ليس كل الروس جواسيس في بدلات فارهة يقتلون المنشقين عنهم بالبلوتونيوم، كما أنهم ليسوا كلهم بلطجيّة على أبواب البارات. لكن تلك هي الصور المعلبة التي تتردد على أغلب الشاشات الغربيّة جاعلةً مسارات لا وعينا كلها تذهب في اتجاه تجريم الروسي.
بعضُ الشعوب تَعلَق فعلاً بأوصاف تعميميّة بشأنها حتى تتحول نوعاً من قدر محتّم يفرض هوية متخيّلة على أبنائها بغض النظر عن الفروقات الفرديّة الأكيدة، ومن دون كبير تفهم للظروف الاجتماعيّة والاقتصاديّة والتاريخيّة التي يمكن أن تكون تآمرت مرحليّاً في مكان ما وزمان ما لتكوين تلك الصورة – سلبيّة كانت أم ايجابيّة.
ولعل أدوات الثقافة الشعبيّة أهم المساهمين في تكريس مثل هذه الأوصاف التعميميّة على أوسع النطاقات ونقلها بين الأجيال، لا سيّما الشاشات – على أنواعها – تلفزيون وسينما وإنترنت، والتي تُبدي ممانعة شديدة للخروج من نماذج التعميم الشكلي هذه حتى وإن تجاوزها الواقع.
يعلم المشتغلون بقضايا الدراما وكتابة النصوص للشاشات بضرورة خلق بطل سلبي نقيض في مواجهة بطل القصة الأساس، يتقاطعان درامياً وأخلاقياً ليُخرج النقيض أبشع مآزقه النفسية والأخلاقية في تحدٍ حاد يدفع بالبطل إلى ركوب أعلى موجات الأخلاق والجرأة وبذلك تتمكن الأحداث من الذوبان في حلول ما نحو نهاية ما.
وقد وُظّف هذا التناقض مبكراً في الأعمال التلفزيونيّة والسينمائيّة في الغرب لمصلحة أعمال البروباغاندا السياسيّة الموجهة: كاوبوي أمريكي بطل وشجاع ووسيم وخيّر في مواجهة هندي أحمر متوحش وغدّار وبشع وشرير.
النّازي استلم الرّاية من الهندي الأحم ثم سلمها للرّوسي
عشيّة الحرب العالميّة الثانيّة قرر الأمريكيون تسليم النازي الألماني مهمّة لعب دور البطل الشرير من رفيقه الهندي في الأعمال التي أنتجتها الشاشات الغربيّة وقتها – مقدّمة صورة معممة شكليّة يُفرّغُ الأمريكيون فيها غضبهم: الممثل عبر سيلٍ من اللكمات، والجمهور عبر سيلٍ من اللّعنات، بل أن بعض الأبطال الأمريكيين المشهورين حظوا بفرصة توجيه صفعات على وجه الفوهرر شخصيّاً.
هزيمة النازية في تلك الحرب العالميّة، ومن ثم تصاعد التنافس المباشر بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي فيما عُرف بمرحلة الحرب الباردة فرض تلقائياً تسلّم الرّوسي لعب دور الشخصيّة الشريرة مجرماً وقاتلاً وجاسوساً وبارد القلب.
لا شك هنالك مجرمون متحجرو القلوب بين أبناء الشعب الرّوسي سواء في وطنهم أم بين الجاليات الروسيّة في أوروبا والعالم، لكنّهم مجرد نسبة موجودة بمقادير تتفاوت ربما بالزيادة والنقصان كما في كل الشعوب الأخرى.
وعلى المقلب الآخر فتشيخوف ودايتوفسكي وغيرهم من عباقرة الفن والأدب والمسرح والعلوم والموسيقى هم روسٌ ايضاً، وإذا كانت الحرب الباردة وفرت مبرراً أيديولوجيّاً لبناء صورة معمّمة سلبيّة عن الروسي، فما هو المبرر اليوم لاستمرار الشاشات الغربيّة – بعد أكثر من ربع قرن على انتهاء الحرب الباردة – في تقديم ذات التعميم الشكلي المخلّ دون تغيير يُذكر؟
لا شك أن ارتفاع نسبة تمثيل العنصر الروسي في منظمات العالم السفلي في الغرب لا يساعد بمهمة تحسين الصورة عن الروسي الفرد، لكن منظومة الإعلام الغربي نفسها تبدو وكأنها قد استثمرت في هذا المجال وقتاً وعقولاً وأموالاً طائلة عبر عقود على نحو خلق نوعا من كذبة صدّقها الإعلام نفسه ولم يعد يسهل التنازل عنها، لا سيما وأن الأدوات الإخباريّة الأمريكية ما زالت تجتهد في تقديم روسيا كدولة مافيات يحكمها زعيم تخرّج من صفوف الكي جي بي وتتلخص مهمتها في هذا الكوكب بالتلاعب بالانتخابات الأمريكيّة وتوظيف الهاكرز لتدمير معالم (الحضارة) وسلبها إنجازاتها الماديّة.
الروسي شريراً كما كان دائماً
وهكذا ما زالت أحدث منتجات الشاشات الغربيّة تعيد وبكثافة توظيف شخصيّة الروسي (أو الروسيّة) بذات المواصفات السلبيّة بداع أو من دون داع. خذ مثلاً تلك السجينة الروسيّة في مسلسل «البرتقالي هو الأسود الجديد Orange is the new black». الشخصيّة تدعى – بمحض الصدفة – Red – أي الحمراء، وهي تقّدم على أنها تمارس أعمال البلطجة والقسوة في عالم السجن دفاعاً عن مساحتها الخاصة، وهي انتهت إلى السّجن أصلاً نتيجة تورطها وزوجها في صراع داخل أجواء مافياويّة روسيّة شديدة الإجرام.
كذلك فإن شخصية الروسيّ في مسلسل راي دونوفان وفيلم لالاند الأخير لا تخرج مطلقاً عن ذات الأجواء التي كانت في أفلام السبعينات، حتى أنه صار من المعلوم لذوي الأجسام الضخمة والملامح القاسية من مختلف الجنسيّات والسّاعين للفوز بدور أكيد في عمل تلفزيوني أو سينمائي أن إحسان كلمات قليلة من الروسيّة ربما يكون أسرع طريق إلى ذلك.
من لندن أيضاً: جيمس بوند وماك – مافيا
لا تتفرد الشاشات الأمريكيّة بجرثومة التعميم وحدها، فالبريطانيون بدورهم مصابون بذات الداء وقد ورثوا نموذج تلك الكلاشيهات عن الرّوسي كما كان في أيّام الحرب الباردة، واستمروا عليه في الأعمال الشعبيّة كما جيمس بوند وغيره، واليوم يعيدون ذات الشخصية السلبيّة في (ماك مافيا) وهوعمل ضخم تنتجه ال بي بي سي حاليّاً يحكي قصّة شاب بريطاني واعد من أصول روسيّة (يلعب دوره الممثل المعروف جيمس نورتون)، عاش حياته كلّها داخل المملكة المتحدة لكنه يسقط تدريجيأً في شبكة الإجرام العائليّة الروسيّة المستمرة عبر ثلاثة أجيال من مهاجرين روس توارثوا الصنعة أباً عن جد.
«بي بي سي» في (ماك-مافيا) لا تكتفي بوصم الروس عموماً بالتخصص بالإجرام، لكنها تجعل الأمر جزءا بنيوياً من سيكولوجيا الأفراد ذوي الأصول الروسيّة، يلد معهم في جيناتهم، وما يلبث – أيضاً بتأثير البيئة العائليّة المباشرة والمزمنة في صناعة الجريمة – أن تنتهي بهم الأحداث كما الصورة المتوقعة تماماً.
ومما لا شك فيه أن التجارب التاريخيّة مع تلك الشاشات لا تمنح كثير الأمل بالنسبة إلى الشفاء من الجرثومة المستفحلة تلك، خذ مثلاً صورة الشخصيّة العربيّة كما تطرحها الأعمال الدراميّة الغربيّة منذ بداياتها وإلى اليوم، وعلى الرّغم أن العرب ليسوا في عمومهم معادين للغرب، وأن أكثر أنظمتهم متحالفة مع الأمريكي والبريطاني بالذات فإن أغلب الأعمال الغربية قدمتهم إما كأثرياء بلهاء فاسدين تتلاعب بعقولهم النساء، أو كحثالة لصوصاً لا يؤمن جانبهم وينتهون مقتولين أوهاربين من العدالة الغربيّة، بينما تصوّر نساؤهم موضوعاً للمتعة الاستشراقيّة المحضة.
الحقيقة الوحيدة الصارخة وما دام الغرب مستفرداً بامتلاك أدوات إنتاج ثقافة العالم الشعبيّة، فهو سيستمر في تقديم الآخر – من غير ذوي البشرة البيضاء الغربيين حصراً – على نحو سلبي، فتلك هي ضرورات الدّراما والأيديولوجيا وأوهام التفوق معاً، وليس لنا كمستهلكين لتلك الثقافة سوى أن نجاهد لامتلاك ذائقة نقديّة تبحث عن الحقيقة في مواجهة كل هذه التعميمات الشكليّة المنحازة.
إعلامية لبنانية تقيم في لندن
ندى حطيط
* على الرغم من تضليل الاعلام وقلب الحقيقة
(النازيون والروس ) مجرمين وقتلة محترفين.
*ربما المظلوم الوحيد ( الهنود الحمر).
سلام
موضوع جميل غير مالوف
يعري لاول مرة الاتجاهات العنصرية في السينما الغربية عموما والى تعظيم الذات الغربية في الثقافة والفن والادب
شكرا لك ندى على هده الرؤية الفنية للظاهرة المعروفة بالروسفوبيا, الخوف المرَضي من روسيا الدي أصاب أروبا قبل الحرب الباردة ويستمر بعدها.
من عجائب الروسفوبيا أن يُقرن الروس بالنازية وهم أكثر من تأدى من الحرب العالمية الثانية , 26 مليون روسي سقط دفاعا عن أروبا ضد جيوش هتلر الدي كان يرفض تطبيق معاهدة جنيف على الأسرى الروس لأنهم بتقييمه ليسوا بشراُ.
بالمناسبة ,التضحيات الروسية لا نجد لها دكرا في كتب التاريخ بأروبا, حيث يدرس الأطفال إنزال النورماندي كبداية تحرر أروبا على يد الأمريكان الأبطال ولا شيئ تقريبا عن معركة ستالنيغراد التي مهدت لأندحار هتلر…
من المفجع أن ينخرط العرب في الروسفوبيا متناسين مواقف موسكو المشرفة مند العدوان الثلاثي على مصر وليس إنتهاءا بالفيتوات المستخدمة نصرة للحق الفلسطيني بهيئة الأمم.
من ينكرالدور الروسي فليحاول تصورالوضع بدونه. إدا بالفيتو الروسي وش خالصين !
ليس صدفة أن يخف وقع الروسفوبيا في فترة التسعينات أثناء فترة حكم السكير يلتسين بعد فترة البرسترويكا التي لم تكن أقل ترنحاً.
هده روسيا التي يحبها الغرب: بلد سائبة متروكة لعبث الأوليغارشية. كان الغرب يأمل خصخصة قطاع المحروقات حتى يكون له موطء قدم بالساحة الروسية, كان يأمل أيضا أن ينفرط عقد الجمهوريات إلى حدود الأورال وتصبح روسيا قزما بين الأقزام
كل من نوى الأنفصال بقطعة من روسيا وجد الدعم اللازم من أمريكا !
لكن صعود تيار “الناشي” (قومي محافظ) أبطل الأحلام الغربية فعادت الروسفوبيا من جديد.
مثال الدراما موفق ألى حد كبير برأيي فقط نقطة للأضافة: يعلمنا فن كتابة السيناريو أنه لا وجود لشخصية بلون واحد لأن بناء “الكراكتر” يعتمد على قواعد علم النفس, الشخصية تركيب صفات بالضرورة, لا يوجد شرير بالمطلق إلاّ في سيناريوغبيّ .
أو في مقال غربي عن روسيا !
تحليل منطقي و رؤية سيكولوجية تشكر عليها الكاتبة ..