظيم مع خسائره المناطقية كنكسات مؤقتة يمكن تجاوزها بل وحضر نفسه لها منذ وقت طويل. وأكد عليها المتحدث الرسمي باسم التنظيم الذي قتل في آب (أغسطس) أبو محمد العدناني. وقد يعلن ترامب أو الجيش العراقي عن نهاية التنظيم وهزيمته لكن سكان المدن التي خرج منها سينتظرون العودة إن سمح لهم المحررون بالعودة ويخشون من الذين حلوا محل الجهاديين. فالمعركة مستمرة.

سالي جونز

وجرى في سياق الحديث عن تنظيم «الدولة» عن الجهاديين الأجانب الذين شكلوا عصب قواته الضاربة سواء كانوا من الشيشان أو تونس، السعودية، فرنسا وبريطانيا. ولم يجدوا كما في حالة الموصل أي خيار سوى القتال حتى النفس الأخير. فهم لم يستطيعوا الهروب بسبب الحصار ولم يكن لديهم خيار البقاء نظراً لعدم تقبل المجتمعات المحلية لهم ولا الرحيل مع قوافل اللاجئين لسهولة التعرف عليهم. وفي هذا السياق هناك مئات من النساء اللاتي انجذبن لحلم الخلافة من أوروبا ومنهن «الأرملة البيضاء» أو سالي جونز. فربما أجبرهن الحصار والكثير من الجهاديات للهرب أو محاولة العودة إلى بلادهن. وذكرت تقارير أمنية في الآونة الأخيرة أن الكثير من الجهاديين والجهاديات قد اتصلوا مع سفارات وقنصليات بلادهم في محاولة للعودة. وتشير «صاندي تايمز» إلى أن الحياة في عاصمة الخلافة تحولت إلى «جهنم».
وفر العديد من السكان إلى عين عيسى التي تبعد 30 ميلاً عن المدينة. وتقول إن هناك ما يقرب من 10 آلاف لاجئ فروا منها ومن بينهم نساء لرجال التنظيم. ويقول أحد سكان المخيم «لقد استبدلنا جهنم بجهنم» حيث يعيش السكان حالة من التعب وغياب المواد الأساسية. وتقول الصحيفة إن من بين الفارات من «جهنم» الرقة صديقة للمرأة المطلوبة وهي أم حسين البريطانية، سالي جونز التي اعتنقت الإسلام بعد حياة في فرقة بوب موسيقية وأحيانا ما يشار إليها «جهادية البانك روك».
وتتذكر صديقتها عيني سالي الخضراوين وشعرها الأشقر «»أنا معجبة بها، حقيقة. المسلمون القادمون من الخارج ليسوا مثلنا، فمن يعتنق الإسلام يتمسك به بشدة ولا يتركه. ولأنها مسلمة جاءت إلى هنا ولن تغادر». وتضيف «أخبرتني أنها ستظل هنا حتى الموت». وتقول الصحيفة أن عائشة صديقة سالي كانت مدرسة لغة إنكليزية في دمشق قبل أن تنتقل إلى الرقة وتتزوج من أبو عمر المغربي الذي تعتقد المخابرات الكردية أنه لعب دوراً في القيـادة المركزية للتـنظيم. وتنقل الصحافية عن عائشة كيف شاهدت مقتل رجل عراقي اتهم بالتهريب «لقد شاهدتهم وهم يقطعون رأس الرجل». وتقول إن المشهد كان عادياً حيث تعودت على مشاهدة هذه الأمور في الأفلام. والتقت عائشة بسالي وزوجها البريطاني جنيد حسين. و «قالت لي إنهما لم يستطيعا ممارسة شعائر دينهما في بريطانيا». و «في كل مرة كانت ترتدي فيه جلبابها كانت تشعر بالخوف وأن شخصا ما يريد قتلها، ولهذا عندما علما عن دولة إسلامية جاءا إلى هنا».
وقتل حسين في غارة جوية أمريكية عام 2015. وتلاحق البنتاغون سالي ووضعتها على قائمة المطلوبين. وهي مسؤولة مثلما كان زوجها، فهي تترأس كتيبة أنور العولقي التي تقوم بتدريب وتثقيف المتطوعات الأوروبيات. وفي أيار (مايو) نشرت تهديداً وطالبت فيه النساء الأوروبيات لشن هجمات في غلاسجو ولندن وويلز أثناء رمضان. وتؤكد عائشة أن سالي جونز هربت من الرقة إلى الميادين، وهي معقل من معاقل التنظيم على الحدود السورية – العراقية « لقد فرت إلى الميادين» و»لكنها قالت لي إنها ستبقى حتى الموت، ولا تريد أن تذهب إلى أي مكان».
ويعتقد أن سالي أخذت معها ابنها جوجو والذي ظهر في عدد من أشرطة الفيديو الدعائية للتنظيم. وكان وجوده إلى جانبها كسلاح حماية ضد الغارات الأمريكية. ولاتزال عائشة وفية لصديقتها الإنكليزية، ويقبع زوجها المغربي في السجون الكردية. ولكنها ترى في الخلافة «كذبة» وتعلق قائلة إن «فكرة إقامة خلافة في بلد مثل سوريا جنون وأريد نصيحة الناس حول العالم أن لا يأتوا إلى هنا، فهي ليست إسلاماً بل كذبة». وعلى بعد ساعتين حول القصف الأمريكي معظم مباني المدينة إلى أنقاض وتركت الجثث لتحلل تحت أشعة الشمس الحارقة. ويحاول الطرفان البحث عن ظل من الشمس أثناء المواجهات فيما لم تتوقف الطائرات عن التحليق فوق المدينة التي تحاصرها القوات المدعومة من الأمريكيين. ويقول راشو، المقاتل الكردي «سننهي داعش هنا». وزعم قائلاً «نقاتل لتحرير الرقة من أجل أولادي وزوجتي وكل سوريا. ولكن قيادية في وحدة النساء بقوات حماية الشعب، نسرين عبدالله كانت أقل حماساً «سنحتاج إلى شهر وندفع ثمناً باهظاً.
ولن يحل سقوط الرقة أزمة سوريا بل سيعمقها». ولن تنهي بالضرورة مشكلة تنظيم الدولة. وفي الوقت الذي يتلاشى فيه حلم بناء إمبراطورية في كل أنحاء العالم الإسلامي ستظل آيديولوجيته مغموسة بالسم وخلافته ستبقى «افتراضية» وتستمر.

تنظيم «الدولة» يعود إلى جذور التمرد والمقاومة وعوّض خسائره بالتمدد عالميا وبخلافة «افتراضية»
ممزق ومحاصر بدون عاصمتيه… و«الأرملة البيضاء» فرّت إلى الميادين وتصر على القتال حتى الموت
إبراهيم درويش

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية